الأزمة الأوكرانية صراع أيديولوجي سلاحه الاقتصاد
أطاحت «انتفاضة» الأوكرانيين بالرئيس يانكوفيتش الموالي لروسيا وأعاد البرلمان الأوكراني العمل بدستور 2004 الذي يعزز من سلطتي البرلمان ورئاسة الحكومة، وأسقط قانون منع التظاهر وأصدر قانونًا بالإفراج عن يوليا تايموشنكو زعيمة المعارضة الأوكرانية إيذانًا بخروج البلاد من الفلك الروسي والدخول في الفلك الأوروبي.
وجاء الرد الروسي ومؤيدوها باحتلال برلمان منطقة «القرم» وتشكيل حكومة جديدة موالية لموسكو، وباستفتاء حول مصير «القرم». لكن لا يبدو أن أمام روسيا الكثير من الخيارات فهي لا يمكنها العودة لأوكرانيا؛ حيث يرفضها الملايين كما أنه لا يمكنها القبول بهذه الهزيمة الإستراتيجية فكان التحرك العسكري الروسي في القرم ردًا محدودًا على خسارة جيوسياسية كبرى.
وبالمقابل لا يبدو أن الفريق الغربي أحسن حالًا؛ فأقصى ما يستطيعه هو معاقبة روسيا دبلوماسيًا وماليًا واقتصاديًا. وهو بصدد نصح أوكرانيا بالتعايش مع فقدان القرم دون الاعتراف بذلك. وما تشير إليه الأزمة الأوكرانية أن تصعيد الروح القومية الروسية سيصبح الأساس الذي ترتكز إليه سياسة مقاومة التقدم الغربي، ولكن العالم ليس بصدد حرب باردة أخرى لأن روسيا أضعف بكثير من تحمل أعباء مثل هذه المواجهة المديدة مع الكتلة الغربية.
شبه جزيرة القرم وعلاقتها بالصراع والشكل القانوني للتدخل الروسي بها
القرم شبه جزيرة تقع في جنوب أوكرانيا، وهي جزء من هذا البلد يتمتع بحكم ذاتي. ولمئات السنين ظلت روسيا مهتمة بالقرم؛ ممرها إلى البحر الأسود، ومع أن روسيا رغبت بضم القرم إليها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي إلا أنها بقيت أوكرانية.
تتواجد ثلاث إثنيات في شبه الجزيرة هذه: أوكرانيون في الشمال وروس في الجنوب وتتار في الوسط. وهؤلاء عانوا من حكم الرئيس جوزف ستالين ومن الحقبة الروسية برمتها وهناك قاعدة للبحرية الروسية في القرم و من هناك يمكن لهذه القوات البحرية أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط وباتت القرم اليوم تحت السيطرة الكاملة للقوات الروسية.
بالنسبة للشكل القانوني للتواجد الروسي؛ تقول روسيا أنه يحق لها إبقاء 25 ألف جندي من قواتها على شبه الجزيرة. بينما تقول السلطات الجديدة في أوكرانيا أنه لا يوجد مثل هذه الاتفاقية وتواجد القوات الروسية في القرم عمل عدائي. وهذ يدل على أن الصراع الروسي الأوكراني ليس صراعًا المقصود به أوكرانيا؛ ولكنه صراع أيديولوجي بين الاشتراكية الروسية والرأسمالية الغربية.
الحديث عن اندلاع حرب باردة ثانية بات غير واقعي
تذكر الأزمة الأوكرانية بالفعل بحقبة الحرب الباردة، وواشنطن أصبحت مدركة بشكل متزايد بأن السياسة الخارجية التي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تتعارض مع مصالحها، ويرى ديمون ويلسون نائب رئيس مجموعة الأبحاث «مجلس الأطلسي» أن السياسة الخارجية الحالية للروس تقوم على استعادة بعض النفوذ والهيبة الروسية في العالم، وينتهج بوتين هذه الإستراتيجية عبر اختبار حدود التأثير الأميركي.
والإدارة الأميركية لا تخفي أيضا انزعاجها من الطموحات الجيوسياسية التي عادت موسكو للعمل عليها، وهو موضوع حساس أساسا منذ حرب صيف 2008 في جورجيا والدولة التي أرادت الخروج من فلك سياسة موسكو.
و بالتالي تتجه سياسة بوتين، وبعد ثلاث سنوات من التهدئة النسبية مع واشنطن خلال فترة تولي ديمتري ميدفيديف السلطة، إلى وضع حدٍ لهذه السياسة الهادئة بعد عودته إلى الكرملين، ويبدو أن روسيا تتجه مجددا إلى الصراع مع الحرب على كل ملف مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل العديد يسأل هل العالم بصدد الحرب الباردة الثانية؟
نجد أن الحديث عن الحرب الباردة الثانية غير واقعي للأسباب التالية:
أولا: التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا والذي يعد صداما صريحا مع الإدارة الأمريكية سوف يكلف روسيا غاليا دبلوماسيا واقتصاديا، فإذا نظرنا إلى ردود الفعل من معسكر الرأسمالية الغربية لوجدنا الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي قد هددا روسيا بعقوبات اقتصادية قاسية في حال تدخلت في أوكرانيا.
ثانيا: كما هددت واشنطن باستبعاد روسيا من مجموعة الثماني، الأمر الذي قد ينعكس سلبا على الاقتصاد الروسي الذي يواجه صعوبات فعلية؛ فالاقتصاد الروسي غير فاعل خلال الفترة الراهنة؛ فدورة سوتشي للألعاب الأولمبية كانت باهظة الكلفة على روسيا، وأي مغامرة عسكرية أو توتر في العلاقات مع الغرب قد يكلف روسيا أكثر مما تستطيع تحمله على المدى البعيد، وبالتالي فإن ضلوع روسيا أكثر من ذلك في الأزمة الأوكرانية يجعل دفة الخطر الرئيسي في النهاية من نصيب روسيا نفسها.
التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية ما بين تحطيم الحلم الروسي والحصار الاقتصادي لأوكرانيا
وصول قادة متمسكين في المقام الأول بربط مستقبلهم الأوكراني بأوروبا وليس بروسيا يعد مشكلة جدية للرئيس فلاديمير بوتين الذي يحلم بإبقاء أوكرانيا في فلك روسيا، ولكن المعطيات الجديدة في أوكرانيا «البلد الشقيق لروسيا» حسب تعبير فلاديمير بوتين تنهي حلم الرئيس الروسي بتشكيل اتحاد اقتصادي للدول التي كانت في بوتقة الاتحاد السوفيتي السابق لمنافسة، ليس فقط الاتحاد الأوروبي، بل والولايات المتحدة والصين.
وللتأثير على سياسة أوكرانيا تملك روسيا وسائل عدة بحكم الروابط القوية جدا بين اقتصادي البلدين منها:
- سياسة التهديد الناعم حيث أدانت موسكو التدابير المعادية لروسيا التي اتخذتها السلطات الجديدة في كييف مع الحديث عن الروابط الاقتصادية والمصالح المشتركة بين البلدين.
- سياسة التهدئة حيث أدانت موسكو المعزول يانكوفيتش ووصفته بالدكتاتوري وأساليبه بالإرهابية في أوكرانيا.
ولكن كل هذه المحاولات باتت فاشلة مما دفع روسيا للتهديد بأنها ستزيد الرسوم الجمركية على المنتجات الواردة من أوكرانيا إن اقتربت كييف من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يهدد بانقطاع الروابط الاقتصادية بين روسيا و أوكرانيا.
ولكن إدارة موسكو أغفلت أن أول نتائج تغيير الحكم في كييف ستكون على توقيع اتفاق أوكراني مع الاتحاد الأوروبي، بل والتخلي عن اتفاق التقارب مع موسكو الذي وقعه الرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش. وفي هذا السياق قال الرئيس الأوكراني بالوكالة ألكسندر تورتشينوف أن الاندماج الأوروبي يشكل أولوية لأوكرانيا ودعا موسكو إلى احترام «الخيار الأوروبي» لأوكرانيا.
وفي النهاية يمكن القول أن المشروع الروسي بتشكيل اتحاد اقتصادي جديد، والذي يعتبر من الأهداف الرئيسية للرئيس بوتين خلال سنوات حكمه الـ14، قد يجرد من معناه في غياب أوكرانيا التي تعد 46 مليون نسمة وتملك قدرات كبيرة زراعية وصناعية. وبالتالي فإن المؤشرات تدل على أن الأزمة ذاهبة إلى مزيد من التعقيد والحلول تبدو أكثر تعقيدا، خاصة أن العالم برمته الآن موجود في الملعب الأوكراني ولا أحد يمكنه أن يدعي استحواذه على الكرة خاصة بعد استفتاء القرم.