عدي صدام حسين: هكذا كانت كرة القدم في العصور الوسطى
في يوم الثلاثاء، الـ 22 من يوليو/ تموز 2003، كان نحو 200 جندي أمريكي من الفرقة 101 المحمولة جوًّا في طريقهم لتنفيذ عملية نوعية بالموصل. العملية باختصار هي تصفية «الليثين»؛ قُصي وعُدي، نجلي صدام حسين.
بعد بضع ساعات من تبادل إطلاق النار، أمر قائد الفرقة الأمريكية بدك البناية التي يختبئ فيها الشقيقان بـ 10 صواريخ مضادة للدبابات. ليلقى الأخوان حتفهما مباشرة، وتنتهي العملية الأمريكية بنجاح.
بعيدًا عن هذا المشهد، وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لتصفية قُصي وعُدي، كان هذا الخبر وحده كفيلًا بفَتح الصندوق الأسود لكرة القدم العراقية، ذلك الصندوق الممتلئ بالفظائع، المآسي وكذلك المبالغات. فما القصة؟
السيطرة «دون مُعلم»
للمفارقة، في نفس التاريخ أعلاه، لكن قبل 24 عامًا، بالتحديد في 22 يوليو/ تمُّوز 1979، كان صدام حسين يُنفِّذ ما عُرف لاحقًا بحادثة «قاعة الخلد»، حين قام بإلقاء القبض على مئات من أعضاء حزب البعث العراقي بعد إعلانه رئيسًا للبلاد. كانت هذه الحادثة تحديدًا إعلانًا رسميًّا عن سيطرته التامة على البلاد، وأداة مُقنعة لبث الخوف في نفوس المُعارضين المحتملين.
في 1980، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وبحلول عام 1984، كانت العراق قد خسرت المئات من شبابها على خط القتال، وانهارت الروح المعنوية للشعب، وهنا ظهر «عُدي»، بطل قصتنا، إن جاز وصفه بالبطل.
في كتابه «بعث العراق: سلطة صدام قيامًا وحطامًا»، يروي الكاتب اللبناني «حازم صاغية» تفاصيل تصدُّر قصي وعدي للمشهد العام في العراق. يقول صاغية: «يبدو أن تنظيم أمر عدي وقصي قضى بمنح الأول شئون الثقافة والشبيبة والرياضة والإعلام، وإيكال كل ما يتصل بالأمن والحماية للثاني».
وكأي حاكم مُنفرد بحكمه، اعتقد صدام حسين أنه من خلال الرياضة قد يستطيع استعادة الحماسة القومية لدى الشباب، وهي المُهمة التي أوكلت لـ «عُدي» حين بلغ عامه الـ 20 فقط.
بالفعل، بحلول 1984، أعلن تولي «عُدي»، الابن الأكبر لصدام حسين، منصب رئيس اتحاد كرة القدم العراقي، ورئيس اللجنة الأولمبية العراقية، إضافة لبعض المناصب الثقافية البارزة الأخرى. ومن هنا بدأ كل شيء.
نجل الزعيم
في 2004، نشرت «أسوشيتد برس» تقريرًا مصورًا لا يُمكن وصفه إلا بالمرعب، تظهر خلاله أدوات التعذيب التي وُجدت داخل مقر اللجنة الأولمبية العراقية، والتي كانت تُستخدم طبقًا لأحد الشهود في عقاب الرياضيين الذين فشلوا في تحقيق نتائج تُرضي عُدي. في الواقع، ربما تبدو تلك مبالغةً، فما أظهرته هذه الصور يليق بممارسات تمت في العصور الوسطى، لذا دعنا نبدأ بما يعد أقل فظاعةً.
في عام 1982، أذاعت الصحف العراقية خبر تخرُّج «عُدي» من الصف السادس العلمي، وبعد ذلك بأربع سنوات تخرَّج أولًا على دفعة الهندسة المدنية بجامعة بغداد، فكانت اللبنة الأولى في بناية سلطته، طبقًا لحازم صاغية، تأسيس «نادي الرشيد الرياضي»، الذي نجح في حصد البطولات منذ تأسيسه في 1983، بأمر وتمويل مباشر من عدي.
أثناء إعداده لكتابه «فريق بغداد: قصة كرة القدم العراقية»، استمع الصحفي الإنجليزي «سيمون فريمان» لعشرات الشهادات بحق عُدي. كان أهمها بهذا الصدد، شهادة الراحل «عمو بابا»، أحد أهم مدربي العراق، والذي اعترف أن «عُدي» طلب منه إعداد قائمة بأفضل لاعبي كرة القدم بالعراق، بغرض ضمهم لنادي الرشيد الرياضي، دون أن يحمل هم رغبة اللاعبين أو الأندية التي يلعب لها هؤلاء النجوم.
بالفعل أعَد «بابا» قائمةً من 26 لاعبًا، نجح «عُدي» في ضمهم طوعًا أو كرهًا. لينجح الفريق، الذي كرهته الجماهير العراقية، في التتويج بثلاثة ألقاب للدوري المحلي، وثلاثة ألقاب للأندية العربية.
لكن هذا النجاح لم يدُم طويلًا، لأنه في 1990، تَم حَل الفريق، وذهبت ألقابه ولاعبوه لنادٍ آخر، والسبب طبقًا لـ «شرار حيدر»، أحد لاعبي الرشيد السابقين، كان استياء صدام حسين من الرمزية التي تحملها كراهية الجماهير للفريق الذي يُمثِّل النظام.
بطل خائف
في الثمانينيات امتلكت العراق جيلًا ذهبيًّا في كرة القدم، على رأسه المهاجم العبقري أحمد راضي، الذي سجل هدف العراق الوحيد بكأس العالم 1986، وحصد عدة ألقاب مثل: ذهبية الألعاب الآسيوية عام 1982، كأس الخليج في ثلاث مناسبات، وكأس العرب في مناسبتين. وفي مُعظم هذه النجاحات نُسب الفضل بكل تأكيد لحكمة «الأستاذ عُدي»، الذي لم تطأ قدمه ملعب كرة قدم من قبل، ويعتقد أنه لم يكن يفقه شيئًا عنها.
على كُلٍّ، امتلك عُدي وجهة نظر، سادية، لكنها تظل وجهة نظر. وهي باختصار، دَفع اللاعبين لأقصى حدود طاقاتهم، خاصةً الموهوبين منهم، الذين يمتلكون القُدرة على إنجاح الفريق. لكن المشكلة، كانت أن هذا التحفيز كان عبارة عن تهديدات صريحة للاعبين بالسجن، وأحيانًا القتل في حالة الخسارة.
على سبيل المثال، روى «ماجد أبو الخير»، حارس مرمى منتخب الشباب العراقي، الذي شارك في بطولة دولية في تايلاند عام 1999، أن عُدي هدَّد اللاعبين والمدير الفني بعقاب عسير حال خسروا أيًّا من مواجهاتهم ضد اليابان وكوريا الجنوبية. وبالطبع، خسر الفريق المباراتين، بسبب الخوف الذي تملَّك اللاعبين.
في الواقع، لم يسجن عُدي أيًّا من أعضاء الفريق طبقًا لتقرير نشرته «واشنطن بوست»، لكنه عوضًا عن ذلك، اقتيد 24 لاعبًا لمزرعة مملوكة للنظام، حيث أجبروا على تنظيفها وإطعام ماشيتها لـ 12 ساعةً يوميًّا طوال 25 يومًا قبل أن يتم إطلاق سراحهم.
وفي تقرير آخر مُفزع نشرته «جارديان» البريطانية، حكى اللاعب العراقي «ياسر عبد اللطيف» أنه قام بضرب أحد الحكام في مباراة بالدوري، لم تكن عقوبته الإيقاف، بل السجن والتعذيب، بل إرغامه على العودة للعب مجددًا عقب استعادة عافيته وإلا فسيتم اعتباره معاديًا للنظام. وتلك جريمة عقوبتها الإعدام.
حقيقةً، طبقًا لكل الشهادات التي وردت عن هذه الحقبة، كانت استراتيجية عُدي واضحة، الفوز يعني النجاة وأحيانًا المكافأة والتكريم، أما الخسارة، فتعني التعرُّض للعقاب الذي كان يتم على النحو التالي: التجمُّع داخل مقر اللجنة الأولمبية، ثم إمضاء فترة العقوبة التي يُقررها عُدي بنفسه بسجن «الرضوانية» عادةً، وكانت أساليب العقاب داخل السجن متنوعةً، إما معنوية بحلق رأس اللاعب المُعاقب، أو جسدية عبر الجلد والضرب وركل كرات إسمنتية لساعات.
لم يكن هناك مهرب من هذا الجحيم، لا يُمكن للاعب التوقُّف عن تمثيل المنتخب بمحض إرادته، ولا يُمكن للاعب التفوُّه بكلمة واحدة ضد هذه الممارسات – حتى بعدما فتح عُدي الباب لاحتراف اللاعبين مقابل 40% من رواتبهم السنوية – خوفًا على ذويهم الذين يعيشون بالعراق في ظل حكم نظام صدام.
هنا، يجب أن نطرح سؤالًا منطقيًّا: هل يمكن أن تكون كل هذه الادعاءات وغيرها كاذبة، خاصة أن مُعظم المصادر إما أجنبية أو لأشخاص ادعوا تعرضهم لمثل تلك الممارسات الوحشية؟
نصف الحقيقة
منطقيًّا، تُثير صيغ وتوقيتات نشر التقارير الصحفية والمؤلفات الغربية هذه القصص بعض التساؤلات حول نزاهتها، والتي خرجت جميعها للنور بمجرَّد سقوط نظام صدام.
من جهة، ربما لأن العالم لم يكن يعرف حقيقة ما يدور من انتهاكات بحق هؤلاء اللاعبين، كما ادعى وفد من الفيفا، بعد رحلة تقصٍّ في بغداد عام 2001، ومن جهة أخرى ربما لأن بعض الأفراد أرادوا غسل أيديهم من السمعة السيئة التي طالت النظام، عبر الظهور كأبطال تحمَّلوا قسوة ووحشية عُدي.
طبقًا لـ «معد إبراهيم حميد»، اللاعب العراقي السابق، لم تكن القصص أعلاه سوى مبالغات من أصحابها، حيث يدعي أن «عدي» قام بمنح اللاعبين الهدايا والمكافآت عند الفوز، وتهديده لهم بالتعذيب قبل المباريات لم يتعدَّ كونه تهديدًا. أما من تعرَّضوا للسجن، فكانوا هؤلاء اللذين قاموا بأفعال غير مسئولة مثل: الزنا، شرب الكحول، أو الأداء السيئ، كما أكَّد أنهم عادوا مُجددًا للعب عقب قضاء فترة وجيزة بالسجن.
في لقاء تلفزيوني، حاول «عدنان حمد»، تبرئة ساحة عُدي، مؤكدًا أنه لم يسبق أن تعرَّض للتعذيب على يد عدي أو رجاله، وبعد محاولات للمراوغة والتلاعب بالكلمات، أقَرَّ الرجل الذي يُقال إنَّه انتمى لحزب البعث العراقي، وحصل على معاملة خاصة من النظام، أنَّه في بعض الاستثناءات، وبنص تعبيره «مو الكل»، كان سجن الرضوانية مصيرًا انتظر عددًا من لاعبي كرة القدم العراقيين خلال الفترة التي دامت قرابة عقدين من الزمن، والتي انتهت مع انهيار نظام صدَّام حسين عام 2003.