المُطارَد المُطارِد: درس «عدي التميمي» في صناعة الرمز
قصاصة ورقيةٌ بيضاء مسطَّرة، اقتُطِعَت للتو من كتاب التاريخ، تنوءُ سطورها حتى تكاد أن تنثني وتتكسر بثقل ما حملته من كلمات، خطَّتها يمينُ شاب فلسطيني من أبناء القدس أولي القوة والعزم.
إنها وصية شهيد جديد من أبناء القدس، عدي التميمي، ابن مخيم شعفاط القريب من القدس، أو مخيم الشهداء كما وصفه عدي في تلك الوصية، وهو الوصف الذي زاده عدي استحقاقًا.
كتب عدي وصيَّته تلك، التي ستسهرُ جرَّاءها أجهزة العدو الأمنية وتختصم شهورًا، قبل 9 أيام كاملة من استشهاده، وفي أعقاب هجومه الفدائي الفريد على الحاجز العسكري الإسرائيلي. أكدت الوصية أن عدي قد خطط بشكل فريد ونبيل لما فعله، وأنه كان يعرف يقينًا أن مصيره الحتمي هو الاستشهاد عاجلًا أو آجلًا، وأنه بالطبع لن يشهد لحظة النصر التي تداعب عقول وقلوب أمة كاملة، لكنه لن يكون مجرد خطوة خاطفة في طريق الألف ميل، إنما سيكون وثبةً تقود وثبات.
وكأنَّ عدي التميمي وهو يكتب هذه الوصية العظيمة كان يعتقد أن الشاعر العباسي أبا تمام قبل اثني عشر قرنًا كان يقصده هو بقوله:
إنْ أنْ قد آنَ أوانه!
على مدى أكثر من أسبوع شهدت القدس وأكنافُها مطاردةً استثنائية سيسجلها تاريخ الكفاح الفلسطيني. كرَّست إسرائيلُ المئات من جنودها المدربين، وجميع وسائل المراقبة والتتبع والتجسس التي تمتلكها، والتي تتفوق بها على أكثرية دول العالم، من أجل العثور على عدي والانتقام منه، وجعله عبرةً لكل من تسوِّل له كرامته ويقظته من أبناء القدس والضفة أن ينفض عن بندقيته غبارَ سنوات الخذلان والهوان والتنسيق الأمني مع العدو، ويعود إلى الساحة. لكن أذاقهم عدي المرارة مضاعفة ومُركَّزة.
فالعملية الفدائية الجريئة التي ترجَّل خلالها بثبات من سيارته، وهاجمَ حاجزًا عسكريًّا من المسافة صفر، فأردى جنديًّا، وأصاب آخريْن، ونجح في الانسحاب رغم وجود العديد من الجنود المدججين بالسلاح كما أظهرتْهم عدسة الكاميرا التي صورت العملية، تمثل خرقًا كبيرًا لمنظومة الأمن الإسرائيلية، في توقيت خطير للغاية، حيث عادت الضفة الغربية خلال الأشهر الماضية إلى واجهة العمل الفدائي الفلسطيني المسلح، وأصبحت مناطق كجنين ونابلس والقدس محاضن للمقاومة الفلسطينية، التي ظنَّت إسرائيل أنها قد حبستها في قُمقم غزة المحاصَرة، والمأزومة تكتيكيًّا وإستراتيجيًّا.
ثم جعل عدي الخرقَ الأمني خرقَيْن أو أكثر، فظهر بسلاحه على حين غرة أمام بؤرة استيطانية إسرائيلية، لينفذ عملية هجومية جديدة، ويسجل في فصل الختام أنه قد حاصرَ حصارَه، وطاردَ مطارديه.
اقرأ: عرين الأسود: عودة المقاومة في الضفة بين جنين ونابلس.
شهيد أيقوني
يحتقن تاريخ الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الاستئصالي بعشرات الآلاف من الشهداء، الذين نعرف كأمة عربية وإسلامية بعض أسمائهم، ونجهل الكثرة الكاثرة منهم، وإن بالطبع آمنَّا يقينًا أن أسماءهم جميعًا وأعمالهم محفورةٌ في الملأ الأعلى. فلماذا انضمَّ عدي التميمي إلى قائمة مشاهير الشهداء وأيقونات الكفاح؟ ما المختلف في هذا الشاب ذي الاثنيْن والعشرين ربيعًا؟
للأسف، في عالمنا البئيس الذي يعبدُ الصورة، ويُقدِّس المظاهر والمجد الفرداني، وتتوه حواسنا وأدمغتنا فيما يزدحم به من تفاصيل وملاهٍ وآلام، ليس كل الموت سواء. فأكثر الموت النبيل يمر مرورًا عابثًا، رقمًا في نشرة أخبار، أو منشورًا عابرًا على موقع للتواصل الاجتماعي، وأمسى عاجزًا عن انتزاع مثقال ذرة من انتباه عالم سائل، غائم الوعي، وساقط المعنى. لكن يحدث من حين لآخر فلتات تكسر تلك القاعدة، وقد صنع عدي التميمي فلتَتَه على عينه، فجرت بأعين العناية الإلهية إلى أركان الأرض، واستوتْ في أعماق أبناء شعبه وأمته، وقال بُعدًا للقوم الظالمين.
كل تفصيلة في القطعة الفنية الاستشهادية التي أبدعها عدي، وأتمتها له الأقدار، قد أسهمت في صناعة الرمز. في المقدمة، سماته الشخصية كشاب رياضي حسن الطلعة، وحداثة سنه التي تجعل من تضحيته، واختياره طريق الاستشهاد، نبلًا يفوق الوصف، وكرامة في زمن ندر فيه الأولياء.
اختار عدي توقيتًا حساسًا، حيث تحاول الضفة مقطَّعة الأوصال أن تفيق من موتها السريري، وانتقى لها هدفًا عسكريًّا مهمًّا في جوار القدس، أصل القضية وساحتها التي تشدُّ الرحالَ إليها والقلوب والأرواح والحواس، وكفلت له شجاعته في الهجوم وبراعته في الانسحاب أن ينتفض له أبناء القدس ويشتتون له طاقات العدو الذي يطارده بشراسته، حتى يشرع العشرات منهم في قص الشعر بشكل تام تضليلًا للعدو ولعملائه، فلا تصل أيدي العدو إليه لأيام متواصلة قبل أن تصل يده هو إلى عدوه تارة أخرى.
اختُتِمَ السيناريو الذي خطَّه الشهيد بدمائه وروحه، وفي مفارقة بارعة تستحق الوقوف أمامها، بكاميرا المراقبة الصهيونية التي سجَّلت رغم أنفها لحظات الملحمة الأخيرة في حياة عدوها عدي، وهو ينقض بمسدسه على حُرَّاس المستوطنة، بينما يتلقَّى زخات رصاصاتهم الواحدة تلو الأخرى بصدره العاري، ومع ذلك يواصل إطلاق نيرانه كأنَّهُ تجسُّدٌ تامٌّ لأبيات شاعر العربية الأول، المتنبي، قبل 11 قرنًا.
ثم كانت القطعة الأخيرة في (بازل) الأيقونة، والتي أتمَّت جمالَها وعنفوانها، هي تلك الوصية الصادقة التي خطَّها بأنامله، وأودعها في كل عقلٍ وقلب حي، وحمَّل جيله من شباب القدس والضفة أمانة تحقيقها.
سكنت أنفاسُ عدي على أرض وطنه الظمأى، التي لم ترتوِ بعدُ من دماء نبلائها وأشرافها، واختلطت التعازي بالتهاني في صخب وداع عنقاء فلسطينية جديدة، لن تلبث أن تخرج من رمادها، فنرى عشرات المواليد الفلسطينيين تُزيَّنُ شهادات ميلادهم باسم (عدي) ويمضون على دربه، بارِّين بوصيَّته.
وقد نشاهد عما قريب بطولات في ساحة النزال لمولود في رحم الغيب سيحمل اسم (كتائب الشهيد عدي التميمي) أو سلسال ذهبي من العمليات الفدائية التي تبايع الشهيد وتتقصَّى خُطاه، والأهم، أن ما فعله عدي – وأترابه من المقاومين الجدد خلال الأسابيع الماضية في القدس وجنين ونابلس – أشبه بصدمة إنعاشية كهربائية تلقتها الضفة الغربية، علَّها تستعيدُ انتظام نبضات قلبها على موجة الجهاد والنضال، وتتخلص عمَّا قريب من بؤر الخيانة والانهزامية، بعد أكثر من عقد ونصف من التدجين والتنسيق الأمني مع العدو.