«ما عداوة إلا بعد محبة»: لماذا تكره الإمارات الإخوان المسلمين؟
في اللحظة التي كانت فيها جماعة الإخوان المسلمين تتربع علي عرش أكبر الدول العربية، حيث يتولي «محمد مرسي» رئاسة مصر، كانت السلطات الإماراتية تعلن اعتقال مصريين منسوبين إلي الجماعة علي خلفية تهم تتعلق بمساس هؤلاء بأمن البلاد، وقد استمر هذا النهج لاحقا إذ قادت الإمارات جهودا دؤوبة للقضاء علي الإخوان، فنجحت في الإطاحة بإخوان مصر، ودعمت كل من يمكن أن يواجه فروع الإخوان في كل زمان ومكان.
نحاول خلال هذه المساحة تقديم صورة لهذا الصراع الإماراتي مع الإخوان المسلمين عن طريق توضيح الخلفية التاريخية للعلاقات بين الطرفين، وكيف ظهر الإخوان في الإمارات، والدوافع التي تحرك الإمارات للاستمرار في مواجهتهم وتوسيع جبهة المواجهة معهم، بالإضافة إلى الوسائل التي اتبعتها الإمارات خلال هذا الصراع.
العصر الذهبي للإخوان في الإمارات
اختلفت المصادر في تحديد البدايات الحقيقية للإخوان المسلمين في الإمارات؛فمنها ما أعادها إلى ما قبل استقلال البلاد في فترة الخمسينات والستينات، ومنها ما أرجعها إلى أواخر الستينات، و منها ما أرجعها إلى منتصف السبعينات. لكنهم جميعا قد اتفقوا على أن دعوة الإخوان المسلمين قد أتت من خارج الإمارات؛ سواء على يد أعضاء جماعة الإخوان المصرية الذين خرجوا إلى بلاد الخليج بعد الصدام مع عبد الناصر، أو بعد عودة بعض الطلاب الإماراتيين الذين درسوا في مصر والكويت وتأثروا بأفكار الجماعة.
وأيّا ما تكون فترة البداية الحقيقية لأفكار الجماعة، فإن البداية المؤسسية عبر إنشائهم لـ«جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي» قد تم في 1974. وقد انتمى إلى الدعوة عدد من الأمراء والمقرّبين من العوائل الحاكمة في الإمارات، مثل سلطان بن كايد القاسمي ومحمد بن خليفة آل مكتوم الذي تولى منصب رئيس أول مجلس إدارة للجمعية. بل إن حاكم دبي في ذلك الحين ونائب رئيس الإمارات، راشد بن سعيد آل مكتوم، قد تبرع بإنشاء فروع الجمعية في إمارات دبي ورأس الخيمة والفجيرة.
عمل الإخوان منذ ظهورهم في الإمارات على الانتشار في الأوساط الشبابية والطلابية، وفي ذلك يقول الأستاذ سالم النعيمي، الكاتب والباحث الإماراتي، عنهم «إنهم كانوا يهدفون إلى استقطاب الطلاب الأصغر من خلال زرع أدبياتهم عبر المناشط الدراسية والتعليمية». ومع حلول أواخر الثمانينات كانوا قد تمكنوا بالفعل من السيطرة على المؤسسات التعليمية وجامعة الإمارات، وأصبحوا القوة الأكبر فيها وعملوا على مواجهة التيارات اليسارية والقومية.
انخرط الإخوان المسلمين كذلك في الحكومات الإماراتية منذ البداية؛ فتم تعيين سعيد عبد الله سلمان وزيرا للإسكان في 1971، وتم تعيين محمد عبد الرحمن البكر وزيرا للعدل والشئون الإسلامية والأوقاف في 1977، ثم تولى سعيد عبد الله سلمان وزارة التربية والتعليم في 1979، ورئاسة جامعة الإمارات بعد ذلك بعامين.
ومن أكبر الدلائل على مدى نفوذ الإخوان خلال هذه الفترة هو إقناع الوزير سعيد عبد الله سلمان رئيس الدولة بمنع الاختلاط في الجامعات، وهو الأمر الذي أُقِرّ وظل معمولا به بعد ذلك. كما أن الجماعة قد عملت على وقف حصص الموسيقى وحرّضت الأهالي وأبنائهم على عدم حضورها حتى تم إيقافها.
الثمانينات وأفول نجم الجماعة
بدأ نفوذ الإخوان يتراجع وتتزايد مشكلاتهم في النصف الثاني من عقد الثمانينات؛ ففي 1987 بدأت الجماعة تفقد سيطرتها على قطاع التعليم مع صدور قرار بنقل عدد من موظفي إدارة المناهج التابعين أو المقربين للجماعة. وبعد ذلك صدر قرار مشروع التعليم الأساسي لطلاب جامعة الإمارات، الذي كان يعني ضمنا إعلان فشل سياسات التعليم التي اتبعتها الجماعة؛ حيث كان المشروع يتضمن دروس تقوية في بعض المواد قبل الالتحاق بالجامعة. وتتابع تدهور نفوذ الجماعة؛ فتم إيقاف إصدار مجلة الإصلاح التابعة لهم عن الصدور مدة 6 أشهر منذ أكتوبر 1988.
وجاء الحدث الأبرز في هذا الإطار في 1994؛ حيث تم تجميد أنشطة الجمعية الخارجية، ثم تم إصدار قرار بحل مجلس إدارة الجمعية على خلفية اتهامات مصرية بتمويل إخوان الإمارات لأشخاص متورطين في أعمال عنف في الأراضي المصرية، وهو ما أثبتته لجنة شُكِّلت لغرض التحقيق في هذا الأمر. غير أنه تم تشكيل لجنة أخرى في إمارة دبي بعد التماس للجماعة، وتم على إثره تبرئة جمعية الإصلاح من التهم السابقة.
ومن الجدير بالذكر أنه أثناء الفترة التي تم فيها حل مجلس إدارة الجمعية، بقي فرع إمارة رأس الخيمة مستقلا تحت حماية شيخ الإمارة، صقر بن محمد القاسمي. غير أن هذا الأمر قد تسبب في مشكلات بين رأس الخيمة وأبوظبي، خاصة في 1996 حين صدرت مذكرة توقيف بحق احد زعماء الجمعية ودعمه القاسمي ورفض إقالته من منصبه في فرع الجمعية بالإمارة.
وفي 2001، تم توجيه اتهامات إلى الجماعة بتشكيل تنظيم سري عسكري. وبعد ذلك في 2003، التقى نائب ولي عهد أبو ظبي في ذلك الحين، محمد بن زايد، مع منتمين للإخوان في قطاع التعليم وحثّهم على الاختيار بين التخلي عن انتمائهم الفكري للإخوان، أو وقف الترويج لأفكارهم، أو الحفاظ على معتقدهم الفكري لكن مع نقلهم خارج قطاع التعليم، لكنهم رفضوا.
فبدأت عملية نقل واسعة للمنتمين والمتعاطفين مع الجماعة إلى دوائر أخرى غير وزارة التربية والتعليم التي كانت تُعَد المعقل الرئيسي لهم.
وقد ظهرت في 2006 ردود أفعال الجماعة على عملية إبعادها عن القطاع التعليمي؛ فقامت بتجمعات احتجاجية ومقالات على الإنترنت وأشياء مشابهة، غير أن هذا لم يغير من الأمر شيئا، بل إن التضييق عليهم قد دخل مرحلة جديدة أكثر قسوة من ذي قبل مع ظهور الربيع العربي وما تبعه من صعود لتيار الإخوان المسلمين إلى سُدّة الحكم في عديد من البلدان.
لماذا يكره حكام الإمارات الإخوان ؟
مع صعود نجم الإخوان المسلمين بعد نجاح بعض الثورات الشعبية في إسقاط رؤوس أنظمتها، دخلت المواجهة بين الإمارات وتيار الإخوان المسلمين مرحلة جديدة أكثر قوة.فقبل الربيع العربي، لم تكن حدة المواجهة الإماراتية مع الإخوان المسلمين بهذه الحدة؛ إذ أن ضعف آمال الجماعة في الوصول إلى الحكم في بلدان كمصر كانت تعطي الإماراتيين فرصة للانشغال بقضايا أخرى. لكن مع سقوط بن علي وحسني مبارك برز الخطر الإخواني بشكل كبير على الإمارات.
وقد جاءت هذه المواجهة مدفوعة من قِبَل الإمارات بالعديد من الأسباب والمخاوف التي يمكن تلخيصها في عدة نقاط.
1. الخبرة السيئة للدولة مع الإخوان ومعارضة الأخيرة لمشروعات التحديث
تتمتع الإمارات بخبرة سيئة مع الإخوان؛ حيث سَمَحَ لهم التسامح معهم في الماضي في توسيع نفوذهم بشكل كبير حتى كادت تصبح شريكا غير رسمي في الحكم من خلال حملات الضغط التي مارستها على الحكومة، وهو الأمر الذي دفع الحكَام إلى الاقتناع بخطورة هذه الجمعية. ويدعم من هذه النظرة إلى خطورتهم أن تراجع النفوذ الإخواني في البلاد قد أدّى إلى نتائج جيدة ونجاحات كبيرة في مشروع التحديث؛ إذ أن إخوان الإمارات كانوا يعارضون أشياء كالموسيقى والرقص والشاليهات، وكانوا يدعون إلى ترشيد السياحة، وهو الأمر الذي لا يخدم الرغبة في تحديث البلاد، خصوصا في إمارة كدُبي.
2. مركزية الدولة وطبيعتها الأمنية
ساهمت كذلك طبيعة الدولة في الإمارات، بل وفي دول الخليج بشكل عام، في ترسيخ النظرة السلبية للجماعة؛ فطبيعة الدولة وتنظيم مؤسساتها ومركزية الحكَّام تجعل الإمارات تتحسس من وجود أي تنظيم مشابه لتنظيم الإخوان، أو حتى منظمات حقيقية للمجتمع المدني. خصوصا وأن هذا التنظيم يعمل على التغلغل في أركان ومؤسسات الدولة بما يهدد سيطرة الحُكَّام على إماراتهم.
فحتى قطر التي تدعم الإخوان بشكل كبير كان التنظيم قد حل نفسه فيها بشكل هادئ منذ أواخر التسعينات، وهو ما ساهم في جعل علاقتها بالتنظيم جيدة، عكس بلدان أخرى كالإمارات والتي برز الصدام فيها وأصبح أساسا للعلاقات.
تبرز في هذا الإطار أيضا الطبيعة الأمنية التي أصبحت تسيطر على الإمارات وحوّلته إلى ما يشبه الدولة البوليسية، حتى إذا حاولت إظهار وجهٍ منفتحٍ وقامت بعقد الشراكات مع مؤسسات عالمية عريقة كاللوفر وجوجنهايم وجامعة نيويورك. وهي عقلية لا تقبل أقل القليل من النقد للدولة ونظام الحكم، وأدّى ذلك إلى حساسية برزت تجاه الإخوان خشية تصاعد مطالبات الإصلاح بالتزامن مع المطالب في بلدان الربيع العربي. والعديد من أعمال السلطات الأمنية التي توضح هذا الهوس الأمني يمكن الرجوع إليها في تقرير منشور على موقع المونيتور.
3. الخوف من ولاء إخوان الداخل لإخوان الخارج
تُعتَبَر مسألة البيعة ووجود ولاء للأفراد بعيدا عن الولاء للدولة وحكّامها هي الأخرى واحدة من أهم دوافع الإمارات، وأنظمة أخرى، للمواجهة مع تنظيم الإخوان. خصوصا إذا كان قد تمت مبايعة قيادات الجماعة الأم في مصر وأعضاء التنظيم الدولي، هذا في ظل غموض تفاصيل البيعة وطريقتها وصيغتها.
ويرتبط بالتخوف السابق تخوف آخر بخصوص «أممية» الدعوة ومسألة الخلافة، وهو التخوف الذي اتضح بشكل صريح على لسان وزير الخارجية الإماراتي في أكتوبر 2012 بأن «فكر الإخوان المسلمين لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا يؤمن بسيادة الدول ولهذا السبب ليس غريبا أن يقوم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالتواصل والعمل على اختراق هيبة الدول وسيادتها وقوانينها».
ويدعّم من هذا التخوف السابق أن أحد قيادات جماعة الإصلاح الإماراتية قد أكّد في 2000 على الالتزام بتعاليم المؤسس حسن البنا، والوفاء لخط جماعة الإخوان، و«السعي إلى قيام الخلافة».
4. الخوف من «ربيع إماراتي» يقوده الإخوان لتغيير النظام في البلاد
وكذلك برز القلق الإماراتي من أن تسعى «الإصلاح» لتحقيق ما حققه الإخوان في خضم الربيع العربي، وهو ما يتماشى مع تصريحات وزير الخارجية الإماراتي التي دعا فيها دول الخليج إلى «التعاون لمنع جماعة الإخوان المسلمين من التآمر لتقويض الحكومات في المنطقة». وكذلك تصريحات قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان، وهو الذي تُعتَبَر تصريحاته بوابة غير رسمية للسياسة الإماراتية، بوجود أدلة حول تخطيط الإخوان للإحاطة بحكام الخليج.
خصوصا وأن معاقل الإخوان تكمن في الشمال في إمارات رأس الخيمة والشارقة حيث يزداد انتشار الفقر وتدهور الأحوال المعيشية، مقارنة بباقي الإمارات، وهي أسباب مشابهة لتلك التي أشعلت الربيع العربي.
فاقم إحساس النشوة والانتصار الذي صاحب الصعود الإخواني بعد الربيع العربي، والذي دفعهم إلى إخراج تصريحات «غير مريحة»، من القلق الإماراتي بدلا من العمل على تهدئة هذه المخاوف.
ويتجسد هذا الأمر بشكل واضح في تهديدات المتحدث باسم الإخوان المسلمين في مصر، محمود غزلان، للإمارات بأن «العالم الإسلامي بأسره وليس الإخوان المسلمين فحسب سيقفون ضدها»، وذلك في إثر تهديدات من ضاحي خلفان للشيخ القرضاوي باستصدار مذكرة اعتقال بحقه من الإنتربول على خلفية انتقاد الشيخ للإمارات.
وهو التصريح الذي عقّب عليه وزير الخارجية الإماراتي بأنه «دليل على نية سيئة للأسف»، ولم يفوت الوزير، وشقيق كل من الرئيس الإماراتي وولي عهد أبوظبي، الفرصة لإظهار نوايا بلاده بشكل صريح تجاه الإخوان من خلال قوله بأن فكر الإخوان «فكر لا تستحقه مصر الغالية».
نظرت الإمارات بعين القلق كذلك إلى وصول الإخوان إلى السلطة في عدة دول كمصر وتونس وليبيا والمغرب،إذ كان هذا يعني أن الولايات المتحدة قد تفكر في الاعتماد على هذا التيار، الذي بدا قابلا لمقولات الديمقراطية، في المنطقة بدلا من النظم الاستبدادية التي طالما تعرضت الإدارة الأمريكية للنقد بسبب دعمها لها، ومن بينها النظام الإماراتي بالطبع، خصوصا وأن هذا التيار قد حظي بتأييد واسع في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وكان في نفس الوقت على استعداد لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح تجربة هذا التيار في الحكم تهدد سيطرة حكام الإمارات على المواطنين ومخيّلاتهم السياسية، بالأخص في ظل جاذبية الأفكار التي أعلنها تيار الإخوان خلال تلك الفترة وقبولهم بالديمقراطية مع الاحتفاظ بالخلفية الدينية في نفس الوقت.
في الجزء الثاني من هذا الموضوع نتناول مجموعة الأدوات التي اعتمدت عليها الإمارات في مواجهتها مع الإخوان المسلمين.
- يوسف الديني وآخرون, الإخوان المسلمون والسلفيون في الخليج, الطبعة الثانية, (دبي, مركز المسبار للدراسات والبحوث, 2011)، ص ص 103-145