أنواع الوعي بين الفردي والمجتمعي
الوعي هو حالة من الإدراك الذي يجمع بين تفعيل دور العقل والمشاعر لفهم ما يدور حول الإنسان، ولتنظيم علاقته بالموجودات المحيطة به، ولا يكتمل الوعي إلا إذا عمل الإنسان على تنميتها بشكل مستمر من خلال تطوير قدراته الفكرية ومن خلال ربط تلك القدرات بتجاربه الحسية التي تشكل خبرته في الحياة.
توجد وجهات نظر عديدة حول مفهوم الوعي وتفرعاته، ويمكننا أن نركز في هذا السياق على مجالين مهمين لفهم سيرورة الوعي وتفرعاته، إذ أن الوعي من حيث المستوى ينقسم إلى وعي فردي ووعي مجتمعي، أما من حيث المجال فإنه يرتبط بكل حقول المعرفة بتفرعاتها العلمية والإنسانية، فالوعي كما أشرنا سابقًا يرتبط بتفعيل قدرات العقل بشكل أساسي، وبهذا تكون عملية البناء المعرفي التخصصي جزءًا من عملية بناء الوعي.
يُقصد بالوعي الفردي، الوعي الذي يكون على مستوى الأفراد، ويرتبط بشكل أساسي بالجهود التي يبذلها الأفراد بشكل شخصي على مستويين، الأول يرتبط بالمجال العام أي الوعي تجاه الواقع والحياة التي تحيط بالفرد، أما المستوى الثاني فيرتبط بالوعي التخصصي الذي أصبح سمة تميز هذا العصر عن العصور السابقة، إذ أن نظام التعليم الحالي الذي يفرض مبدأ التخصص في مجال، يساهم بشكل كبير في صقل الوعي التخصصي في مجال ما لدى الفرد، بينما في الماضي كان الوعي المعرفي المتخصص بالمجالات العلمية يكاد يكون عامًا، وهذا الذي يفسر وجود علماء كانوا ملمين بعلم الفلك والطب والفن …إلخ.
وتوجد آراء حالية تشير إلى أن مجالات المعرفة الإنسانية بمختلف تفرعاتها العلمية هي في حقيقة الأمر مترابطة، ولذا لا بأس في أن يلم الإنسان بها على أن يتخصص بشكل أقوى في أحدها ليكون مستوى وعيه العلمي بها في مستوى متقدم.
بينما يرتبط الوعي الجمعي بالمعرفة التي تشكل نظام الحياة التي تشكل سلوكيات المجتمع، بمعنى أن الوعي الفردي يمكنه أن يشكل الوعي المجتمعي من خلال تكريس تبادل المعرفة وتحويلها إلى سلوكيات وقوانين تنظم كل أشكال الحياة في المجتمع، وبهذا يصبح المجتمع أكثر نضجًا وتأثيرًا وإنتاجًا، ولذا نرى أن كثيرًا من الشعوب استطاعت أن تتقدم وتخلق لنفسها مساحة من الحركة الفعلية في مختلف ميادين الحياة بعد أن تمكنت من تحويل الوعي الفردي لمفكريها إلى وعي وسلوك مجتمعي قاد التغيير في تلك المجتمعات.
من حيث المجال تتعدد أنواع الوعي حسب مجالات المعرفة كما أشرنا، غير أننا نركز هنا على أنواع أساسية من المعرفة، لا ترتبط بالضرورة بالحقل التخصصي للفرد، بل ينبغي أن يلم بها أفراد المجتمع ولو بشكل بسيط لأنها على علاقة وثيقة بحياتهم اليومية، كما أنها على علاقة وثيقة بالتغيرات التي تشكل حياتهم بشكل عام، ومن أبرز تلك المجالات: الوعي الأخلاقي، والوعي السياسي، والوعي البيئي، والوعي الاقتصادي، والوعي الثقافي، إضافة إلى الوعي المعرفي.
1. يعتبر الوعي الأخلاقي من أهم مجالات الوعي لأنه يساهم بشكل كبير في تنمية جانب الشعور لدى الإنسان خصوصًا في العصر الذي نعيشه حاليًا، إذ أن النظام الرأسمالي بطبيعته المادية أثر بشكل كبير على مسألة الوعي الأخلاقي، لأن الأخلاق لا ترتبط بالمادة كما يشير المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفتش، فمنطق الأخلاق يرتبط بشكل كبير بتفعيل جانب الشعور الذي يكمل دور العقل ليتشكل الوعي لدى الإنسان بشكل متكامل.
2. وتكمن أهمية الوعي السياسي في أن الحضارة الإنسانية اليوم تقف على مبادئ سياسية محددة تحكم العالم، صحيح أن تلك المبادئ ليست متطابقة مع القيم الإنسانية بشكل كبير كونها تعتمد على الأفكار الميكافيلية والداروينية التي شكلت الوعي السياسي في النظام العالمي الجديد الذي نعيشه في القرن الحالي، إلا أنها أصبحت واقعًا ينبغي على الأفراد أن يفهموه بشكل واضح حتى يتمكنوا من التفاعل معه بشكل يراعي مصلحتهم ووجودهم وهوياتهم.
3. الإلمام بـالوعي البيئي أصبح ضرورة ملحة بسبب تأثيرات التلوث التي تهدد الحياة بشكل عام، والسبب في انتشار ظاهرة التلوث هو المنافسة الاقتصادية المحمومة التي تحكم العالم، ونتيجة لان مبدأ المادة هو الذي حكم يخفت صوت الأخلاق ولا يأخذ الاهتمام بالبيئة الحيز الكافي من الاهتمام كونه لا يرتبط بتهديدات مباشرة للكسب المادي للدول الصناعية التي تساهم بشكل كبير في انتشار ذلك التلوث من خلال منتوجاتها المدمرة للبيئة، ويرتبط الوعي الاقتصادي بعدة مجالات هي التي تشكل المرحلة الفاصل بين الشعوب المتقدمة وشعوب العالم الثالث، إذ أن بعض الشعوب المتقدمة لا تمتلك في حقيقة الأمر موارد طبيعية لتبني تفوقها الاقتصادي، لكنها تعتمد بشكل أساسي على الوعي الاقتصادي الذي يشكل ثقافة الشعب ليكون منتجاً في مختلف المجالات، ولعل تجربة النمور الأسيوية خير دليل على ذلك.
4. الوعي الثقافي والمعرفي يكاد يكون مرتبطًا، غير أن الأول يرتبط بشكل عام بالجانب الأدبي والفني، بينما يرتبط الآخر بمختلف المجالات العلمية، ومثل هذا النوع من الوعي مهم لأنه يشكل القاعدة المعرفية التي يتحرك على ضوئها المجتمع، ويتفاعل مع واقعه سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات، أو حتى على مستوى المجتمعات الأخرى.
الوعي على تعدد أنواعه ومستوياته يتطلب جهدًا ذاتيًا في بداية الأمر حتى يصبح جزءًا من الوعي الفردي، بعد ذلك يمكنه أن يتحول إلى سلوك جمعي من خلال انتشار التجارب الفردي ومشاركتها في المجتمع من خلال تبادل المعرفة والتجارب التي تخلق التأثير الإيجابي في واقع المجتمع.