عامان على مقتل البغدادي: التحولات الاستراتيجية لداعش
في 27 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مقتل أبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش السابق، في غارة جوية، شمال غرب سوريا، وبعدها بساعات، لحق به المتحدث باسم التنظيم أبو الحسن المهاجر، في ضربة اعتُبرت الأقوى في «الحرب على الإرهاب» آنذاك. ومع الذكرى الثانية، نسلط الضوء على التغيرات في تنظيم داعش، بعد مرور عامين على مقتل أبي بكر البغدادي.
اختفاء غامض لخليفة البغدادي
بعد مرور 4 أيام على إعلان ترامب، وتحديدًا في 31 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، اعترف تنظيم داعش عبر وكالة «أعماق» التابعة له بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وتنصيب أبي إبراهيم الهاشمي القرشي، خلفًا له. ونعى التنظيم قائده في رسالة صوتية لمؤسسة «الفرقان»، أذاعها المتحدث الجديد باسم التنظيم أبو حمزة القرشي، حملت عنوان «ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا».
حاول داعش بذلك أن يلملم شتات عناصره، وأن يبث الطمأنينة في نفوسهم، خاصة بعد مقتل زعيمهم وقائدهم، وبدأت المنصات الإعلامية التابعة للتنظيم في نشر فيديوهات مبايعة عناصره للزعيم الجديد أبي إبراهيم الهاشمي القرشي، من أماكن متفرقة يتواجد بها التنظيم، وظل الجميع ينتظر اللحظة التي يخرج فيها خليفة «البغدادي» ويعلن نفسه للعامة، إلا أن ذلك لم يحدث حتى اليوم، واعتمد الأخير فقط على الرسائل التي يبعثها لأعضاء التنظيم، عبر المتحدث الرسمي باسمه أبي حمزة القرشي.
لكن بالرغم من ذلك، يظل هذا الأمر حتى الآن يثير الشكوك حول حقيقة الزعيم الجديد، الذي لم تصدر عنه أي كلمة صوتية حتى الآن، ولم يعلن نفسه للعامة، ما جعل كثيرًا من المراقبين يبرهنون بذلك على عدم وجوده الفعلي، ويعتبرون أنه مجرد «أكذوبة» روجها التنظيم، من أجل تماسكه، واستمرار عناصره في مبايعته.
ومن ناحية أخرى، قد يكون سبب اختفاء الهاشمي الخوف من تتبع أثره وتحديد مكانه، والتخلص منه على وجه السرعة، كما حدث مع الزعيم السابق، خاصة أن الظروف الحالية للتنظيم تختلف عن سابقتها؛ إذ كان داعش في أوج قوته عندما ظهر أبو بكر البغدادي على منبر المسجد الكبير بالموصل، في يوليو/تموز 2014، بينما تقع المسئولية على الزعيم الجديد حاليًّا في تثبيت العناصر وتهيئتهم دينيًّا ونفسيًّا. وبالطبع، فإن مهمته صعبة، خاصة أنه لا يملك أرضًا لنشر قوته؛ وإذا خرج من مخبئه ربما تكون هذه الضربة القاصمة لداعش، ولا يريد أن يقع بها.
كورونا قبلة الحياة لداعش
بعد مقتل البغدادي هدأت حدة عمليات داعش بالطبع، ونال عناصر التنظيم بعض الانكسار، خاصة أنه كان المؤسس الذي قد يُبنى التماسك عليه، لكن مع بداية ظهور فيروس كورونا في أواخر عام 2019 استغل التنظيم الجائحة في مهدها، وانتهز انشغال السلطات بمحاربة كوفيد-19، وبدأ تكثيف عملياته في بعض المحافظات العراقية ودير الزور السورية، بجانب مناوشات عبر ذئاب منفردة في روسيا وبعض دول القارة العجوز، ليعلن بذلك عن استمرار وجوده.
كانت الجائحة بداية انطلاقة جديدة للتنظيم. وبعد مرور أشهر قليلة، جاء شهر رمضان المبارك الذي يعتبره الجهاديون شهر فتوحات وفرصة لتزايد الهجمات. بدأ داعش في تحريض أتباعه على زيادة العمليات، لينالوا الأجر والثواب المضاعف، بحد وصفه، وهو ما حدث بالفعل، ووصل عددها في الأسبوع الأول 57، وفقًا لإحصاء صحيفة «النبأ» التابعة له، في العدد 232.
ولكي يدعم داعش عناصره في الحرب الجديدة، خرج أبو حمزة القرشي، في كلمة صوتية، بعنوان «وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار»، مدتها 41 دقيقة، في 28 مايو/آيار 2020، نقل خلالها سلام أبي إبراهيم الهاشمي لهم، وتبريكًا منه لـ «غزوة الاستنزاف» التي انطلقت في رمضان، ورسالة بأن يستمروا بالتخطيط وشنِّ مزيد من الهجمات، ليعملوا على إطلاق سراح أسرى التنظيم القابعين في سجون القوات الكردية، شمال سوريا.
المعطيات السابقة، وخاصة كلمة القرشي، كان لها أثرها. ففي الأول من أغسطس/آب عام 2020، نفذ داعش هجومًا هو الأخطر على سجن بمدينة جلال آباد، في إقليم ننجرهار بباكستان، نتج عنه مقتل 12 شخصًا وإصابة 23 آخرين، وتمكن حوالي 300 شخص من الهرب، وكان العدد أكثر من ذلك، إلا أن قوات الأمن تمكنت من إعادتهم مرة أخرى.
إفاقة بعد كورونا
ظلت عمليات تنظيم داعش في زيادة، منذ بداية أزمة فيروس كورونا، وخصوصًا عندما جاء رمضان، واستمر ذلك إلى مطلع سبتمبر/أيلول الماضي. إلا أنه بعد ذلك بدأت العمليات في الانحسار، وفقًا لإصدارات صحيفة «النبأ» التابعة له.
ويبدو أن ذلك جاء بسبب انحسار فيروس كورونا في بعض الدول، وتحول نظر الأجهزة الأمنية إلى التنظيم على نحو قوض مساعيه في العديد من الدول واحتاج إلى تدخل عاجل منه، خصوصًا أنه آنذاك كان يحاول النهوض مرة أخرى، ولا يريد خسارة ما حققه خلال الأشهر الماضية.
وكان العلاج الأمثل من قبل التنظيم هو خروج المتحدث باسمه أبي حمزة القرشي، في كلمة صوتية جديدة له، 18 أكتوبر/تشرين الثاني 2020، حملت عنوان: «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، مدتها 32 دقيقة، داعيًا عناصر داعش إلى مواصلة العمليات، وعدم اتباع من أسماهم «مشايخ وعلماء السلطان»، و«كسر جدران السجون» لإخراج زملائهم على غرار ما حدث في سجن جلال آباد.
استغلال الأزمات وتوظيف الإعلام
لا شك أن مقتل البغدادي أثر بشكل كبير على نفوس عناصر التنظيم، خاصة الذين يرتبطون بشخصية المؤسس الذي كان يتمتع بـ«كاريزما» كبيرة. ونظرًا لخوف التنظيم من التفكك والضعف جراء ذلك، عمل على استغلال الأزمات التي تطرأ، خاصة على الساحة العربية، في تثبيت عناصره، بتصدير أنه صاحب المنهج الأصيل والعقيدة الصحيحة، واتهام التنظيمات الأخرى والجميع بالتقاعس عن نصرة المسلمين وقضايا الأمة، وكان آخر هذه الأحداث أزمة حزب النهضة في تونس وتنفيذ اتفاق طالبان والولايات المتحدة الأمريكية.
من ناحية أخرى، ركز إعلام داعش على زيادة البيعات، خاصة في أفريقيا وآسيا الصغرى، من أجل تصدير انضمام عناصر جديدة له. وعلى مدى الأعداد السابقة من صحيفة «النبأ» التي تصدر بشكل منتظم الخميس من كل أسبوع، يطرح من آن لآخر قصة «مجاهد» أو «قيادي سابق»، وفقًا للتنظيم، لبيان فضله وأثره في التنظيم وحض مقاتليه على اتباع نهج السلف.
لجأ التنظيم إلى هذه الأمور بعدما خسر واحدة من نقاط القوة لديه، وهي قدرته على جذب الأجانب وتجنيدهم من دول العالم كافة، خاصة أن ذلك كان في السابق سهلًا في ظل السيطرة على الأرض، وإعلان تأسيس الخلافة.
تحولات داعش بعد مقتل البغدادي
لا يمكن القول بأن تنظيم داعش انتهى، لكنه فقد جزءًا كبيرًا من قوته التي كان عليها، وأصبح حاليًّا يعتمد بشكل واضح على الجهاديين المحليين، أو ما يسمى بـ”الذئاب المنفردة“، ويركز على تشجيعهم على تنفيذ الهجمات بطرق بسيطة وبدائية في بعض الأحيان، دون الارتباط بشبكات بشكل مباشر، وعلى الرغم من ذلك يمثل هذا الأمر تهديدًا أمنيًّا يصعب احتواؤه في العديد من الدول.
وحاول التنظيم في استراتيجيته الجديدة، بعد مقتل البغدادي، التركيز على النشاط السري داخل سوريا والعراق، من خلال بعض عناصر التي ما زالت متواجدة هناك، وبشكل أكبر في الجبال، باستخدام ما يعرف بـ”حرب العصابات”، من أجل إعادة معاقله التي خسرها منذ أواخر عام 2017.
استمرت عمليات التنظيم في العراق بشكل كبير، وعمد إلى ما يسمى بـ”حروب الاستنزاف“، لكن ذلك لم يكن مؤشرًا على تعافيه واستعادة قوته، خاصة أنه لم يعد للشكل الذي كان عليه قبل خسارة معاقله، من قوة على الأرض، وتحرك حافلاته بحرية، ولم يستطع إعادة هيكلته الوزارية والدواوين المختلفة التي شُكِّلت سابقًا.
ويهاجم عناصر داعش أعداد كبيرة من الجنود في أماكن متفرقة من العراق، باستخدام أسلحة من عيار مماثل أو أكبر، لكن تسبب خروجه إلى العلن في استهداف العديد من مسئوليه البارزين خلال 2021، بحسب السلطات العراقية.
ولا يمكن التسليم بذلك، واعتبار ذلك نصرًا على التنظيم، خاصة أن القوات المحلية في العراق وسوريا غير مؤهلة للتصدي لداعش، في ظل حرب العصابات التي ينتهجها، وليس لديها بها خبرة كافية، كما أنه لم يعد ينتهج نمطًا واحدًا، وإنما تشهد عملياته تغيرًا في التكتيك.
ويشير تقرير صادر عن مجلس الأمن الدولي، في فبراير/شباط 2021، إلى أن هناك 10 آلاف مسلح من داعش يتوزعون بين سوريا والعرق، ويمتلك التنظيم 100 مليون دولار من الاحتياطي النقدي.
أما عن أماكن تواجده بالعراق، فوفقًا لدراسة صادرة عن مركز البيان للدراسات والتخطيط ببغداد، في أغسطس/آب 2021، تحت عنوان «العرق وإمكانية تصدر داعش المشهد مرة أخرى»، فإن عناصر داعش يتواجدون بكثرة في جزيرة كنعوص بمحافظة نينوى، نظرًا لصعوبة العبور إليها وكثافة الأشجار فيها، وكذلك الأمر في وادي الثرثار بمحافظة صلاح الدين، وسلسلة جبال قرة بوادي مخمور، جنوب شرق جبال نينوى ومحكول، وسلسلة جبال حمرين.
التوغل في أفريقيا
وبعيدًا عن سوريا والعراق، حث داعش أتباعه على الانتشار وإثبات الوجود بالعديد من الدول، خاصة غرب القارة الأفريقية، من أجل البحث عن موطئ قدم جديد، وإعادة هيكليته المفقودة. وأصبحت أفريقيا ملجأً كبيرًا لاحتضان عناصر داعش حاليًّا في ظل الصراعات التي تشهدها القارة والتدخلات الأجنبية، حتى وصل الأمر إلى إنشاء دواوين على سبيل المثال في نيجيريا، وسيطر التنظيم على مساحات واسعة من دول النيجر، الصومال، نيجيريا، مالي، بوركينا فاسو والكونغو؛ نظرًا إلى وجود مساحات شاسعة من الصحراء، يستطيع التحرك فيها.
وجذب التنظيم مزيدًا من المجندين، وشكل توسعه في أفريقيا التطور الأبرز خلال الفترة الماضية؛ إذ قتل العديد من الضحايا، وعملت بعض الجماعات التابعة له على توسيع نفوذها وأنشطتها في القارة. وعندما انقلب أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة بوكو حرام المتطرفة في نيجيريا، على داعش، كانت أوامر قيادة التنظيم بالتخلص منه، وهو ما حدث بالفعل في مايو/آيار 2020، عندما هاجمته عناصر من التنظيم، ففضل تفجير نفسه بدلًا من الاستسلام.
وربما يعمل داعش على الانتقال الجغرافي، ونقل مركز عملياته نحو غرب أفريقيا؛ خاصة أنه ينشط في أماكن متفرقة بالقارة، على رأسها بحيرة تشاد، التي أنشأ فيها 4 ولايات جديدة، بحسب تقرير صادر عن معهد الدراسات الأمنية الأفريقية في يوليو/تموز الماضي.
طالبان تمنح داعش أملًا كبيرًا
ومع سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان خلال أغسطس/آب الماضي، بدأ التنظيم يعلن عن نفسه بصورة واضحة، ونفذ عمليات ضد مطار كابل، ومسجد تابع للشيعة، خلفت العديد من القتلى والمصابين، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي الذي جاء بمثابة هدية للتنظيم الذي يحاول استغلال ذلك والدخول في مواجهات مباشرة مع الحركة من أجل امتلاك الأرض.
وقدرت الأمم المتحدة في يونيو/حزيران عام 2021 مقاتلي تنظيم «داعش خراسان» بنحو 1500 إلى 2200، متمركزين في مقاطعات كونار وننجرهار، شرق أفغانستان.
وإذا نجح داعش خراسان في التمدد في أفغانستان، فسيكون ذلك بمثابة دعم لبقية التنظيم في سوريا والعراق، ومصدر إلهام من أجل التوهج من جديد، وغالبًا سيستثمر أكثر فيما يحدث بكابول، وسيشن هجمات أكثر تطورًا.
ومما يثبت تحول التنظيم نحو أفريقيا وأفغانستان، أن وزارة الخارجية الأمريكية ذكرت في بيان نشرته عبر موقعها الإلكتروني، في 10 سبتمبر/أيلول الماضي، أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى التحالف الدولي جون جودفري، قدم عرضًا عن التقدم المحرز في العراق وسوريا، مشيرًا إلى أن تركيز التحالف حاليًّا على هزيمة الفروع العالمية لداعش، من ضمنها في أفغانستان وأفريقيا.
أما عن الوضع في أوروبا، فانخفض مستوى التهديد مع تنفيذ عدد أقل من الهجمات الإرهابية؛ وقد يرجع ذلك إلى تعاون الاتحاد الأوروبي، والقدرة على التحكم في مواقع التواصل والشبكات المعلوماتية التي تتيح لمن يسمون بـ«الذئاب المنفردة» التواصل بشكل سريع وآمن.