فصل جديد من الصراع على ثروات منطقة شرق البحر المتوسط بدأ، مؤخرًا، بعد ما أعلنت تركيا توقيع مذكرة تفاهم حول الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج، المعترف بها دوليًا.

فاقم التحرك التركي من التوتر المشتعل منذ سنوات بينها وبين عدد من دول شرق المتوسط للسيطرة على ثروات الغاز التي تعوم فوقها المنطقة والتي تقدر بـ125 تريليون متر مكعب. مصر واليونان وقبرص أدانوا الاتفاق ووصفوه بغير الشرعي، لكن أنقرة تبدو عاقدة العزم على المضي قدمًا في تنفيذه.

تلاسن دولي

وقعت تركيا وحكومة الوفاق الليبية، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مذكرتي تفاهم؛ الأولى حول التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، والثانية حول السيادة على المناطق البحرية. وأعلنت الرئاسة التركية الخبر دون تقديم تفاصيل.

وقال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، إن مذكرة التفاهم الموقعة مع ليبيا حول مناطق الولاية البحرية، تحمي حقوق تركيا المنبثقة من القانون الدولي. وأضاف أن بلاده يمكنها إجراء مباحثات مع جميع الدول حول مناطق الولاية البحرية في المتوسط، باستثناء إدارة جنوب قبرص الرومية.

أثار الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق غضب العديد من الدول على رأسها مصر، التي أدانت توقيع مذكرتي التفاهم معتبرة «أن مثل هذه المذكرات معدومة الأثر القانوني» لأنها تخالف اتفاق «الصخيرات» السياسي بشأن ليبيا، وأنه «في كل الأحوال فإن توقيع مذكرتيّ تفاهم في مجاليّ التعاون الأمني والمناطق البحرية وفقًا لما تم إعلانه هو غير شرعي ومن ثم لا يلزم ولا يؤثر على مصالح وحقوق أي أطراف ثالثة، ولا يترتب عليه أي تأثير على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط، ولا أثر له على منظومة تعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط».

https://www.facebook.com/MFAEgypt/posts/3340732065998716?__xts__%5B0%5D=68.ARASNM6UXNmnWa92-L3mh4Of0UV7wi9sxA8-i1zPV3nBzzv1Mm9t6XnBqBjEZ_blt8OgSVdb5WzCCC-05SgYGdraGk9CTNSE-7wdHtVYzv_ZW-9qR9BnE948mCNXxgqIBnl_E_JyQJgu-orNZF_b5ZCbFGdjIOPnRM2o4xydpyKVYGyfCKw8dsld2osb7iB21OR7BVUnzp3OaRCrdcAh1GBoPWVXwtIlSKW7XH9EMoZ9J_owPrPnGnm5pvXT9gK7KqDyxsBdyHkFcALF6yXYfuZ1BMhOM27a6kgHX1oMrX7U5YNiJumQdvLb5pia29ezFfCl_ugLx5t8Brr2EO7nNQ&__xts__%5B1%5D=68.ARCyPtLkVQu6KlmB3jvJvTbIKj8yPme0WiL3zmthvYSwKEzZ_j_Dfvi86XKQX3G9IdpffwD2dkIAo1LvG8fU7V7VF0z_8JLnsiLLmzVVr0Pt-hFNgOI25yK0sCV7iaSZXvie3d87wrLIEzI1ler1RjNz4_dchufVn3YzVCzG7X4NM4-TagCKku4TAa-BPdS90EWuwp-HgAN8QDTf1VJobZHFnkU8zqfM8myAmVZ3KrshF4dRCx_hifRxV0PPEGcfuWrAAYRJzFNrD8R14BtzIjTl4GvUwsMajKHi6jf8eFfe9_0sl9Li8rWNn12QcmszQ90sG9X1CA4RhSAewYXzmQ&__tn__=-R
نص بيان الخارجية المصرية

وأعلنت مصر، في بيان آخر، أنها اتفقت مع اليونان وقبرص على «عدم وجود أي أثر قانوني لهذا الإجراء (الاتفاقين) الذي لن يتم الاعتداد به لكونه يتعدى صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الليبي وفقًا لاتفاق الصخيرات، فضلًا عن أنه لن يؤثر على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط بأي حال من الأحوال».

https://www.facebook.com/MFAEgypt/posts/3340894025982520?__xts__%5B0%5D=68.ARDXxG-zjX2SIzf-4s6uD977DeoOsI2dBQR9J_87xZwUudK0zIziwu2zyU1MU4j07EqxVZCpyobr34DL6BM-zn0VLcEEigS_HUPhiIrRzSF49wH07EcvGe1afGvv6ZyiFf4wr5dRzx7CB90iONjwQtyhmtnFG4MCy_mIW-miN9l4o5SpTI862tR0uJ1MhylEYU8JZ78cCB8NotKCu5GW5RhLaUsSA8JBgZA2pfKdsv9bjQS7WfZ8Ykpz3q53byYMlLPYEpn1_SRGJO252Aznq7C1ArRzsKbBdy9VduV8Ke5WV78RbavhOGT9tJPmA_7K5E4Qfg7Zn07nWmdQOCM1rA&__tn__=-R

من جانبها رفضت اليونان الاتفاق ووصفته بأنه أمر مناف للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي، واستدعت سفير حكومة الوفاق لديها للاستفسار عن معلومات تخصّ الاتفاق العسكري الذي وقعته مع تركيا، ثم اتخذت بعدها بأيام قرارًا بـطرد السفير من أراضيها.

وقدمت اليونان اعتراضات إلى الأمم المتحدة على اتفاق بين ليبيا وتركيا لرسم الحدود البحرية ووصفته بأنه انتهاك للقانون الدولي، وقالت إنه «جرى الإعداد لهذا الاتفاق بنية سيئة».

وطالب الاتحاد الأوروبي تركيا وليبيا، بتسليم نسخة من مذكرة التفاهم الموقعة بينهما «دون تأخير». وقال في بيان، إن «الاتحاد الأوروبي يقف متضامنًا بشكل كامل مع اليونان وقبرص بشأن التحركات الأخيرة من جانب تركيا في شرق البحر المتوسط، بما في ذلك بحر إيجه»، مضيفًا أنّه «على تركيا أن تحترم سيادة جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي وحقوقها السيادية، كما شدد الاتحاد مرارًا».

رفضت تركيا الانتقادات الموجهة إليها وأكدت أن «هذه الاتفاقية تم توقيعها وفقًا للقانون الدولي»، وأن اليونان وقبرص الرومية تفهمان القانون الدولي بشكل مغلوط، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، حامي أقصوي: «أطروحات اليونان وقبرص الرومية المتطرفة المتعنتة، تحاول منح سيادة بحرية بـ4 آلاف ضعف من المساحة الحقيقية لجزيرة كاستيلوريزو (ميس) مقارنة بالبر الرئيسي التركي. هذا المفهوم أفقد مصر 40 ألف كيلومتر مربع في الماضي».

ورد الرئيس التركي أردوغان على الانتقادات الموجهة للاتفاق البحري الذي وقعه مع حكومة السراج بتأكيده أنه «حق سيادي» لكلا البلدين، مؤكدًا أن معارضة اليونان ومصر وقبرص الرومية للاتفاق التركي الليبي، لن تؤثر أبدًا على الاتفاق. كما هاجم فرنسا – التي لم تعلق علنًا على الاتفاق لكن يبدو أنها غاضبة منه – قائلًا: «في حال أعربت فرنسا عن استيائها من الاتفاق التركي الليبي، فإننا سنقول لهم بوضوح إننا لن نناقش هذا الحق السيادي معكم، ولن نتفاوض معكم حول هذا الحق».

وأعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، فاتح دونماز، أن بلاده سوف تبدأ بأعمال لاستكشاف وإنتاج النفط والغاز شرق البحر الأبيض المتوسط في إطار الاتفاق التركي – الليبي. وقال إن مذكرة التفاهم التركية – الليبية حول ترسيم حدود مناطق النفوذ البحرية، أحبطت المحاولات الرامية إلى إقصاء تركيا من المعادلة في شرق المتوسط، وشدّد على أن المذكرة تتوافق مع القانون البحري الدولي.

وأعلنت تركيا، السبت الماضي، دخول مذكرة التفاهم التي أبرمتها مع ليبيا بشأن تحديد مجالات الصلاحية البحرية في البحر الأبيض المتوسط حيز التنفيذ، بعد ما صادق عليها البرلمان التركي. 

جوانب الاتفاقين تتكشف

بدأت جوانب الاتفاقين اللذين وقعتهما تركيا مع حكومة السراج تتكشف شيئًا فشيئًا. بدأ الأمر بنشر المدير العام للحدود البحرية والجوية في الخارجية التركية تشاغطاي أرجياس، عبر حسابه في تويتر، خريطة تظهر حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية التركية في البحر المتوسط بعد توقيع الاتفاقية الأخيرة مع ليبيا.

ونشر موقع نورديك مونيتور الاستقصائي وثائق مسربة للاتفاقية البحرية الأخيرة بين تركيا وليبيا. ينص الاتفاق على أن تركيا وليبيا حددتا تحديدًا «منصفًا وعادلًا» المناطق البحرية لكل منهما في البحر الأبيض المتوسط، حيث «يمارس الطرفان السيادة والحقوق السيادية و / أو الولاية القضائية وفقًا لقواعد القانون الدولي المعمول بها مع مراعاة جميع الظروف ذات الصلة»، وتم تحديد إحداثيات لحدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية التركية ودولة ليبيا في البحر المتوسط.

يبدو واضحًا أن الاتفاق يضر بشكل كبير بمصالح أثينا، إذ يعتمد الخط البري لليونان حدودًا، وليس خط الجزر الذي يكسبها مساحة شاسعة. أما مصر فلا يؤثر الاتفاق عليها، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية المصري سامح شكري بقوله: «لا يوجد مساس بمصالحنا في مصر من اتفاق تركيا وحكومة طرابلس، ولكن يوجد مساس بمصالح دول أخرى في منطقة المتوسط، وعلينا أن نتساءل ما هدف هذا الاتفاق والسرعة القياسية لعقده».

وحول الاتفاق العسكري المبرم بين تركيا وحكومة الوفاق، قال مدير الاتصالات بالرئاسة التركية فخر الدين ألتون، في حسابه على تويتر، إن «اتفاق التعاون الأمني ​​والعسكري مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا هو نسخة أوسع من اتفاق إطار التعاون العسكري السابق»، مضيفًا: «الاتفاق الأمني يمهد لعمليات تدريب وتعليم ويضع الإطار القانوني ويعزز الروابط بين جيشينا… سنواصل كذلك الدعوة من أجل التوصل لحل سياسي لبناء ليبيا ديمقراطية ومستقرة ومزدهرة».

المعادلة داخل ليبيا

كما هو متوقع، انقسم الداخل الليبي حول الاتفاقين اللذين وقعتهما حكومة الوفاق مع تركيا؛ دافعت حكومة فايز السراج، المعترف بها دوليًا، عن الاتفاق مؤكدة شرعيته. وأكد وزير الخارجية محمد طاهر سيالة، أن مذكرة التفاهم مع تركيا «تعتبر صونًا للمصلحة الوطنية وتخدم الأشقاء بالدرجة الأولى… لا يعد التوقيع عليها تعديًا على سيادة أي دولة».

واعتبر عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا بلقاسم عبدالقادر دبرز، الموقف المصري، الرافض لتوقيع مذكرتي تفاهم حول الحدود البحرية بين حكومة الوفاق الوطني وتركيا، نوعًا من التجاوز، وقال: «الانتقادات المصرية للأسف تجاوزت الحدود، وأصبحت تتدخل في الشأن الليبي الخاص، وهذا غير مقبول إطلاقًا ونراه انتقاصًا من سيادة دولتنا».

على الجانب الآخر، انتقدت القيادة العامة للقوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يحاصر حاليًا العاصمة طرابلس: إن حكومة السراج «لا تمتلك حق توقيع الاتفاقيات، بما يجعل مثل هذه الاتفاقيات والتفاهمات باطلة لا تنتج أي أثر في مواجهة الدولة الليبية». 

واعتبرت قيادة قوات حفتر أنه بالتوقيع على مذكرتي التفاهم مع حكومة الوفاق «أصبحت تركيا طرفًا مباشرًا مهددًا لمصالح الشعب الليبي في قيام الدولة وفي أمنه واستقراره، بدعمها للإرهاب والجريمة بتهريب كافة أنواع الأسلحة والتقنيات العسكرية الحديثة لصالح المجموعات الإرهابية والميليشيات المسلحة».

ورفض مجلس نواب طبرق، المعترف به دوليًا، الاتفاق مؤكدًا أنه باطل وغير دستوري، كما وجه رئيس المجلس خطابًا إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطالب فيه بسحب اعتماده لحكومة الوفاق.

من الفائز حتى الآن؟

استطاعت تركيا من خلال الاتفاق مع حكومة ليبيا المعترف بها دوليًا أن تفرض نفسها بشكل أكبر في معادلة ثروات شرق المتوسط، بعد ما كانت دول مصر وإسرائيل واليونان وقبرص قد نجحت في تحييدها من المعادلة بشكل كبير. الآن تستطيع أنقرة أن تتحرك وتنقب في مساحة تصل إلى 189 ألف كيلو متر مربع من البحر المتوسط، وعلى المتضرر (اليونان في هذه الحالة) أن تلجأ إلى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية وهي طرق تأخذ فترات طويلة.

سيسمح هذا الاتفاق لتركيا بتحقيق حلمها في تأمين مصدر للطاقة، فتركيا دولة غير منتجة للطاقة وتستورد 95% من احتياجاتها منها ما يكفلها سنويًا نحو 50 مليار دولار وتريد وقف هذا النزيف على الطاقة وأن يكون لها منابع نفط وغاز. كما سيوطد علاقتها بليبيا حال استمرار حكومة السراج، مما سيضمن لها مستقبلًا فرصة جيدة في جهود إعادة الإعمار والتي قد تحقق جزءًا من التوازن للاقتصاد التركي المضطرب.

الفائز الآخر، هو حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، التي سيؤمن لها الاتفاق دعم تركي عسكري غير محدود لمواجهة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر التي تحاصر العاصمة طرابلس وتشن المعارك والغارات يوميًا سعيًا للسيطرة عليها، فيما تحاول القوات والميليشيات الموالية لحكومة الوفاق صد الهجمات.

وبات واضحًا الآن أن أنقرة لن تترك حكومة الوفاق تهزم بسهولة لأن الاتفاق مرهون ببقائها، وهو ما عبر عنه أردوغان جيدًا بقوله إن بلاده مستعدة لإرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني إذا قدمت لها ليبيا مثل هذا الطلب.

رغم ذلك، من الممكن أن يؤدي اتفاق السراج مع تركيا إلى سحب غطاء الشرعية الدولية من حكومة الوفاق، فكثير من الدول العربية والأوروبية غير راضين عن الاتفاق وما سيُسفر عنه من تمدد لتركيا في البحر الأبيض المتوسط.