اتسمت العلاقات المصرية/التركية بالتوتر خلال الآونة الأخيرة، فمنذ إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي على يد وزير دفاعه عبدالفتاح السيسي في الثالث من يوليو/تموز 2013، اختارت أنقرة اتخاذ أكثر المواقف الرسمية حدة ورفضًا تجاه النظام الجديد، وسرعان ما تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فأبلغت القاهرة السفير التركي بعدم رغبتها في وجوده. بعد عدة استدعاءات له من قبل وزارة الخارجية على إثر تصريحات متكررة من العاصمة التركية تعتبر ما حدث انقلابًا عسكريًا على سلطة منتخبة يجب عدم الاعتراف به. بل ما زاد الطين بلة فتح تركيا أبوابها أمام رموز المعارضة المصرية والسماح لهم بالعمل السياسي والإعلامي المناهض لنظام السيسي الجديد من قلب إسطنبول. لكن مع كل ذلك، فإن هذا التوتر بين البلدين لم يكن هو المألوف في أوقات ليست ببعيدة!


التحول من التحالف إلى العداء

منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، حاول رسم سياسة خارجية جديدة استندت إلى قاعدة تصفير المشاكل مع الجيران واعتبار الشرق الأوسط والبلقان بمثابة مناطق عمق تركيا الإستراتيجي، وتحكمت خطط التنمية الاقتصادية بشكل كبير في رسم تلك السياسة.

وفي هذا الإطار تحركت تركيا لتقوية علاقاتها بكل من محوري الاعتدال والممانعة في المنطقة العربية حينذاك، محاولة تخطي النظرة التنافسية التي كان النظام المصري يراها في الدور التركي المتوقع، وبالاستماع إلى خطاب جمال مبارك في السياسة الخارجية كان يمكن توقع تقارب مصري تركي إذا سار الأمر إلى التوريث في مصر، فقد كان الرجل يرى في تركيا بمواقفها من القضية الفلسطينية ورؤيتها حول حل الدولتين، وكذلك في خطط التنمية الليبرالية نموذجًا يمكّن من بناء أرضية مشتركة – على عكس الحال مع إيران مثلًا – كذلك رأت تركيا في مصر بوابة للعالم العربي وأفريقيا على حد سواء.

وبدخول المنطقة زمن الربيع العربي اختلفت الأحلاف، فبعد الممانعة والاعتدال، أصبح الموقف من الثورات محورًا مهمًا، وهنا كانت تركيا من الدول التي سارعت وبلهجة عالية إلى دعم الربيع العربي ولا سيما في مصر، فدعا أردوغان – رئيس الوزراء وقتها – مبارك إلى الاستماع لرأي شعبه والرحيل، وبدا أن سياسة تركيا الخارجية ستتحول إلي التعويل على نجاح تلك الموجات الشعبية في بناء نظم ديموقراطية، خاصة مع صعود الحركات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين، التي ترى في تركيا مثالًا يمكن الاقتداء به وبالتالي جاء رهان أنقرة على بناء علاقات إستراتيجية مع مصر ما بعد الثورة.

يؤكد ذلك زيارة الرئيس التركي حينذاك عبدالله جول كأول رئيس يزور مصر بعد شهر من تنحي مبارك، وأعقب ذلك قبل نهاية العام الزيارة الشهيرة لأردوغان بصحبة 208 رجال أعمال تركي ولقاؤه طنطاوي وعصام شرف وشيخ الأزهر، وسط ترحيب شعبي كبير خاصة في ظل تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية وقتها، إثر حادث سفينة مرمرة.

ولم يختلف الموقف الرسمي كثيرًا في الترحيب بالزيارة، حيث رأى فيها دعمًا كبيرًا للاقتصاد المصري، الذي كان يمر بأوقات صعبة، فتم توقيع 20 اتفاقية مع تطلعات لنمو التبادل التجاري من 3 إلى 5 مليارات دولار، وكذلك مضاعفة الاستثمارات التركية في مصر، وعلى مستوى التعاون العسكري استبدلت تركيا بإسرائيل مصر للمشاركة في مناورات «بحر صداقة» في أكتوبر/تشرين الأول 2012. وفي ذلك الوقت نصح أردوغان قيادات الإخوان المسلمين بحل الجماعة وتكوين حزب سياسي ديموقراطي، ونصح المصريين بسن دستور علماني.

تلا ذلك وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم بانتخاب مرسي رئيسًا في 2012، وضاعف ذلك من فرص التحالف الإستراتيجي بين البلدين وتجلت ملامح التقارب في دعوة مرسي لحضور المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية سبتمبر/أيلول 2012، حيث لاقى ترحيبًا كبيرًا، وكذلك في مساعي البلدين المشتركة لوقف الحرب على غزة وزيارة أوغلو وهشام قنديل إلى غزة تحت القصف نوفمبر/تشرين الأول 2012.

لكن مع تطور الأحداث في مصر وصولًا إلى لحظة 3 يوليو/تموز؛ حينما أزاح الجيش الرئيس مرسي، تحولت العلاقات بين البلدين سريعًا إلى النقيض كما أسلفنا، واتخذت تركيا موقفًا مبدئيًا مما حدث فيما بدت دوافعه أنه استمرار للرهان على الربيع العربي من دون إدراك أن موجته تشهد تراجعًا متزايدًا، وربما كان الموقف التركي متماشيًا كذلك مع حساسية الأتراك تجاه الانقلابات العسكرية خاصة مع تزامن التطورات المصرية مع أحداث «جيزي بارك» التي ربما أقلقت الساسة الأتراك من كون أنقرة مستهدفة بانقلاب مماثل.

لعب أردوغان دورًا محوريًا فيما وصلت إليه العلاقات المصرية التركية من تدهور، فبينما كان الساسة الأتراك من حوله يحاولون تلطيف حدة التصريحات المسيئة للنظام المصري والاكتفاء بالانتقادات ذات الطابع الدبلوماسي، أصر الرجل على أسلوبه الحاد وعلى تكرار الحديث عن شخص السيسي ووصفه بالخائن والانقلابي وغيرها، فيما بدا أنه يتعمد إهانته شخصيًا. ولم تنفع محاولات البعض للحد من تدهور العلاقات السريع نظرًا لمحورية أردوغان في السياسة التركية، يدلل على ذلك الخلاف بينه وبين الرئيس جول، حينما أرسل الأخير رسالة تهنئة بروتوكولية إلى السيسي بعد توليه الرئاسة وإعلان أردوغان في مناسبتين رفضه لتلك الرسالة، أي أنه كان هناك رؤى مختلفة ليس فقط في المعارضة، وإنما داخل الحزب الحاكم نفسه حول شكل العلاقة مع مصر السيسي.


وساطة سعودية غير ناجحة

http://gty.im/520438698

بدا أن تركيا ابتعدت عن سياستها المقررة سلفًا بتقليل المشاكل أمام التغيرات العميقة التي أصابت المنطقة، وبدا أنه من الصعب التراجع إلى الخلف بعد التورط في الواقع العربي، وزاد الأمر صعوبة تضرر العلاقات بعد ذلك مع روسيا بسبب حادثة الطائرة الروسية، فأصبحت تركيا على شفا عزلة إقليمية مع توتر علاقاتها بروسيا وإيران وسوريا والعراق ومصر، ما دفعها إلى تعزيز العلاقات مع السعودية وقطر بشكل سريع في إطار تصورات متقاربة عن الوضع في سوريا.

حينئذ حاولت السعودية قيادة تحالف إسلامي سني تشارك فيه مصر وتركيا وبدأت مساعٍ سعودية لتقريب وجهات النظر بين البلدين وظهرت تصريحات تركية عن ضرورة إزالة التوتر القائم بين البلدين وتعزيز التعاون المبني على التفاهم المتبادل ومطالبة الجانب المصري بتقديم الخطوة الأولى. جاء ذلك على لسان بولنت أرينتش، المتحدث باسم الحكومة وقتها، كذلك تحدث الأتراك عن ضرورة إلغاء أحكام الإعدام الصادرة بحق الرئيس مرسي وفتح مجال عام لمصالحة مصرية داخلية لكن بدت الهوة واسعة بين الجانبين حينما تحدث المصريون عن ضرورة اعتراف تركيا بأن 3 يوليو/تموز كانت ثورة شعبية والتوقف عن التدخل في الشأن المصري، بل تسليم قيادات المعارضة إلى الدولة المصرية وغلق القنوات التليفزيونية التابعة لهم، أظهر ذلك أن المسافة لا تزال طويلة بين البلدين، وتراجع الدور السعودي بعد ذلك ربما على إثر توتر علاقته بالنظام المصري.


تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل

مع تولي يلدريم رئاسة الوزراء خلفًا لداود أوغلو استهل الرجل مهامه بتصريحات عن ضرورة تحسين العلاقات مع روسيا وإيران ومصر، وخلال الشهور التالية خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة حدثت إزاحة كبيرة، ربما لم تكن متوقعة في العلاقات التركية الروسية، حيث اعتذر أردوغان عن حادث الطائرة، وتوالت لقاءات الجانبين للتوصل إلى مقاربة مشتركة لإمكانية قيادة البلدين تسوية سياسية في سوريا.

من جهة أخرى شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية اتفاقًا يخص تطبيع العلاقات وتسوية أمر سفينة مرمرة، بدا أن تركيا تحاول إعادة قراءة الواقع والعودة إلى إستراتيجيتها السابقة بمعنى أن تكون جزءًا من الحلول بعد أن تورطت في مشاكل مع أطراف عدة، هذا التراجع يمكن تفسيره على أنه سحب للرهان على الربيع العربي وانتقال المنطقة إلى ما يمكن تسميته ما بعد الربيع العربي.

وبترجمة ذلك على المستوى المصري، بدا لأنقرة – ما بعد محاولة الانقلاب – أن نظام السيسي قد حاز اعترافًا من مختلف الدول الغربية في الوقت الذي انكشفت فيه أن قدرات المعارضة المصرية على تغيير النظام تتراجع بصورة كبيرة، وبينما يدرك الساسة الأتراك أن مصر كدولة محورية في المنطقة يصعب استمرار تدهور العلاقات معها لمدة طويلة بغض النظر عن نظامها السياسي، عادت التصريحات عن حاجة أنقرة لترميم العلاقات مع مصر حسب تعبير يلدريم، فيما تلقى ردًا مصريًا إيجابيًا هذه المرة بترحيب وحرص مصر على العلاقات مع الشعب التركي عبر المتحدث باسم الخارجية المصرية.


وختامًا؛ لا يزال أمام ترميم العلاقات المصرية التركية عقبات، لعل أبرزها الهوة الواسعة بين تصورات البلدين لأسلوب حدوث ذلك، فليس متوقعًا استجابة أنقرة لشروط مصر في الوقت الذي لا يبدو فيه النظام المصري في حاجة أو رغبة في تنفيذ المطالب التركية، إلا أن قراءة عقلانية لواقع المنطقة الحالي والتهديدات المشتركة ستكون كفيلة بإقناع الطرفين، وربما إجبارهما على الوصول إلى صيغة مبدئية لعلاقات لا خسارة فيها. فبحسب المحلل السياسي المقرب من العدالة والتنمية زاهد جول، تركيا تلقت معلومات من أجهزة المخابرات الأمريكية أن الأخيرة تلقت في مرحلة سابقة معلومات من أجهزة المخابرات المصرية تدين تركيا في علاقات مع داعش.

مثل هذا الأمر وما نشرته صحيفة حريات التركية عن لقاء حكوميين مصريين بممثلين عن حزب العمال الكردستاني الذي تخوض الدولة التركية حربًا ضده غير مستبعد صحته في ضوء العلاقات السيئة بين البلدين. لذا تحتاج تركيا إلى تخطي الوضع الحالي من العلاقة مع مصر والتي يمكن وصفها بأنها تمثل خسارة لكلا الطرفين ( lose-lose ) إلى شكل آخر ربما لا يمثل مكسبًا لتركيا بقدر ما يحقق إيقاف الضرر الحالي.

لذا فمن المتوقع حدوث هذا التغير بحده الأدنى خلال العام الجديد، وربما تكون تلك خطوة أولى يتبعها خطوات من قبيل تحسن العلاقات الاقتصادية والتعاون الاستخباراتي في ظل تعرض البلدين لتحدي الإرهاب، وربما يتبع ذلك دور تركي في مصالحة مصرية داخلية، حيث يمكن لتركيا حينها أن تلعب دور الوسيط العادل كما يأمل المعارض المصري أيمن نور.