تركيا بين «درع الفرات» و «غصن الزيتون»
لطالما اتــُّهِمت تركيا بأنها لا تملك سياسة واضحة تجاه القضية السورية، ووُصِمت سياساتها إزاءها بالتردد والتأخر، إلا أن عملية «درع الفرات» مثلت متغيرًا بالغ الأهمية والدلالة من جهة، وردًا جزئيًا على تلك الاتهامات من جهة أخرى.كانت درع الفرات المرة الأولى التي تتدخل فيها تركيا عسكريًا خارج حدودها منذ «عملية السلام» في قبرص عام 1974، لكنها لم تكن الاستثناء الوحيد، بل تبعتها قبل ثلاثة أسابيع عملية «غصن الزيتون» في عفرين.
خطوتان وخطة واحدة
بنظرة مبدئية، يمكن اعتبار عملية «غصن الزيتون» في عفرين خطوة مكملة أو لاحقة على عملية درع الفرات. إذ تجمَعُ العمليتين أهدافٌ مشتركة، يمكن تلخيصها في مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي (الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني) وغيره من المنظمات المصنفة على قوائم أنقرة للإرهاب، وتأمين حدود تركيا وأراضيها، ومنع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الكردية الشرقية والغربية في شمال سوريا، وبالتالي وأد فكرة الدويلة أو الممر الكردي. إضافة طبعًا إلى عدد من الأهداف الفرعية في مقدمتها فكرة المنطقة الآمنة، وإعادة جزء من اللاجئين السوريين لأراضيهم في الشمال السوري.صحيح أن «درع الفرات» التي أجرتها تركيا بين آب/ أغسطس 2016 وآذار/ مارس 2017، قد منعت التواصل الجغرافي بين الكانتونات، أو غرست خنجرًا وفق تعبير «أردوغان» في قلب الكيان السياسي المفترض، إلا أنها لم تكن كافية لمنع المشروع تمامًا، وإن صعّبته أو أبطأت خطواته.مؤخرًا، ولدى إعلان التحالف الدولي ضد داعش الذي تقوده الولايات المتحدة عن نيته إنشاء قوة حرس حدود قوامها 30 ألف مقاتل معظمهم من الفصائل الكردية المسلحة، أدركت تركيا أن المشروع ما زال قائمًا ويتقدم باطراد، وأنها أمام خيارين أحلاهما مر؛ التدخل وتحمل التبعات أو الانتظار وتحمل تبعات أكثر، ويبدو أنها قد اتخذت القرار الأول.تحدث الساسة الأتراك بعدة صيغ تحيل إلى أهداف عملية «غصن الزيتون» التي بدأت في العشرين من كانون الثاني/يناير الفائت، وإن كانت قريبة نوعًا ما من بعضها البعض. ثمة حديث عن «القضاء التام على الإرهابيين»، أي عناصر وحدات الحماية في عفرين، وآخر عن «إخراجهم» منها وإزالة سيطرتهم عليها، وثالث -ورد على لسان رئيس الوزراء «بن علي يلدرم»- عن إنشاء «منطقة آمنة» على الحدود التركية – السورية بعمق 20-30 كم.أكثر من ذلك، ترى أنقرة في سيطرة وحدات الحماية -أو قوات سوريا الديمقراطية وفق اسمها الجديد- على أي بقعة في الشمال السوري قرب حدودها خطرًا عليها، ولذلك فهي تتحدث عما بعد عفرين، أي منبج ثم المنطقة شرقي الفرات وصولًا للحدود العراقية، وهي مراحل متقدمة وتحتاج تفصيلات لا تستوعبها مساحة المقال الحالي على أي حال.
اختلافات جوهرية
ومع كل هذه التشابهات، وأهمها الخصم والهدف المشتركان، ثمة فروقات كبيرة وجوهرية بين العمليتين تجعلان منهما سياقين شبه منفصلين لدى البحث والتحليل والاستشراف، أهمها:
أولًا:نفذت تركيا عملية درع الفرات تحت شعار مكافحة داعش (والمنظمات الأخرى) ما منحها شرعية كاملة على الساحة الدولية لم يخدشها أي طرف، بينما تنفذ اليوم عملية غصن الزيتون في الأصل لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب (وإن ذكرت داعش ضمن المستهدفين)، ما حرمها من الغطاء الدولي الكامل والداعم لها. فالدولتان العظميان الأكثر تأثيرًا في سوريا، روسيا والولايات المتحدة، لا يشاطرانها الرأي في تصنيف الوحدات على قوائم الإرهاب، بل تعتبرها واشنطن حليفها الميداني في سوريا، الأمر الذي يعقّد حسابات أنقرة إلى حد كبير.
ثانيًا:وكتفرّع عن الاختلاف الأول، لا تبدو أنقرة مطمئنة تمامًا لمواقف مختلف الأطراف ذات العلاقة، خصوصًا الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وتراها مواقف قابلة للتبدل في أي لحظة. ولعل إعلان الرئيس الإيراني قبل أيام عن رفض بلاده للعملية والتصريحات الروسية حول «ضحايا من المدنيين» بعد مؤتمر سوتشي من أهم الأمثلة على ذلك، ولا يمكن إغفال كون المواقف الدولية أحد أهم العوامل المؤثرة في مسار العملية العسكرية ومآلاتها.
ثالثًا:التضاريس المختلفة بين المنطقتين، إذ تغلب على عفرين الطبيعة الجبلية التي تصعّب وتبطئ تقدم القوات المدرعة وتضع تحديات أمام سلاح الجو وقوة المشاة على حد سواء. ويضاف لذلك – كتحدٍ لوجستي أو ميداني – ظروف الطقس غير المناسبة للعملية الحالية في بداياتها بالمقارنة مع درع الفرات التي بدأت في أشهر الصيف.
رابعًا:أعداد وتسليح وتدريب قوات الحماية المختلفة تمامًا عن عناصر داعش، فقد اهتمت واشطن بها اهتمامًا خاصًا ضاربة عرض الحائط بتحفظات «شريكتها الاستراتيجية» تركيا، حتى أوصلتها لحالة أشبه بجيش نظامي يُعد بعشرات الآلاف. ولعل السلاح المضاد للدروع الذي استخدم ضد الدبابة التركية قبل أيام أحد مؤشرات ذلك التسليح الذي تظن أنقرة أن جزءًا مهمًا منه ما زال لم يكشف تمامًا.
خامسًا:رغم التداخل الواضح بين المنظمات الكردية في كل من سوريا وتركيا والعراق بما في ذلك تبادل القيادات والعناصر، فإن جزءًا غير بسيط من مقاتلي وحدات الحماية من أهل عفرين، بكل ما يعنيه ذلك من فهم طبيعة المنطقة واستخدامها بشكل يوقع خسائر بالقوات التركية، ووجود حاضنة شعبية بدرجة أو بأخرى للوحدات، فضلًا على الكثافة السكانية في قلب مدينة عفرين وما تشكله من تحدٍ كبير للعملية التركية التي تتجنب إيقاع خسائر بالمدنيين.
موقف المعارضة
لكل ما سبق، تمْثُل أمام «غصن الزيتون» تحديات كبيرة تختلف اختلافًا جذريًا عن تحديات سابقتها، الأمر الذي وضع صانع القرار في أنقرة أمام استحقاق تحصينها ونسج شبكة أمان سياسية وقانونية حولها، ولعل الأهم في ذلك كان الجبهة الداخلية.عمدت الحكومة منذ اللحظات الأولى للعملية – للدقة قبل إطلاقها بدقائق – إلى إخبار أحزاب المعارضة الرئيسية بالعملية وضمان تأييدها. وقد اجتمع فعلًا رئيس الوزراء بن علي يلدرم برئيس كل من حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية، اللذين أعلنا تأييد حزبيهما بأسلوب لا مواربة فيه للعملية، وأكدا حق وواجب الحكومة في حماية حدود البلاد. وقد سرى ذلك على معظم وسائل الإعلام والنقابات المهنية ووسائل المجتمع المدني، وغيرها من المؤسسات والهيئات ذات التأثير في المجتمع، لتظهر تركيا موحدة خلف الجيش التركي (ومعه مجموعات من الجيش السوري الحر) باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي الذي يُعتبر على نطاق واسع الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني.بيد أن حزب الشعب الجمهوري تحديدًا بدأ بتعديل موقفه بشكل تدريجي بعد الأسبوع الأول من العملية. فرغم أنه ما زال يؤكد دعمه للمؤسسة العسكرية وتقديره لتضحيات الجنود، فإنه اتجه نحو سياقات خمسة مستحدثة في خطابه مؤخرًا:
الأول: دعم العملية باعتبارها عملية للجيش التركي وليس الحكومة، بل اتهام الحكومة باستغلالها لتعظيم شعبيتها ورفع مستوى التصويت لها في الانتخابات القادمة.
الثاني: اعتبار الحكومة مسئولة عما آلت إليه الأوضاع في سوريا، وانتقاد تعامل الحكومة مع الثورة السورية منذ البدء.
الثالث: مهاجمة الجيش السوري الحر وانتقاد مشاركته مع الجيش التركي في العملية، تارة بدعوى أنه مجموعة إرهابية، وأخرى باعتباره يلقي الظلال على إنجازات الجيش التركي ويسرقها.
الرابع:دعوة الحكومة إلى تجنب دخول مدينة عفرين ذات الكثافة السكانية العالية بدعوى تقليل الخسائر البشرية في الجيش التركي، وهو ما اعتبرته الحكومة تقليصًا للعملية وتحديدًا لسقفها وإنجازاتها.
الخامس: دعوة أردوغان وحكومته للتواصل المباشر والتنسيق الكامل مع نظام الأسد باعتبار ذلك الوسيلة الأنجع للحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومواجهة المنظمات الانفصالية. وهو الاقتراح الذي رفضه أردوغان متسائلًا باستنكار عما «يمكن للحكومة أن تتواصل بشأنه مع من قتل مليون مواطن من شعبه».
سيناريوهات
وبالنظر لكل ما سبق، تبدو عملية غصن الزيتون أكثر خصوصية وحساسية من الأوضاع العامة في سوريا بالغة التعقيد، وتبدو أنقرة كأنها تسير على حبل مشدود ومنصوب فوق حقل ألغام شديدة الانفجار. فالحسابات الميدانية دقيقة، ومواقف الأطراف الفاعلة غير مستقرة، والمشهد الداخلي يعطي بعض الإشارات غير المريحة.واضعين بالحسبان كل ما سبق من عوامل وفواعل مؤثرة في مسار العملية وسقفها وفرص نجاحها وتداعياتها، يمكننا رصد أربعة سيناريوهات رئيسية للعملية:
الأول: عملية شاملة لإخراج حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية تمامًا من المشهد في عفرين، وهو السيناريو المفضل لتركيا، لكنه يواجه تحديات رئيسية أهمها الكثافة السكانية وطول المدة الزمنية، اللذان سيعرّضانها لمزيد من الضغوط الإقليمية والدولية لوقف العملية أو الحد منها جغرافيًا وزمنيًا.
الثاني: حزام آمنعلى طول الحدود المقابلة لعفرين بعمق 20 إلى 30 كم كما صرح رئيس الوزراء التركي، وهو خيار مؤقت أو مرحلي ممكن جدًا بالنسبة لتركيا، يضمن لها أمن حدودها ويجنبها المواجهة العسكرية في مناطق مكتظة بالمدنيين، خصوصًا إذا ما اقترن بسيطرة روسيا و/أو النظام على عفرين لإخراج الوحدات من المعادلة.
الثالث: استنزاف طويل الأمد، وهو السيناريو المفضل لوحدات الحماية وربما بعض الأطراف الداعمة لها، بحيث تكثر الخسائر في صفوف الجيشين التركي والسوري الحر إضافة للخسائر بين المدنيين، بحيث لا تستطيع تركيا الانسحاب ووقف العملية ولا حسم المواجهة من جهة أخرى. ولعل هذا السيناريو، سيناريو التوريط، هو ما يقلق صانع القرار التركي ويجعله متأنيًا في العملية من جهة، وراغبًا في إنهائها في أقرب وقت ممكن من جهة أخرى، أي قبل أن تتبدى مفاجآت غير سارة على مستوى تسليح الوحدات مثلًا.
الرابع: سيناريو الصفقة، وهو الذي كان مطروحًا على الوحدات من قبل روسيا قبل بدء العملية، لكنها رفضت تسليم عفرين للنظام. رغم ذلك، يبقى هذا الخيار قائمًا، بوساطة روسية أو إيرانية، خصوصًا إذا ما اشتد الضغط التركي مع تقدم العملية. سيناريو كهذا قد يريح جميع الأطراف، بحيث تريد روسيا الهدوء والعودة لمحادثات المسار السياسي وعدم خسارة الفصائل الكردية تمامًا لمصلحة واشنطن، وتريد إيران (والنظام) منع تركيا والجيش السوري الحر من السيطرة على مناطق جغرافية في عفرين (إضافة لدرع الفرات) ستنعكس ولا شك على طاولة التفاوض، وتريد الوحدات تجنب مواجهة شاملة مع أنقرة. ولعل الأخيرة إن خيّرت بين النظام وحلفائه وبين منظمات مصنفة إرهابية بالنسبة لها، كانت لتفضّل الخيار الأول.وفق المعطيات الحالية، يبدو سيناريو الحزام الآمن على الحدود التركية – السورية الأوفر حظًا باعتباره الأقرب لتحقيق أهم الأهداف التركية مع تجنب الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية والضغط الدولي على أنقرة. لكن تبقى السيناريوهات الأخرى حاضرة بدرجة أو بأخرى، باعتبار أن تركيا تتبنى سياسة الأهداف والمراحل المتدحرجة، أي المعدّلة حسب التطورات الميدانية والخارجية. فيما يبقى سيناريو الصفقة على قائمة الاحتياط، ويمكن تفعيله في أي لحظة تشعر فيها وحدات الحماية أنها على وشك الانكسار أمام أنقرة، أو أي مرحلة يقرر طرف ما – روسيا تحديدًا – حرمان تركيا من إعلان نصر واضح في العملية.