«العمامة والقبعة»: كيف زُيّف التاريخ؟
في هذا الوقت الذي يخط كتاب كثيرون رواياتهم بمتعدد طوائفهم وخلفياتهم الثقافية وأدائهم الأدبي وخيالهم الإبداعي، هناك الكثير من الروائيين مدفوعًا بسهولة النشر الورقي أحيانًا وانتشار دور النشر حديثة العهد التي تبحث عن المبيعات قبل الإبداعات، يملؤون الساحة الأدبية الحالية، ونظرة واحدة على مبيعات الكتب بمعرض الكتاب الأخير تعطيك لمحة عن المستوى والأنواع التي يبحث عنها القارئ الحالي بمجمله العام، وكل هذا يؤدي في النهاية للنقد الموجه للرواية كوجهة ثقافية فعلية، أم مجرد تقضية وقت لطيف لا أثر له فكريًا واقتصار الثقافة على قراءة الكتب.
حقيقةً قراءة الكتب لا غنى عنها لتكوين ثقافة متكاملة، ولكن أيضًا الثقافة المتكاملة لا تُصنَع دون قراءة الروايات، وهناك من الروائيين من تثبت أقلامهم أن الرواية مدخل مهم من مداخل الثقافة وعنصر من عناصر تكوينها. فروايات لـ«نجيب محفوظ»، و«يوسف إدريس»، و«توفيق الحكيم»، من الروايات الكلاسيكية، وروايات السيدة «رضوى عاشور» في رائعتيها «ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية»، والروائي «يوسف زيدان» في رائعته «عزازيل» و«النبطي»، وكاتبنا العزيز «صنع الله إبراهيم» في رواياته «شرف» و«ذات» و«بيروت بيروت» و«اللجنة»، وغيرهم من الروائيين يضعون الرواية كفنّ في شخصيتها الحقيقية، كأحد موردي صناعة الثقافة.
إن لمحة الضوء التي يلقيها الروائي صنع الله إبراهيم على فترة من أكثر فترات التاريخ المصري التباسًا، بسبب تعدد الشخوص التي تتداخل وتتناحر طوال ثلاث سنوات من الاحتلال الفرنسي لمصر، مميزة فعليًا بطريقة عرضها. التاريخ المصري في الفترة ما بين 1798م و1801م تاريخ ملتبس شائك وضبابي. سنتناول في البداية الجانب التاريخي، ثم في مقالات لاحقة سنستكمل جوانب أخرى سلطت الرواية الضوء عليها.
تبدأ رحلة الرواية يوم 22 يوليو 1798 ظهرًا مع انهزام المماليك تحت قيادة «مراد بك» في موقعة إمبابة، ثم محاولة «إبراهيم بك» ومماليكه ومن انضم من عامة الشعب له في محاولة يائسة لدحر الفرنسيس عند بولاق، وكما ذكر الراوي على لسان «عبد الرحمن الجبرتي» – أذكى عرض لشخصية في الرواية – جمعت الهزيمة أخيرًا بين الأميرين المتنافسين، ودخول الفرنسيس القاهرة تحت قيادة «ساري عسكر بونابرته» ملوحًا بمنشورات كتب فيها أنه يحترم الدين الإسلامي ويقدس النبي محمد والقرآن، وأنه أكثر إيمانًا من المماليك ومرتديًا جبة وقفطانًا، لتبدأ فعليًا بعدها أحداث الرواية في شكل مذكرات يخطها تلميذ الجبرتي عن الأحداث بشكل شبه يومي.
ذكاء العرض في الرواية نابع من عقلية أدبية حقيقية وبحث دؤوب واطلاع واسع. الرواية ربما هي صورة للقاهرة في هذا الوقت غير المستقر، بشكل لا يمنح أحدًا الهدوء لكتابة وتفنيد الأحداث بشكل متوازن وواقعي بعيدًا عن المؤثرات.
ترك صنع الله إبراهيم كل الشخوص الحقيقية وأقام بطولة روايته لشاب صعيدي جاور الأزهر وضمه الجبرتي إلى بيته كتلميذه. يسبح هذا التلميذ الذي لم يأخذ اسمًا في بحر الاضطراب ليحكم على شخصيات الرواية التاريخية الحقيقية وينظر لها نظرة المتفرج بداية، ثم محاولة التأثير في الأحداث بشكل شخصي في النهاية. ولكن شخصية التلميذ هذا الذي لا نعرف عنه سوى أنه جاور الأزهر وتتلمذ على يد الجبرتي، وكان يعمل قبل ذلك عند تاجر فرنسي أخذ عنه اللغة، هو ما سهل عليه الدخول وسط الفرنسيس في بيوتهم وأصحابه من القبط، وهو ما أعطانا رؤية عن وضع الأقباط في هذه الفترة وقت المماليك وبعد دخول الفرنسيس القاهرة، وطريقة تعامل العثمانلي معهم في خضم التناحر.
الرواية تاريخية بامتياز، وأسلوبها عامة في مذكرات ويوميات، وإن كان يبدو مملًا كمذهب في الكتابة، إلا أن القارئ يبدأ في التصالح مع شكل العرض الذي اختاره صنع الله إبراهيم. ويوفر الروائي سرد الأحداث تاريخيًا وتذكير القارئ بالأرقام، لأن التاريخ دائمًا حاضر غائب بين اليوميات.
لكن الرواية تلقي سؤالًا تاريخيًا قديمًا عن الزيف في التاريخ عامة، خاصة أن المنتصر هو من يكتب التاريخ في النهاية. وأشار الكاتب لهذا الوجه القبيح للتأريخ حين قرر الجبرتي بعد رحيل الفرنسيس إلى إعادة ما كتبه ليمحو منه ما استحسنه من الفرنسيس، حتى لا يتصادم مع الحاكم التركي الحالي وقتها، وينفي عن نفسه تهمة التعاون مع الفرنسيس. ويعد الجبرتي أحد أهم مؤرخي المرحلة في تلك الحقبة بكتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار». وبعد قراءة الرواية سيطرح هذا السؤال نفسه: هل التاريخ الموقع في الكتب هو ما حدث فعلًا؟! برغم أن في هذه الحالة كُتب التاريخ بأيدي المنتصرين بالفعل.
الرؤية الملتبسة للحملة الفرنسية، بين من يراها هي حملة التنوير للشرق الغارق وقتها في الرجعية، وبين من يراها أولى هجمات الإمبريالية، وكرست أولى صور الاحتلال لما تبعها بعد ذلك من حملات احتلالية على دول العالم القديم في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. ولكن بين هؤلاء وهؤلاء من يرى محاسن الحملة الفرنسية لم تكن موجهة في الحقيقة لخدمة وتنوير القطر المصري والشرق، ولكن كانت محاولة من المحتل للفهم الديموغرافي لبلد قرر أن يحتله إلى الأبد، ويستوطنه إلى ما لا نهاية.
الوجه الحسن للحملة الفرنسية ما هو إلا مساحيق تجميل لوجه المحتل الغاصب، الذي لا يهمه الوطن، بقدر ما يهمه إقامة مستعمرة مستقرة لطموحه الإمبريالي. وهو ما يظهر من مخالفة لكل المعتقدات التي قامت عليها الثورة الفرنسية من العدل والمساواة والإخاء، فالظلم واقع على المصريين طوال الثلاث سنوات، هذا بالنسبة للعدل. أما المساواة، فبرغم أن لغة الفرنسيس ساوت بين القبط والمسلمين، وهو ما خالف شرع المماليك الذين فرضوا لباسًا معينًا للأقباط، وقوانين جائرة تلزم القبط بالسير في جانب الطريق وألا يتوسطوه، وغيرها من الأحكام التي تذكي العداوة والفرقة، كما ظهرت أولى النظرات المصرية الشرقية لرجل فرنسي يتحدث عن أن للمرأة ما للرجل، ورأوه شيئًا عجبًا، إلا أن المساواة لم تتحقق عامة، فظلت طوائف الشعب مقهورة تحت حكم الفرنسيس مثل ما كانت وقت المماليك، فكان هناك يوميًا إعدامات بتهم معاونة المماليك وغيرها. والإخاء كان مفتقدًا كذلك، فما الذي يجعل مصريًا يقع وطنه تحت الاحتلال أخًا لفرنسي جاء من وراء البحر وسكن أرضه!
كانت الحملة الفرنسية دليلًا مؤرخًا عن سقوط الثورة الفرنسية في مبادئها الإنسانية التي تغنت بها وظلت تصدح بها حتى الآن. كانت كذلك سؤالًا كبيرًا عن مدى تزييف التاريخ للمنتصرين؛ فهذا «بونابرته» ينطلق صوب عكا لفرض سلطته على الشام وينكسر هناك أمام أسوارها القوية والأمراض التي لحقت به، ويعود ببيانات عن انتصاراته، ويهرب من مصر إلى فرنسا ويعلن هناك عن انتصاراته في الشرق كفاتح ومُخلِص! وفي نفس الوقت ترك قواته بلا مدد ودون اكتراث تواجه الأعداء من كل الأطراف بلا أمل، وتأريخ المؤرخين المعاصرين لبشائع الحملة دون حسناتها مرضاة للعثمانيين، ومن ثم ما ندرسه في كتب التاريخ في مدارسنا من محاسن الحملة الفرنسية دون ذكر واضح لمدى القهر والظلم والقتل والحرق الذي طال المصريين خلال الثلاث سنوات.
كانت الحملة الفرنسية هي الخطوة الأولى التي تبعتها كل الإمبراليات لتكوين متسعمرات وراء البحار وفي أقصى القارات، والقيام باستعباد الأمم بشكل منهجي اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا. كانت هي الدافع الأول لخروج ما يمثل التحرر الوطني كمصريين من كل ما هو غير مصري كالمماليك والعثمانيين والفرنسيس.
الرواية تضع الكثير من نقاط النور على مناطق مظلمة في تاريخ مصر، في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع، وسنتناولها تباعًا بشكل مفصل فيما هو قادم.