ترامب وروسيا وكبير الموظفين: سوء حظ أم غباء من الآخرين؟
سوء حظ أم غباء من الآخرين؛ العبارة المشهورة على ألسنة العديد من العرب عامةً والمصريين خاصةً، التي يحاول بها كل غبي أن يبرر أفعاله الغبية بأحد طريقين؛ سوء الحظ أو غباء الآخرين، دون أن يضع احتمالًا ثالثًا لأن يكون هو نفسه السبب. وأن غباءه هو ما يقف وراء هذه الأزمات والاختبارات الصعبة. ولنا في «ترامب» هنا مثل واضح على حصر النفس في أزمات متتالية، كلها أشد سوءًا، وعواقبها أشد وخامةً من بعضها. فمثلًا، حاليًا هناك الأزمة الروسية، وأزمة إقالة كبير موظفي البيت الأبيض بتهمةٍ أقرب للخيانة.
العقوبات الروسية
هكذا جاء الرد الروسي على العقوبات الأمريكية الجديدة التي أقرها الكونجرس منذ أيام، على الرغم من أن روسيا كانت تحاول جاهدة منذ وصول ترامب إلى السلطة تحسين العلاقات بين البلدين، والتأسيس لمرحلة دافئة جديدة تمحو فيها آثار الماضي، وتغفر الدول الأوربية وأمريكا لروسيا جريمتها الأولى بضمها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/آذار 2014، ثم دعمها لحركة انفصالية في شرق أوكرانيا «قادها مسلحون موالون لروسيا»، بل قيامها بنشر قوات تابعة لها على الأراضي الأوكرانية.وجاءت العقوبات الأولية على روسيا في مارس/آذار 2014 من قبل الولايات المُتحدة وأوروبا وكندا واليابان بحظر السفر على المسئولين والسياسيين من روسيا ومن القرم، وأعلن قادة الدول السبع الصناعية الكبرى عزمهم على إلغاء عقد قمة مجموعة الثماني في روسيا. ثم بعد ذلك بشهر، في أبريل/نيسان 2014، أصدرت الولايات المُتحدة حظرًا على التعامل الاقتصادي مع 7 مسئولين روس و17 شركة روسية، وصدّق الاتحاد الأوروبي على ذلك بفرض حظر سفر على 15 شخصية روسية.لتأتي الضربة القاضية في 17 يوليو/تموز 2014 عقب إسقاط طائرة ماليزية في شرق أوكرانيا، اتُهم فيها الانفصاليون؛ هنا خرج الاتحاد الأوروبي عن دبلوماسيته القائلة بأن الهدف من العقوبات ليس عقاب روسيا وإنما رغبة من الاتحاد في أن تُغير روسيا سياستها في أوكرانيا، وشن الاتحاد الأوروبي وأمريكا مقاطعة لثلاثة قطاعات حيوية، هي قطاع المال والطاقة، وقطاع الصناعة العسكرية، وقطاع الشحن. ثم شملت العقوبات ثلاثة بنوك روسية كبرى، ثم امتدت إلى منع مِنح التنمية الاقتصادية في روسيا.ثم في ديسمبر/كانون الثاني 2014 أقر الكونجرس الأمريكي قانونًا يُسمى دعم الحرية في أوكرانيا، يفرض بموجبه عقوبات أكثر حدة على شركات الأسلحة الروسية، ويمنع تصدير المُعدات ذات الاستخدام المُزدوج المدني والعسكري.
من 2014 إلى 2017: مياه كثيرة جرت في هذا النهر!
تشير التقارير الاقتصادية إلى أن الاتحاد الأوروبي خسر أكثر مما خسرت موسكو من جراء هذه الأزمة. فموسكو تستورد من الاتحاد الأوروبي ما يقارب 47 مليار دولار سنويًا من المواد الغذائية، وبتوقف هذه المليارات وغيرها من المليارات التي توقفت نتيجة العقوبات خسر الاتحاد الأوروبي ما يقارب 220 مليار دولار في سنة واحدة. ومثلًا فنلندا التي يشكل الاستيراد الروسي حوالي 41% من إجمالي إنتاجها، أعلنت توقف خطوط إنتاجها بالكامل بعد فرض العقوبات. وكذلك خسرت النمسا ما يُقارب 550 مليار يورو بسبب العقوبات على روسيا.إلا أنّه يجب عدم إغفال خسارة الجانب الروسي هو الآخر؛ فقد خلقت العقوبات مناخًا استثماريًا مليئًا بالشكوك وعدم الاستقرار مما دفع رأس المال الأجنبي إلى الهروب من السوق الروسية؛ فخسرت روسيا حوالي 14 مليار دولار في عام 2014 وحده. وتراجع الناتج المحلي بمقدار 3.7% ليصنفه صندوق النقد الدولي كعاشر أسوأ اقتصاد في العالم. كذلك انخفض احتياطي روسيا من النقد الأجنبي من 91.7 مليار دولار في 2014 إلى 32 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2015. ووصل معدل التضخم إلى 12.9% في 2015.ولأن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن؛ فبعد أن وطّنت روسيا نفسها على احتمالية تخفيف العقوبات؛ بسبب وصول حليفها ترامب إلى السلطة، الذي ألمح أكثر من مرة في حملته الانتخابية إلى رغبته في الاعتراف بالقرم كجزء تابع لروسيا واقترح رفع العقوبات عنها. جاء الكونجرس الأمريكي ليفرض مزيدًا من العقوبات عليها؛ في محاولة منه لعقابها على المزاعم المنتشرة بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أثمرت لنا دونالد ترامب، ويبدو أن تلك المزاعم قد استقرت في وجدان أعضاء الكونجرس كجريمة مُثبتة لا كقضية قيد التحقيق. وكان أوباما قد عاقب روسيا بالفعل منذ أن بدأت رائحة هذا التدخل تفوح بمصادرة مُجمّعين دبلوماسيين روسيين وإبعاد 35 دبلوماسيًا روسيًا.
إما الموافقة أو الموافقة!
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
وتمت الموافقة على القانون الجديد بأغلبية ساحقة، 98 صوتًا مقابل صوتين فقط. هنا يكون ترامب أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما الموافقة على القرار، أو الموافقة على القرار. لأنّه إن كان من الممكن نظريًا ودستوريًا للرئيس أن يستخدم حق النقض/الفيتو لرفض القرار؛ فإنه في هذه الحالة سوف يعود القرار إلى الكونجرس ليعيد التصويت عليه، وإذا ما حصل القرار على أغلبية الثلثين فإنّه يتجاوز تلقائيًا سلطة الرئيس ويصبح نافذًا مباشرة؛ ولذا فغالبًا ما يلجأ الرؤساء إلى الموافقة على قرارات الكونجرس التي تمر بأغلبية كبيرة كهذا القرار هربًا من الإحراج أمام الكونجرس والشعب.لا سيّما إن كان هذا الرئيس هو ترامب، الذي ما لبثت جميع مؤسسات الدولة تُحرجه، وتُوقف من قراراته ما شاءت، وتُنفذ ما شاءت. لهذا لم يكن من المتوقع أن يرفض ترامب هذا القرار، وهو ما أقره البيت الأبيض السبت 29 يوليو/تموز في تصريح للمتحدثة باسم البيت الأبيض سارة هاكابي ساندرز، والتي قالت إن ترامب بصدد مراجعة بعض النقاط «الحساسة» في القرار، إلا أنّه يعتزم التوقيع عليه. كما لا يبدو ترامب في سعةٍ من أمره لرفض القرار بسبب ما يُثار حول علاقته بالكرملين وتدخل روسيا لصالح حملته الانتخابية، فإذا ما رفض هذا القرار فإنّه يخطو بهذا خطوة واسعة نحو قرب انتهاء ولايته بالعزل الدستوري، ويضع مزيدًا من الشبهات حوله.وبقدر ما يوجه هذا القرار رسالة إلى الرئيس الروسي بوتين بأن الشعب الأمريكي وممثليه بالكونجرس يرون روسيا عدوًا لا شريكًا أو حليفًا كما يراها ترامب. فإنّه يوجه في الوقت ذاته رسالةً إلى ترامب أن الغطاء الحزبي الذي يستند إليه في قراراته المجنونة أحيانًا أو غير المدروسة أحيانًا أوشك أن يُرفع.فالإجماع شبه كامل في مجلس النواب على مشروع القرار، كما أنّ معارضة مجلس الشيوخ للقرار غير واردة، وهناك ذلك النص الذي أصر الجمهوريون -أعضاء حزب ترامب وأشقاؤه في المذهب والتوجه- على إضافته وهو ما يُتيح لنواب الكونجرس التدخل إذا أراد الرئيس رفع العقوبات أو تخفيفها. ورغم أن السلطة التنفيذية عارضت هذا النص بشدة، ونبّهت على إزالته، فإن الجمهوريين أصروا على تضمينه في مشروع القرار.