تنصيب ترامب: «جبل المكبر» في انتظار السفارة الأمريكية
هناك، حيث المرتفعات الصخرية في «جبل المكبر» – الذي وقف عليه الخليفة عمر بن الخطاب مُكبِراً حينما وطئت قدماه القدس ليتسلم مفاتيحها قبل نحو أربعة عشر قرناً مضت – ينتصب بناء ضخم يحمل على الواجهة شارة النسر، التي ترمز إلى القنصلية الأمريكية في القدس.
هذه البقعة على وشك أن تتحول إلى بؤرة صراع جديدة؛ أو كما وصف البعض بأن «أبواب النيران ستُفتح على مصراعيها في هذه المنطقة».
دونالد ترامب، الذي أصبح رسمياً الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأمريكية، أكد مراراً أثناء حملته الانتخابية عزمه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. فهل يُنجز ترامب هذه المهمة، أم يحتفظ به مجرد وعد انتخابي مثل الرؤساء السابقين؟
في حب «إسرائيل»
لطالما كانت الانتخابات الأمريكية ساحة للمنافسة في «حب إسرائيل» واجتذاب أصوات اليهود الانتخابية، فمنذ أوائل السبعينات الماضية وإلى الآن، لم يتخلف الرؤساء الأمريكيون، عن إرسال الوعود بنقل السفارة، لكنهم بقوا على تفضيلهم التراجع عن الوفاء بوعودهم، خشية المسّ بعلاقات ومصالح الولايات المتحدة مع دول المنطقة العربية والإسلامية، وبذريعة أنه لا يجب الإسراع بتنفيذ فكرة النقل ما لم يتم الاتفاق بشأنها.
ففي عام 1995 صدر قانون أقره مجلس الشيوخ الأمريكي، ألزم الحكومة بنقل السفارة إلى القدس في موعدٍ أقصاه الآخر من مايو/ أيار 1999، ولكنّ ذلك لم يحدث أبداً، بسبب معارضة الرئيس بيل كلينتون، رغم مصادقته على القانون، وحذا حذوه جورج بوش الابن وباراك أوباما، وتحولت هذه القرارات إلى عرف سياسي شبه مُلزم، حرصاً على المصالح الأمريكية.
لذا فالرئيس ترامب لم يبتدع جديداً بذلك التصريح، لكن هناك مؤشرات كثيرة تنذر بتحول العرف السياسي إلى قرار قابل للتنفيذ، فقد ارتفعت وتيرة الأحاديث الإعلامية حول نية الرئيس الأمريكي الجديد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الأمر الذي يعني اعتراف الولايات المتحدة بالقدس المحتلة عاصمة «مقدسية أبدية» لإسرائيل.
الرئيس المنتخب في هذه المرة يُعتبر جاداً في تهديده، مُختلفاً عمن سبقوه، باعتباره محباً لإسرائيل ومؤيداً لليمين المتطرف، وكانت كيليان كونواي، مستشارة الرئيس الأمريكي المنتخب، قد صرّحت في مقابلة إذاعية، بأن نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس «يشكل أولوية كبيرة لدى ترامب».
وتجدر الإشارة إلى أن رجل الأعمال «جارد كوشنر”»، صهر ترامب، قدّم دعمًا ماليًا ضخمًا لعدة مستوطنات إسرائيلية أبرزها «يستهار»، كما تم تعيين المحامي «ديفيد فريدمان» سفيراً أمريكياً جديداً في إسرائيل، وهو من يدعم سياسياً ومالياً توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وهو من يملك شخصياً ثلاثة منازل في القدس، وقد أعرب سابقاً عن رغبته في الإقامة والعمل في المدينة المقدسية، ودائماً انتقد السياسة الأمريكية التي رأى أنها كانت تعمل ضد السامية وضد إسرائيل خلال السبعين عاماً الماضية.
وفي الداخل الأمريكي، تستعد مجموعة كبيرة من أعضاء الكونجرس من الجمهوريين للضغط على ترامب في هذا الصدد، حيث كتب العضو «رون ديسانتيس» من فلوريدا، عريضة جمعت أكثر من 100 توقيع من النواب الجمهوريين، تطالب الرئيس الأمريكي الجديد بـ«اتخاذ إجراءات سريعة لنقل سفارتنا إلى القدس بأقرب وقت».
في المقابل، اتسم رد الفعل الفلسطيني إزاء تلك التوجهات الأمريكية، بالإعلان عن اتخاذ إجراءات حاسمة ضد هذا القرار، كان أشدها ما أعلنه أمين سر اللجنة التنفيذية لحركة فتح، صائب عريقات، بسحب الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والسلطة الذي تم في أوسلو بين عرفات ورابين عام 1993، ووصل الأمر بأن استنجد الرئيس عباس، عبر رسالة خطية، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طالباً المساعدة لمنع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
مؤتمر باريس: رسالة للرئيس المنتخب
قبل خمسة أيام فقط من تنصيب ترامب رئيساً، عُقد مؤتمر «باريس للسلام» أو ما سُمي إعلامياً بـ «أوقفوا ترامب»، لصياغة مبادرة لاستئناف عملية السلام بما يضمن حل إقامة الدولتين، واستضافت فرنسا المؤتمر دون مشاركة الجانبين الفلسطينيين أو الإسرائيليين.
وخلص المؤتمر، الذي شاركت فيه نحو 70 دولة من بينها دول عربية وأوروبية إلى جانب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إلى أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد للمضي قدماً لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن خطط ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس قد تُخرج جهود السلام عن مسارها. وقال وزير الخارجية الفرنسي في هذا السياق: «اقتراح ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس سيكون استفزازاً له عواقب خطيرة».
وقالت فيديريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي: «من المهم للغاية أن نُحجم جميعًا عن التحركات الأحادية، خاصة تلك التي قد تكون لها تداعيات خطيرة».
بالمثل أعرب وزير الخارجية الإيرلندي تشارلز فلاناغان، عن القلق إزاء أي تغيير لموقف تمسكت به الولايات المتحدة طويلاً فيما يتعلق بموقع السفارات.
وعلى الجانب الإسرائيلي، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بوصف الاجتماع بأنه «غير مُجدٍ» و«زائف»، في حين تتواصل تصعيدات الاحتلال وممارساته الاستيطانية، التي تتبعها حكومة نتنياهو مستندةً ومراهنةً على دعم ترامب.
تداعيات نقل السفارة للقدس
منذ ستينيات القرن الماضي تم تخصيص بناء في شارع اليركون في تل أبيب ليكون سفارة الولايات المتحدة، وتقع معظم سفارات الدول الأجنبية في تل أبيب، باستثناء دولتي كوستاريكا والسلفادور اللتين نقلتا سفارتيهما إلى القدس عام 1982، قبل أن تعيدهما إلى تل أبيب مرة أخرى عام 2006.
ورغم التأكيدات المتواصلة بشأن عزم الإدارة الأمريكية نقل السفارة للقدس، أشارت الكثير من التوقعات الدبلوماسية إلى أن ذلك القرار لن يتم تنفيذه في المستقبل القريب، يستند ذلك الطرح إلى أن ترامب لن يجرؤ على تلك الخطوة، لكن بإمكانه أن يحول دون أي مشروع قرار يفرض عقوبات على إسرائيل، استناداً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
حيث شكك رئيس مجلس حاخامات أوروبا «بينحاس غولدشميدت»، في مدى واقعية تحقيق ترامب لوعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بالقول «سأكون مُندهشاً للغاية في حال إذا فعلت الخارجية الأمريكية ذلك الأمر».
لكن وفقاً لسلطات رئيس الدولة، بإمكان ترامب بقرار رئاسي نقل السفارة الأمريكية، ضارباً عرض الحائط بكل النصائح المُثنِية عن عزمه، لكن عليه الانتظار ستة أشهر من بداية هذا العام طبقاً لتوقيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الأول من الشهر الجاري، يناير/ كانون الثاني 2017، قراراً بتعليق نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
وعلى كل حال، فإن إقدام ترامب على هذه الخطوة سيكون له تداعيات خطيرة؛ فعلى المستوى الفلسطيني، يضع نقل السفارة الأمريكية السلطة الفلسطينية أمام تحد كبير، فهو بمثابة ضربة موجعة للسلطة، وسيزيد ذلك من ضعف ثقة الفلسطينيين في قدرتها على إعادة حقوقهم المسلوبة، وقد تتصاعد الانتفاضة الحالية، وتتوسع أعمال المقاومة بشكل غير مسبوق.
وبخصوص خيارات السلطة، فإن الأقرب هو سحبها للاعتراف بإسرائيل، مما قد يترتب عليه عملية تفكيك لها، والعودة إلى قبل أوسلو، أو قيام دولة فلسطينية عاصمتها شرقي القدس وهذا مستحيل في ظل مواصلة الاحتلال ممارساته في تهويد المدينة المحتلة.
وفي الأردن، سيُشكّل نقل السفارة الأمريكية إحراجاً للقيادة الأردنية، التي مُنحت حق إدارة الأماكن المقدسة في القدس، كما سيُعتبر خرقاً لاتفاقية “«وادي عربة» للسلام بين الأردن وإسرائيل. حيث حذّر المتحدث باسم الحكومة الأردنية، محمد الموني، من تداعيات كارثية إذا نفذ ترامب وعوده، معتبراً نقل السفارة سيكون خطاً أحمر بالنسبة للأردن.
أما إيران وحزب الله، سيكونان من أكبر الأطراف الإقليمية المستفيدة إذا ما تم نقل السفارة، وتوترت العلاقات العربية مع إسرائيل والولايات المتحدة، فإيران ستندفع نحو توسيع نفوذها في المنطقة، بينما سيسعى حزب الله للاستفادة من الأجواء الملتهبة لتحويل أنظار العالم لإسرائيل، خاصة مع تمركزه في الجنوب السوري واللبناني معاً.
على النقيض، قلل شلومو بروم، مدير برنامج العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية في معهد دراسات الأمن القومي، من خطورة رد فعل إيران وحزب الله وحماس إزاء نقل السفارة الأمريكية للقدس، حيث ذكر أن: «حزب الله وحماس لن يبحثا عن أي حوادث مع إسرائيل، لأنهم منشغلون جداً، فحماس منشغلة بأزمة الكهرباء في قطاع غزة، وحزب الله منغمس في قتاله داخل سوريا».
وسيشكل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خرقاً لقرارات الجمعية العمومية ومجلس الأمن منذ عام 1947 حول القضية الفلسطينية، وأيضًا القرار رقم 478، الصادر عام 1980، الذي ينص على دعوة الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات؛ مما سيُقلل من مصداقية الولايات المتحدة أمام العالم والجانب الفلسطيني كوسيط قادر وراغب في صنع السلام.
لا شك أن الأيام المقبلة ستكون فاصلة في مسار القضية الفلسطينية، وسيكون لها تداعيات متسارعة على المنطقة بأسرها.
- خالد الأصمعي، "احتدام الصراع حول نقل السفارة الأمريكية للقدس"، الأهرام، 14 يناير 2017.
- رنا الشرفي، "سحب منظمة التحرير اعترافها بـ(إسرائيل) هل ينعش خيار الدولتين؟"، فلسطين أن لاين، 13 يناير 2017.
- "الفلسطينيون "يستنجدون" ببوتين لمنع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس"، فرنسا 24، 14 يناير 2017.
- "نقل السفارة الامريكية إلى القدس.. الانفجار المقبل بالمنطقة!"، القدس، 13 ديسمبر 2016.
- Peter Beaumon, "Moving U.S embassy to Jerusalem could provoke violent 'chaos': experts warn", The guardian, 21 December 2016.
- Dalia Dassa Kaye, “Hidden dangers of moving the U.S Embassy to Jerusalem”, Newsweek, 12 December 2016.
- "Donald’s daring diplomacy, moving American embassy to JJerusalem”, The Economist, 24 December 2016.
- Byanna Ahronheim, "Analysis: If the U.S embassy moves to Jerusalem, are we looking for Intifada?”, Jerusalem Post, 16 January 2017.