عقدة «ترامب»: تدمير الدولة والعالم في طريق التمكين
اقتربنا من مرور العام على قدوم رئيس جديد للولايات المتحدة، يدعى «دونالد ترامب»، لم يكن معروفًا من قبل إلا بأنه رجل أعمال كبير يعرفه أصحاب المال والأعمال، حتى أنه كان معروفًا بمتابعته للمصارعة الحرة. تعرض الجميع للصدمة بعد ظهور نتائج التصويت بإعلان فوزه. وهو صاحب الخطاب الشعبوي العنصري الذي يمثل نسخة أكثر فجاجة للمحافظين الجدد. فلا تمر فرصة عليه إلا ويقوم بمهاجمة المهاجرين، لاسيما المسلمين الذين وضعهم في سلة واحدة، سماها سلة الإرهاب، ووصلت به العنصرية إلى المرأة والأقليات الإثنية والعرقية، جميعهم لم يسلموا من لسانه السليط.
لم تخل فترة ترشحه وطبيعة القضايا التي أثارها من تفاعل واشتباك مستمرين بين المتابعين؛ بين فرحٍ، نكاية في مشروع الربيع العربي، وبين خائفٍ قلق. وعالميًا، لم يغب حضور تحليلات اقتراب حرب عالمية ثالثة، مع قدوم مجموعة من المجانين على رأس السلطة في دول عدة.
يبحث التقرير تقييم تجربة عام من حكم ترامب، بدايةً من رؤيته التي قدمها وما طبقه منها، مرورًا بأثر سياساته وقراراته على مستقبل المجتمع الدولي في ضوء علاقاته مع روسيا والصين، وانتهاءً بإطلالة على فئة المحافظين الجدد من حيث طبيعة رؤيتهم، وأبرز منطلقاتهم، ومدى اقترابها من عقيدة ترامب.
عقدة ترامب
جرى العرف بتسمية الرؤية التي تقدمها الإدارات المتعاقبة على حكم الولايات المتحدة بالعقيدة، أو المبدأ، إلا أننا في حالة ترامب لا يمكن وصفها إلا بالعقدة. فهو شخص يغلب عليه معاناته من إرث تاريخي كبر معه منذ نعومة أظافره، وتضخم بمرور الأيام، ومن هنا صاغ رؤيته في عبارة «أمريكا أولًا». يمكنه فعل كل شىء في سبيل تعزيز قوته، وهو ما دفعه للاعتقاد بضرورة عزلة أمريكا، وانسحابها من قيادة المجتمع الدولي بمفردها، لأن ذلك كلفها الكثير والكثير، داعيًا لرفع يد الحماية الأمريكية من كل شيء.
أخذ الجميع يتنبأ بتفكك التحالفات الاستراتيجية التقليدية للولايات المتحدة، والتي تشكلت عقب الحرب العالمية الثانية، لاسيما بعد تساؤله عن جدوى استمرار حلف الناتو، الذي تتجرع الخزانة الأمريكية الجزء الأكبر من نفقاته.
وفي سبيل ترسيخ مبدئه حول العزلة ومعارضته للعولمة، قام بالانسحاب من اتفاقية السوق الحرة، وتبني برامج للحماية، بهدف الذود عن الاقتصاد الذي يعاني منذ الأزمة العالمية في 2008، فضلًا عن الانسحاب من اتفاقية المناخ، رغم مراعاتها للمصالح الأمريكية تحديدًا. فهو يرى أنه في سبيل عودة أمريكا لقوتها وهيمنتها هناك حاجة لعودة التوسع الصناعي الهائل، وهو ما استغله بخطابه الشعبوي العنصري.
من هنا، مثّل ترامب لمؤيديه من فئات الشعب الأمريكي البسيط فرصة للثورة على النخب الليبرالية، فكانت ثمة مفارقة سوسيولوجية غريبة، استشفها الدكتور عزمي بشارة، وهي أن الغني البليونير يبدو لسكان الأرياف والمناطق العمالية الصناعية غير نخبوي لمجرد أنه يتبنى خطابًا شعبيًا، والطبقات الوسطى الليبرالية في المدن تبدو أكثر نخبوية وأبعد من ترامب عنهم مسافات بسبب الأفكار والقيم، حتى لو كانت أقرب طبقيًا لمصالحها، وهو ما منحه أصواتهم، نتيجة شعورهم بقربه منهم، رغم كونه التجسيد المثالي لعدم عدالة الرأسمالية.
المنطقة العربية كما يراها ترامب
في البداية، إن نظرة ترامب للشرق الأوسط تدور حول ثلاثة ملفات رئيسية، أولها استراتيجي وأمني، متمثل في حماية أمن اسرائيل، واتخاذ كل التكتيكات في الحفاظ على الأفضلية العسكرية والتكنولوجية الإسرائيلية في المنطقة، فضلًا عن مواجهة مختلف الأخطار التي تواجهها؛ بداية من إيران ومليشياتها، مرورًا بالجماعات الإسلامية جميعها، وانتهاءً بدعم الأنظمة العربية المسالمة لها.
وثانيها اقتصادي متمثل في تأمين سيولة النفط العربي إلى أمريكا. فرغم اكتشافات النفط الصخري الأمريكي، فإن النفط العربي مازال رقمًا مهمًا في معادلة النظام المالي العالمي، وثالثها سياسي دولي، متمثل في استمرار هيمنة أمريكا على المجتمع الدولي، نظرًا لمحورية الموقع الذي تمثله المنطقة، واحتمالية تحولها لنقطة صراع قطبي دولي بين أمريكا والصين وروسيا، مثلما كان كذلك تاريخيًا.
انتقد ترامب الطريقة التي تعاملت بها واشنطن مع ثورات الربيع العربي، والتي أدت في النهاية إلى انتشار الفوضى، حسب رأيه، بل حمّلهم نتيجة ما تعرض له السفير الأمريكي في ليبيا، لذا أعلن دعمه وتأييده للأنظمة الاستبدادية، وفي مقدمتها النظام المصري.
وفي الحقيقة، لا يمكن فهم رؤية ترامب للمسلمين والعرب، دون إدراك منطلقات تشكّل رؤيته تلك، فهو يعتقد أن هؤلاء لديهم مخزون حضاري وثقافي يتسبب بصورة رئيسية فيما يعانون منه من انتشار للخرافات والجهل، وما يحكمهم من نظم مستبدة، وما يؤذي العالم منهم من إرهاب وتطرف، ومن هنا كانت حربه على الإسلام كأيديولوجيا.
بدأ ترامب رحلته للعالم الخارجي بزيارة المنطقة العربية، فكانت وسيلته لتوجيه رسائله هي المملكة العربية السعودية، وفي الحقيقة تشير هذه الواقعة لعدد من الدلالات؛ بدايتها، تحول الثقل العربي من مصر إلى الخليج، فضلًا عن محورية قضية مواجهة الإرهاب الدولي الذي يراه ترامب وإدارته في كل ما له علاقة بالإسلام السياسي، والذي ربطه ربطًا مباشرًا بإيران، حيث وضعهم جميعا في بوتقة واحدة، وهي العنف.
إلا أن الفكرة الأهم تبدو في ضرورة تطبيق رؤية ترامب للمنطقة من قلب المملكة. حيث يبدو أن ابن سلمان قد وصلت له تلك الدلالة جيدًا، وعليه أخذ يخطو خطوات بعيدة في طريق «تحديث» المجتمع السعودي بغرض الحصول على رضا أولاد العم سام.
أعلن ترامب في حملته الانتخابية أنه لن يستخدم الأداة العسكرية إلا للضرورة القصوى المتمثلة في تعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر المباشر. وعليه من المنتظر تشكيل محور أمريكي صهيوني عربي، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، يموله الخليج بالمال والعتاد وربما المرتزقة، فيما سيقتصر الدور الأمريكي على السلاح الجوي، فضلًا عن الاستفادة من هذا السياق في إعادة تشغيل المركب الصناعي العسكري، في ضخ دفعة مليارات جديدة تجاوزت ثلاثمائة مليار هذه المرة.
وستكون قضيته الأولى مواجهة التيارات الإسلامية السياسية من جهة، والجمهورية الإيرانية وروافدها من جهة ثانية. وعليه أعلن ترامب أنه سيتخذ كل السبل من أجل مراجعة وإلغاء اتفاق أوباما «الخاطئ» مع إيران، الذي سيمنحها فرصة لتهديد أمن إسرائيل، لذا صدّق على عدم التزام طهران بالشروط التي تم عليها الاتفاق، ومرره إلى الكونجرس، للبتّ فيه.
والجدير بالذكر، عند الحديث عن المحور الأمريكي –الصهيوني- العربي، أن حالة الجفاء التي حدثت بين دول الخليج وأوباما نتيجة تبنيه استراتيجية المسار السلمي السياسي في تسوية الملف النووي الإيراني، ثم تحولت العلاقة الامريكية الخليجية بعد انتصار ترامب إلى الرغبة في التحالف مع الكيان الصهيوني، كل ذلك أفقدهم إدراك حقيقة مهمة، بخصوص هذا «المختل»، أنه لا يمكن لهذا الدفء أن يدوم إلى الأبد.
رؤية ساذجة
برؤية سطحية ساذجة يري ترامب ضرورة فتح آفاق التعاون مع روسيا، التي تحارب داعش في سوريا، بل دعا إلى التنسيق العسكري معها بهدف تحقيق مصلحة أمريكية في القضاء على داعش، دون أن تخسر أمريكا جنديًا واحدًا. أما عن أزمة أوكرانيا فهي بالنسبة له شأن أوروبي، لا ينبغي أن تتدخل فيه أمريكا، ويتعامل مع سوريا باعتبارها نقطة انطلاق خطر تنظيم الدولة. بالتالي، فإن التخلص من الأخير، هو هدف أمريكا من سوريا، فإذا استطاعت روسيا تحقيق ذلك، كان خيرًا، وإذا لم تستطع، فلابد أن تتدخل أمريكا للتخلص من هذا الخطر!
وفي حقيقة الأمر، يسهم هذا التصور في تحقيق تعددية قطبية في قيادة المجتمع الدولي. فانعزال أمريكا وانسحابها من التحالف مع أوروبا سيجعل أوروبا تتحالف من أجل مواجهة التوسع الروسي في وقت تتمدد فيه الصين على المستوى العالمي بصورة هائلة، سيجعل نموها عام 2019، أعلى معدل نمو في العالم، فضلًا عن ذلك تكتمل سذاجة الطرح الترامبي في ضرورة التقارب مع الصين من منطلق القوة والغلبة، مع الضغط على الأخيرة، من أجل مواجهة وإخضاع كوريا الشمالية.
اقرأ ايضً:ماذا لو كان ترامب قائدًا للسفين تايتانك؟
وهو الأمر الذي يمكّن أمريكا في النهاية من تجنب أخطار الإرهابيين في المنطقة العربية، من خلال الآلة العسكرية للنظام الروسي خارجيًا، والأنظمة العربية المستبدة داخليًا، فضلًا عن إخضاع الصين لكوريا، وبالتالي تستعيد أمريكا هيمنتها الكاملة، دون أى خسائر عسكرية، وبمكاسب اقتصادية وسياسية هائلة، وهو تفكيرٌ طفولي، يصعب أن تخضع له حسابات الأمر الواقع.
فضائح وإقالات تهدد بالعزل
جاء الجنرال«هربرت رايموند ماكماستر» مستشارًا جديدًا للأمن القومي بدلًا من «مايكل فلين» الذي دُفع إلى الاستقالة قبل إتمام الشهر على ممارسة مهام منصبه، إثر اتصالات تمت بينه وبين روسيا قبل تولي ترامب للحكم، قيل إنها «عملية تضليل» للإدارة الأمريكية بشأن العقوبات التي فرضها «باراك أوباما« على روسيا بشأن إثبات مساعدتها لترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية.
وكان اختيار ترامب لشخصية لها تاريخ في الشرق الأوسط، فقد شارك في غزو أفغانستان والعراق، وكان له دور في استراتيجية الصحوات، الذين تم الاستعانة بهم من طوائف السنة في العراق، من أجل مواجهة تنظيم القاعدة، حيث لا يضع ماكماستر جميع حركات الإسلام السياسي في بوتقة واحدة، مما يوضح تحولات ستأتي غالبًا في الموقف الأمريكي، ليس فقط بخصوص الموقف الروسي، بل في المنطقة هنا، وربما يلقي هذا الأمر بظلاله، في الداخل الأمريكي فيما يخص طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع المهاجرين المسلمين، لا سيما بعد فشل ماري لوبان في الفوز برئاسة فرنسا، وهو ما مثل ضربة لليمين العنصري، الذي تبنى قضية الإرهاب الإسلامي كوسيلة لحشد والتفاف الجميع حوله.
اقرأ ايضًا:«نار وغضب»: أسرار البيت الأبيض على الهواء مباشرةً
أظهر ترامب منذ البداية تأييدًا لسياسات روسيا- بوتين، وظهر جليًا في قمة العشرين من مغازلة الأول للأخير، بل تجاوز اللقاء الذي كان مقررًا لمدة 35 دقيقة الساعتين و16 دقيقة.
إلا أن هذا الأمر من الصعب توقع استمراره، لذلك قبل أن تحط طائرة ترامب في واشنطن على وقع تفاقم ملف التحقيق بالتدخل الروسي بعد انكشاف معلومات جديدة، كان من الصعب أن تجد في الصحافة الأمريكية المستقلة أو محطات التلفزة أي شيء إيجابي عن ترامب وأدائه، حتى صحيفة «وول ستريت» المحافظة المؤيدة له استبقت عودته بافتتاحية عنوانها «بوتين ليس صديقًا لأمريكا» ردًا على الود الذي أظهره ترامب بعد لقائه مع نظيره الروسي على هامش قمة العشرين.
لذلك كان طبيعيًا أن يتراجع ترامب عن مواقفه عندما أعلن في خطاب وثيقة الأمن القومي، أنه يعتقد أن روسيا والصين خصمين منافسين للنفوذ الأمريكي.
ونتيجة لما سبق، غالبًا سيدخل النظام الدولي مرحلة تعددية قطبية، يسودها حالة من الصراع، نتيجة التنافس على الاستحواذ، على مناطق نفوذ جديدة لكل طرف.
طبول الحرب الأمريكية تدق على آسيا
زادت حدة الحرب الإعلامية بين الرئيسين الكوري الشمالي والأمريكي على خلفية رغبة أمريكا في التخلص من خطر التهديد المحتمل المستمر من كوريا. لذا ماذا يمكن أن تقدمه أمريكا للعالم إذا أقدمت على دخول حرب آسيوية جديدة؟
رغم أن ترامب اعتقد أنه يمكنه الاعتماد على الصين، في هذه الحالة، فإنه انقلب عليها في إعلان وثيقة الأمن القومي الأمريكي، التي اتهم فيها الصين بمحاولة الالتفاف على مصلحة أمريكا، وتقويض إمبراطوريتها.
ولذا من الممكن تصور، بل من المرجح، أن تكون النتيجة حربًا شرسة تؤدي إلى الإطاحة بالنظام الكوري الشمالي، ولكنها قد تقتل مئات الآلاف أو حتى الملايين من حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، والآلاف من القوات الأمريكية. يُذكر أن العاصمة الكورية الجنوبية «سيول» تقع في مرمى مجموعة من آلاف القطع المدفعية الكورية الشمالية، وكوريا الشمالية لديها أسلحة كيميائية وكذلك تقليدية.
اقرأ أيضًا:لهذا السبب انقلبت أمريكا على باكستان
إن مثل هذا الهجوم يمكن أن يقوض تمامًا العلاقات الدولية في آسيا، ويحوِّل كوريا الجنوبية بشكل دائم ضد الحليف الذي يتجاهل مصالحها بكل رعونة. ويمكن أن يجلب التدخل الصيني إذا ما اعتقدت بكين أن الأمريكيين يسعون إلى إعادة توحيد شبه الجزيرة بشروطهم الخاصة. يمكن أن يقنع الحلفاء الأمريكيين الآخرين، الذين تعتمد عليهم الولايات المتحدة، والذين يشكِّلون جوهر قوتها الدولية، أن زعيمها مجنون، وأن النظام السياسي الذي أفرزه مختل بشكل خطير.
إن الحرب الكورية ستسيطر تمامًا على انتباه صناع القرار الأمريكيين وجهود قواتها المسلحة. وبطريقة ما، ستكون نعمة لخصوم أمريكا. وبينما تتصدى الولايات المتحدة للمشاكل والعواقب غير المتوقعة لهذا الصراع، يمكن للروس والصينيين والجهاديين أن يتحركوا بحرية أكثر من ذي قبل. وإذا كان رد الفعل الانعزالي في الولايات المتحدة واضحًا من الآن، فما الذي قد يحدث في أعقاب مغامرة دموية في شمال شرق آسيا؟ لذا لا ينبغي توقع حدوث ذلك، من الإمبراطور المريض، الذي ينتظر الجميع سقوطه، حتى يحصلوا على تركته.
المحافظون الجدد والقديس ترامب ووعد القدس
تحت مظلة «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، صاغ مجموعة من المحافظين الجدد مشروعًا يستهدف تحقيق هيمنة أمريكية على العالم، معتمدين على القوة العسكرية، علاوةً على قوة الأيديولوجيا الدينية التي سيتم الحديث عنها لاحقًا.
يؤمن المحافظون الجدد بعدم جدوى الأداة السياسية والدبلوماسية، وعلى إثر ذلك شنوا حربًا عسكرية كاملة على كل من أفغانستان والعراق، علاوة على استدعاء بوش الابن للخطاب الديني، المتمثل في كون حربه تمثل امتدادًا للحروب الصليبية التي حدثت في العصور الوسطى، ومازالت مستمرة حتى اليوم، وإن كانت بأشكال مختلفة.
إن تأسيس نظام عالمي ليبرالي يؤمن بالقيم الأمريكية، ويتبع سياساتها، يحتاج إلى الأداة العسكرية التي تفرضه، وليس السياسية التفاوضية. ورغم انتماء ترامب لتيار المحافظين الجدد، فإنه يختلف عنهم في قضيتين محوريتين، الأولى خاصة باستخدام الأداة العسكرية، والثانية خاصة بفكرة نشر الديمقراطية، فترامب يؤمن بضرورة تخلي أمريكا عن مبدأ الدفاع عن حلفائها، وأن يتولى كل طرف حماية نفسه، وألا تتدخل إلا بغرض مصلحة مباشرة تريد تحقيقها، أو خطر وتهديد محتملين تريد دفعهما، فضلًا عن رفضه قيام أمريكا بنشر النظام الليبرالي في دول العالم، لاسيما المنطقة العربية، التي يؤيد أهمية النظم السلطوية فيها لأجل استقرارها.
إلا أنه في الواقع، يمكن التأريخ لتخلي المحافظين الجدد عن فكرة دعم الديمقراطية في العالم بعد فشلها في العراق، وهو ذات المصير الذي انتهي إليه الديمقراطيون في أمريكا حينما أعلن أوباما ذلك قبل ترامب في جامعة القاهرة، قائلًا: ليس على أمريكا تعليم العالم، حيث ينبغي عليها قبول التعددية والتنوع في الحضارة البشرية.
رغم بعض الاختلافات بين ترامب والمحافظين الجدد، فإن دورهم مازال قائمًا، وجليًا في توجهات وقرارات السياسة الأمريكية مؤخرًا، في عودة الأداة العسكرية للظهور مجددًا على الساحة. إذ تمثل هذه الأداة وسيلة أمريكا للهيمنة على العالم، في منطلقاتهم كما ذكرنا آنفًا. وقد قام البنتاجون بتوجيه ضربة عسكرية لمطار الشعيرات، عقب قيام النظام السوري، بضرب قرية خان شيخون بالكيماوي، فضلًا عن ضرب طالبان بأم القنابل، في استعراض آخر للقوة، وهذا الاستخدام العسكري يتنافي مع خطاب ترامب في مرحلته الانتخابية، وهو ما يوضح أن الأخير لا يهيمن على القرار السياسي بمفرده، بل هناك أطراف أخرى تشاركه في اتخاذ القرارات المختلفة، وهو يأخذنا إلى قضية من يحكم أمريكا؟ وبالتالي القدرة على إعطاء تحليل أقوى حول مستقبل المشروع الترامبي في المنطقة والعالم، وحجم ما يملكه من صلاحيات في تغيير طبيعة المصالح والتحالفات الأمريكية.
اقرأ أيضًا:أم القنابل: تدخل جديد إذ لا صوت يعلو فوق صوت جنرالات ترامب
عندما صعد المسيح بالمؤمنين هربًا من أسوأ سبع سنوات على الأرض ستمتلئ بالمعاناة والاضطراب: وهي المحنة الكبرى. ويعقب هذا معركة ملحمية بين الأخيار والأشرار تسمى هرمجدون التي سيسحق فيها الأخيار شرار الخلق، وحينها لن يكون هناك مفر أمام اليهود، إلا إعلان استجابتهم للدعوة، أو الفناء تمامًا. لذا قالت إحداهن إن:
حيث ينظر كثير من مؤيدي الرئيس ترامب الإنجيليين إلى هذا الإعلان باعتباره خطوة رئيسية في تقدم الأحداث التي تؤدي إلى الظهور الثاني للمسيح.
وختامًا، فالاستراتيجية الأمريكية واضحة ومحددة سلفًا، وما يتغير هو التكتيكات والخطط التنفيذية، وعليه نجد أن مساحات كل إدارة في التغيير محدودة بأفق هذه الاستراتيجية، مهما ادعت كل إدارة التغيير، وليس أفضل من ذكر مرحلة أوباما مثلًا على ذلك. وهو الذي جاء بشعار «التغيير»، بعد مرحلة دموية بين الأمريكان والمسلمين، ورغم حديثه عن الإسلام والمسلمين، وتفريقه بين الإسلاميين المعتدلين والراديكاليين، وحديثه حول إغلاق معتقل جوانتنامو، وموقفه من دعم الثورة السورية، لم يستطع أوباما الذهاب بعيدًا، ولذلك من الصعب توقع استمرار سياسات ترامب، بل إن المتابع يدرك تراجعه في كثير من مواقفه، وهو أمر يستدعي مجددًا تساؤل من يحكم أمريكا؟
وعليه فنحن نؤمن بنظرية نخبة القوة التي وضعها عالم الاجتماع الأمريكي «ميلز» في القرن الماضي. وأوضح من خلالها أن هناك ثلاثة أطراف تتقاسم السلطة، وتمثل بوابة إدارة الاستراتيجية والسياسة الأمريكية، لاسيما الخارجية منها، وهم السياسيون المحترفون الذين غالبًا ما يكونون في الإدارة الحاكمة، بجانب جنرالات الجيش الكبار القدامى، وانتهاءً بمديري الشركات متعددة الجنسيات، حيث يحدث بينهم التفاعل في إدارة السياسة الخارجية، وهو ما ظهر بجلاء في أزمة حصار قطر، عندما أعلن ترامب في البداية تشجيعه لهذه الخطوة، في الوقت الذي كانت ترغب فيه وزارتا الدفاع والخارجية في ضرورة الحوار والتهدئة وعدم التصعيد، ورضوخ ترامب في النهاية لوجهة النظر الأخيرة.
إلا أن ذلك لا يعني أن المجتمع مهمش بالكامل، ولكن دوره حصرًا على الأمور الداخلية، لذا ليس غريبًا أن تكون قضايا الشواذ وحقوق الإجهاض أحد أهم قضايا التنافس السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.