ترامب وبشار والكيماوي: كسر ذراع أم قرصة أذن؟
لم يكن كيماوي خان شيخون مفاجئًا للكثير من متابعي المذبحة السورية التي غاص ضمير الإقليم والعالم في إثم دمائها للعام السابع على التوالي. فـ ٨٠ شهيدًا بقصف لعصابات بشار وحلفائه، يمثل التدفق شبه اليومي المعتاد لضحايا هذه المجزرة المفتوحة، بل قد يكون المتوسط اليومي للضحايا أعلى من هذا. واعتاد العالم لسنوات على تحول السوريين في نشرات الأخبار إلى مجرد أرقام تضاف إلى عداد القتلى المجنون.
لكن الذي فاجأ البعض هو إعلان ترامب عن صدمته من المجزرة ! وفاجأنا أكثر كرة الثلج من التكهنات والتسريبات والتصريحات التي انطلقت منذ ذلك التصريح بسرعة صاروخية من أعلى المستويات الأمنية والسياسية الأمريكية، والتي تفيد بأننا على وشك أن نشهد ضربة أمريكية جوية وصاروخية ضد بشار عقابًا على مجزرة الكيماوي!
حتى أتانا مساء الخميس السادس من أبريل/نيسان بالخبر اليقين، وأصاب 59 صاروخًا أمريكيًا مطار الشعيرات التابع لنظام بشار، والقريب من مدينة حمص السورية. تحدث الأمريكيون عن خسائر جسيمة بالمطار وطائراته تخرجه من الخدمة. وأعلنوا أنهم اختاروا هذا المطار تحديدًا لأن غارة الكيماوي الأخيرة خرجت منه.
لماذا يبدو الموقف الأمريكي «صفيقًا»؟
أسباب عديدة تجعلنا نخرج عن اللغة الرزينة الأنسب للتحليل السياسي، واستخدام مصطلح كالصفاقة لنصف هذا الموقف الأمريكي:
1. ترامب المصدوم من المجزرة، لم تبرد بعد دماء عشرات المدنيين النازحين من ضحايا القصف الجوي العنيف الذي قامت به قواته الجوية في ريفالرقة منذ أيام، وقبلها بأسابيع مجزرة مسجد إدلب. ورغم الادعاء الأمريكي أن كلا الفعلين غير مقصود، وأن هناك أهدافًا لمن يسمون «الإرهابيين» بالقرب من المواقع المقصوفة، فإنه يظهر بوضوح مدى الاستهانة بدماء السوريين.
2. قبل أيام معدودة من مجزرة كيماوي خان شيخون صرَّحت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة بأن إزاحة الأسد ليست أولوية للولايات المتحدة. وكأن هذا التصريح كان بمثابة ضوء أخضر لبشار لفعل ما يحلو له، ومحاولة حسم الأمور على طريقته.
3. لو كانت الولايات المتحدة تهتم بالتدخل المباشر لوقف المجزرة السورية، وذلك بفرض الحظر الجوي على نظام بشار لإعاقة آلة القتل الجوية المسئولة عن الجانب الأكبر من الضحايا، لما فوَّتت فرصة الهجومالكيماوي الأكبر على غوطة دمشق في أغسطس 2013، والذي أوقع أكثر من ألف شهيد سوري. لكن حينها اكتفت إدارة أوباما بالتهديد، وبنزع الأسلحة الكيماوية من جيش بشار بوساطة روسية. لتكشف السنوات الأربع التالية استمرار المذابح وتوسعها، ويتضح أيضًا أن جانبًا كبيرًا من ادعاءات نزع الكيماوي كانت أكذوبة. وكان غاز السارين الذي عربد في دماء أطفال خان شيخون هو الدليل الفج.
4. لو كانت الولايات المتحدة مهتمة حتى بالتدخل غير المباشر لوقف المجزرة، أو الحد منها، لرفعت الفيتو الأمريكي عن وصول الأسلحة المضادة للطائرات إلى المعارضة السورية، والتي كان الحلفاء الأتراك والقطريون وغيرهم على استعداد لمدهم بها. خاصة وقد بُحَّ صوت الأتراك لسنوات يستجدون الولايات المتحدة لعمل مناطق آمنة من الحظر الجوي خاصة في شمال سوريا حيث يتركز القصف على مناطق المعارضة. ومن اللافت هنا سرعة تذكير الأتراك مرة أخرى بهذا الأمر في أول تصريح من المتحدث الرسمي للرئاسة التركية بينما لا تزال نيران الصواريخ الأمريكية مندلعة في المطار المستهدف.
5. تركت الإدارة الأمريكية السابقة الحبل على الغارب لإيران وروسيا خاصة في العام الأخير، فاختلَّ التوازن تمامًا لصالح النظام، ووصل الأمر إلى ذروته بتسوية حلب الشرقية أهم مناطق المعارضة بالأرض، ثم الاستيلاء عليها. أما الإدارة الأمريكية الجديدة فأظهرت قدرًا ليس بالهين من التخبط في شهورها الأولى، وتحوم حول كبار أركانها فضائح تتعلق بالاتصالات مع الروس أثناء الانتخابات.
6. رغم قصف الطيران الحربي لنظام بشار وحلفائه لمئات المشافي والمنازل والمساجد، فإن تركيز المسئولين الأمريكيين في إداناتهم منصَبٌّ على قصة الكيماوي، مما يعطي رسالة مباشرة وغير مباشرة بأن القتل والتدمير مسموح طالما بالأسلحة التقليدية!
هل لضربة الشعيرات ما بعدها؟
لا يمكن التكهن تمامًا بما يدور في عقل الإدارة الأمريكية الجديدة في هذه اللحظة. ولا شك أن الساعات والأيام القادمة قد تحمل الكثير من المفاجآت، لكن عمومًا يرجح ألا يتواصل القصف الأمريكي بالشكل الذي يُخرج قوات بشار الجوية من المعركة، فيغير كثيرًا المعادلات على الأرض للأسباب التالية:
1. مراعاة للوجود الروسي الداعم لبشار. وقد أظهرت التصريحات الروسية غداة الهجوم الأمريكي غضبًا روسيًا من هذه الضربة الأولية، إلى حد إعلان تعليق اتفاق أمن الطيران العسكري الروسي الأمريكي في سوريا، والدعوة لجلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة الضربة.
2. تكثيف الضربات الأمريكية المباشرة على النظام السوري بشكل مؤثر، قد يؤدي إلى تدخل من حلفائه الإيرانيين واللبنانيين خصوصًا، مما قد يشعل حربا إقليمية واسعة. فإيران تعتبر بقاء الأسد ونظامه خطًا أحمر. ولا يستبعد حينها أن تدخل روسيا في صدام علني أو غير علني مع الولايات المتحدة قد يكون مقدمة لحرب عالمية.
3. المصلحة الأمريكية والإسرائيلية في صف استمرار الحرب السورية في استنزاف جميع أطرافها. لأن كلهم تقريبًا أعداء محتملون للطرفين ابتداء من داعش والقاعدة إلى حزب الله وحتى النظام السوري. وإسقاط نظام بشار هو الحدث الرئيسي الذي يحتمل كثيرًا أن يؤدي إلى إنهاء الحرب.
4. وجود بشار المستأنس، والمقلّمة أظافره، والموضوع تحت الحماية الروسية التي تضمن احتواءه، أفضل لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وأمن إسرائيل من تسليم سوريا الاستراتيجية لبديل ثوري خاصة البدائل المؤدلجة إسلاميًا، والتي لا ضامن لتوجهاتها وأجنداتها على المدى المتوسط والبعيد في هذين الملفيْن تحديدًا.
لماذا فعلها ترامب؟
لا شك أن الكثير من الأوساط السياسية الإقليمية والدولية قد تفاجأت بالضربة الأمريكية المباشرة الأولى ضد نظام الأسد. لكن بحسابات بسيطة، سيتضح أن ترامب بهذه الضربة المحدودة وتوابعها -إن كان لها توابع- قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد:
أولًا: فرض الولايات المتحدة من جديد كطرف مهيمن على الساحة السورية، بعدما كان عام 2016 عام الروس بلا منازع. وتوالي بيانات التأييد من تركيا ومعظم العواصم العربية والأوروبية الفاعلة للضربة الأمريكية يؤكد من جديد أن الولايات المتحدة إذا تحركت فهي الرقم الأصعب في المعادلات الإقليمية والدولية.
ثانيًا: إظهار البون بين إدارته وإدارة أوباما في هذا الملف الحساس. فكثيرًا ما زايد ترامب أثناء الحملة الانتخابية على مواقف أوباما التي أضعفت تأثير الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولترامب رسالة خاصة في قصة السلاح الكيماوي تحديدًا، فأوباما لم يقصف جيش بشار بعد المجزرة الكيماوية الكبرى في 2013، في حين فعلها ترامب مع المجزرة الكيماوية الأصغر في 2017. كما أن تكرار استخدام بشار للكيماوي بعد 4 سنوات من ادعاء أوباما نزعه منه، إهانة كاملة لخط أوباما.
ثالثًا: محاولة التجمل إنسانيًا بإظهار إدارة ترامب نفسها كنصير للمدنيين الآمنين، للتغطية على الملف السيئ لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والمسئول عن استهداف المئات من الأبرياء في مناطق سيطرة داعش والمعارضة بقصد وبدون قصد. وآخرها مجازر معركة الرقة الحالية ضد داعش.
رابعًا: تخفيف الضغط على إدارته في القضايا المتعلقة باتهام أركانٍ فيها بالتواصل مع روسيا. فيحاول ترامب بضرب حليف روسيا أن يغسل يده من ادعاءات صداقته الوثيقة مع بوتين ونظامه.
خامسًا: استعادة جزء من الثقة بين إدارته، وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة تركيا والسعودية وقطر، الذين انتقدوا تعامل إدارة أوباما السلبي مع التمدد الإيراني في سوريا، وترك الحبل على الغارب لنظام بشار للفتك بمناطق سيطرة المعارضة في حلب وسواها. و تحدث ترامب مراتٍ عديدة قبل وبعد انتخابه عن أنه يرغب في استغلال التمويل الخليجي لتعزيز الرؤية الأمريكية في سوريا والشرق الأوسط، سواء بإقامة مناطق آمنة لم يتضح بعد حدودها، أو أي مشروعات أخرى.
إلى أين تتجه الملحمة السورية بعد هذه الضربة؟
الأرجح أنه لا جديد محوري في الأفق القريب. سيستمر القصف اليومي والتهجير. والذي استمر فعلًا إبان الضربة نفسها. وسيستمر نظام الأسد في محاولة البقاء في السلطة مهما كان الثمن من دماء الشعب السوري ومستقبله.
وستستمر المعارضة السورية في تشرذمها وتقاتلها، دون مشروع وطني وثوري جامع يتحد فيه الكل على الأهداف الكبرى. ليتضاءل الأمل أكثر فأكثر في كسر الحلقة المفرغة من الجنون والدم قريبًا. وسيستمر الإقليم والعالم وفي المقدمة منه الولايات المتحدة في محاولة التجمل الكاذب من حين لآخر لذر الرماد في العيون.