شعر التروبادور: العرب يشعلون ثورة «غزَل النساء» بأوروبا
في الذهنية الشعبية هناك اقتران بين قصة «قيس وليلى»العربية- التي يشاع أنها حقيقية أو أسطورية، ولكنها ليست خيالية- وبين رواية «روميو وجولييت» -الخيالية، وإن كانت مستوحاة من واقع لدى الأوروبيين- كمثالين على الحب الرومانتيكي المثالي.
قصة قيس وليلى أقدم بكثير، حيث وقعت أحداثها في القرن السابع الميلادي، بينما كتب شكسبير (توفي في 1616م) روايته في نهايات القرن الرابع عشر، والمتفحص في أحداث روايته يلحظ أنها وقعت بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وهو تقريبًا نفس الوقت الذي ازدهر فيه شعر التروبادور في أوروبا.
كلمة الرومانسية بدلالاتها المعروفة حديثًا هي من اختراع التروبادور، هذا النمط الأدبي الذي أدى إلى تطور جميع أنواع الأدب الغربي الحديث، باستثناء الأدب الديني، أي أننا يمكن أن نقول إنه كان أساس الأدب العلماني الحديث.
أشعار «التروبادور Troubadour» أو ما تُسمَّى «الأشعار البروفنسية» تأثرت بالشعر الأندلسي العربي، واقتبست منه أنماطًا من الحب لم تكن معهودة في أوروبا، فكانت بمثابة ثورة في وجه الكنيسة المهيمنة على الحياة هناك، والتي كانت تحتقر المرأة، وتراها مخلوقًا أقل من الرجل، خُلقت لإمتاعه وخدمته، كذلك فقد كانت تعتبرها الكنيسة هي والخطيئة (الزنا) شيئًا واحدًا لا ينفصلان، وبالتالي لا يصحُّ أن يخضع الرجل لها حتى لو كان سبب هذا الخضوع هو الحب، حسبما تتفق كثير من المصادر، بما فيها من مصادر أوروبية.
حاربت محاكم التفتيش المشكلة من قبل الكنيسة الكاثوليكية التروبادورز، واعتبرتهم خطرًا على الدين المسيحي، وتعرض كثيرون منهم للنفي والسجن والقتل، وفي المقابل اشتملت أشعار التروبادور على تلميحات وسخرية من الكنيسة التي اعتبرها التروبادور تمارس النصب باسم الدين، لجني الأموال باسم صكوك الغفران ومراسيم الزواج وخلافه.
ما هو التروبادور وشعره؟ وأين ومتى ظهر؟ وكيف تأثر بالشعر الغزلي العربي؟ وما أغراض الحب وصوره الغزلية التي أخذها عن العرب؟ هذا ما نجيب عليه.
الحب العربي يغزو أوروبا لأول مرة
التروبادور هو شاعر ينظم شعرًا مُقَفَّى (له قافية موحدة) ويغنيه، وأحيانًا يلقيه بمصاحبة آلة موسيقية يعزف عليها بنفسه، أو يأتي بعازف يغني أشعاره عليها، وأقرب الأشكال إليه هو شاعر الربابة في التراث المصري.
وكان العود والقانون والرق من الآلات الشرقية التي استخدمها التروبادور لمصاحبة أشعاره الغنائية الرومانسية، وفقًا لموقع فرنسا في العصور الوسطى.
ولهذا الشعر خصائص مختلفة عن أنماط الشعر التي كانت سائدة قبله في أوروبا، حسبما يوضح الدكتور محمد عباسة أستاذ الأدب المقارن في كتابه «الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور».
نشأ هذا الشعر في منطقة البروفنس جنوبي فرنسا، بالقرب من الحدود مع الأندلس (إسبانيا)، تلك المنطقة التي كانت بوابة العرب على أوروبا، والتي احتلها العرب لسنوات، وظلَّ بعضهم يعيش بها حتى بعد انهزامهم في معركة بواتيه على يد الفرنجة عام 732م، حسبما تشير تاريخية مصادر أجنبية وعربية، نقل عنها الدكتور زكي النقاش في كتابه «العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بين العرب والإفرنج خلال الحروب الصليبية»، ومن هذه المنطقة انتشر هذا النمط الشعري في أوروبا.
ويرى الكاتب السويسري «دوني دي روجمون Denis de Rougemont » في كتابه «الحب في العالم الغربي – Love in the Western World»، أن مفاهيم الحب التي تعرَّض لها شعر التروبادور لم تكن تعكس العادات الاجتماعية جنوبي فرنسا، أي أنها كانت مفاهيم مستوردة على الثقافة الفرنسية الجنوبية.
كما يؤكد عالم اللغويات الفرنسي الشهير « ألفريد جانروي Alfred Jeanroy»، في كتابه «أغاني غيوم التاسع- Les chansons de Guillaume IX, BEd. Champion»، أن أول من نظم الشعر الغنائي ذي القافية التي تكسب الشعر موسيقى في أوروبا، كان التروبادور/الشاعر «غيوم التاسع Guillaume IX» في القرن الثاني عشر الميلادي، والذي بدأ نشاطه الشعري عقب عودته من المشرق العربي عام 1100، إثر اشتراكه في حملة صليبية.
بينما يوضح محمد عباسة– نقلًا عن مصادر أوروبية- أن غيوم وإن تأثر بالمشرق العربي، فإنه كان أيضًا محتكًا بالثقافة العربية من جهة الغرب الأندلسي، حيث تأثر بالغناء والشعر العربي عن طريق جوارٍ سباهن والده من الأندلس، كُنَّ يتقنَّ الشعر والغناء العربي، ويردّدنه في قصر والده.
وعمومًا، كان للأسرى العرب الذين وقعوا في يد الإفرنج الفرنسيين الذين دعموا جيوش الممالك المسيحية الإسبانية في حربهم مع العرب الأندلسيين دور كبير في انتقال الثقافة العربية إلى هناك، حسبما يوضح المستشرق والمؤرخ الفرنسي ليفي بروفنسال في كتابه «حضارة العرب في الأندلس».
وبجانب الجواري كان للمغنيين الطوَّافين بين البلدان، والذين أُطلِق عليهم لقب «جونغليز»، دور كبير في نقل الغناء العربي من الأندلس إلى أوروبا، فقد تأثروا بهذا الفن الذي كان مزدهرًا في الأندلس، خاصة بعد هجرة المغني الشهير زرياب (توفي عام 857م) من بغداد إلى هناك، وأعادوا ترديده في الممالك المسيحية شمالي إسبانيا وجنوبي فرنسا، ومن هناك إلى باقي أوروبا.
الحب العذري الذي حاربته الكنيسة.. مشغول عنكِ بكِ
شاع لدى العرب ما عُرِفَ بالحب العذري، في قصص «قيس وليلى» و«كثير وعزة» و«جميل وبثينة» وغيرهم، وهو حب مُنَزّه عن أي غرض جنسي أو مادي. حب طاهر يتحمَّل العاشق خلاله الويلات من أجل لا شيء، إلا هيامًا في عشيقته التي لا ينال وصالها أبدًا، لظروف وقيود تمنع اقترابه منها.
وحتى لو سمحت الظروف واقترب منها، يذوب فيما هو أسمى من الاتصال الجنسي بها، حتى أن ليلى أتت قيسًا ذات مرة، فوجدته ينادي: «ليلى، ليلى!»، ولم يكن يراها بل ينادي عليها وهي ليست موجودة، فقالت: «يا قيس، أنا ليلى». فنظر إليها وقال: «إليك عنّي، فإن حبك شغلني عنكِ»، وهنا يتجلّى لنا أن قيسًا بات يرى أن حبّه لليلى شيءٌ أسمى من وجودها المادي، كأحد أنواع الأشكال المبكرة للحب الإلهي الصوفي.
بصرف النظر عن تشكيك البعض في حقيقة هذه القصص وأبطالها، كما فعل عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه «حديث الأربعاء»، والمُفكِّر السوري جلال صادق العظم في كتابه «في الحب والحب العذري»)، الذين اعتبروا أن هذه الحكايات مُحرَّفة حِيكتْ في خيال شعراء ثم نسبوها لقيس أو كُثَير أو غيرهما، لكن تبقى أمامنا حقيقة واضحة وهي أن الشعر الذي نُسِبَ إلى هؤلاء العُشَّاق خلال أحداث قصصهم، متداول عربيًّا منذ العهد الأموي (القرن السابع الميلادي والأول الهجري) على الأقل، وفقًا لاستعراضها عبر كتب المصادر العربية التراثية القديمة كـ«الأغاني» للأصفهاني، وغيره من مراجع تراثية.
هذا النمط من الحب لم يكن معروفًا في أوروبا إلا مع ظهور شعر التروبادور المنطوق باللغة الأكستانية في القرن الثاني عشر في أجزاء من فرنسا وإيطاليا، ومن أوائل من تطرَّقوا إليه كان التروبادور «غيوم دي مونتاناغول Guilhem de Montanhagol»، الذي قال: «من يخدع في الحب ويدعو سيدته إلى ارتكاب الخطأ ليس بعاشق، لأن العاشق الحقيقي لا يقبل المساس بشرف سيدته»، معتبرًا أن مَن سبقوه لم يقولوا شيئًا في الحب لأنهم لم يتطرقوا إلى العفاف، حسبما ينقل محمد عباسة.
هذه النظرة التي استوردها مونتاناغول من الأندلس عن طريق المغنيين «الجونغليز» في القرن الثالث عشر الميلادي، تسببت في غضب الكنيسة عليه، هو ومن سار على دربه، حيث اعتبرت أنه مهرطق يضع المرأة في مكانة لا تليق بها من التبجيل والاحترام والمساواة مع الرجل، وكان جزاؤه النفي إلى أراغون، وكذلك حدث مع غيره من التروبادورز الذين تبنوا نفس الأفكار، بحسب ما يذكر الأنثروبولوجي والروائي الفرنسي «روبرت بريفولت Robert Briffault» في كتابه «التروبادور والمشاعر الرومانسية- Les troubadours et le sentiment Romanesque».
لا تلمني إذا عشقت مَن لم ترني
من صور الحب في شعر التروبادور صورة المعشوقة التي يعشقها الشاعر بالسماع عنها فقط، ولا يرد اسمها في القصيدة، لعدم القدرة على الوصول إليها، وخطورة هذا الاتصال.
ومن هؤلاء كان رامبو دورانج الذي أحب كونتيسة مقاطعة «Urgell» في كتالونيا الإسبانية، رغم أنه لم يرَها أو يحدثها ولو مرةً في حياته، ولكنه أحبها بالوصف فقط، فكتب أشعارًا فيها، وكان يبعث بصديقه الجونغلير الذي سماه «البلبل»، ليغنيها لها تحت شرفات قصرها، وظل هكذا حتى مات، بحسب ما يبين الشاعر الفرنسي « Jacques Roubaud جاك روبود» في كتابه «الترابادورز Les Troubadours».
وأحد أكثر من انخرطوا في ذات المعضلة الشعرية هو أمير مدينة «بلايا دير كارمن» الإسبانية، التروبادور «جوفري روديل Jaufré Rudel» الذي عشق كونتيسة طرابلس الشرق، دون أن يرها مرة في حياته، ولكن الحجيج العائدين من الشام حكوا له عنها، فكتب فيها شعرًا، يقول:
هذا النوع من الحب بالوصف كان شائعًا في الأندلس، قبل ظهور التروبادور بفترة طويلة، حتى أن ابن حزم الأندلسي (توفي عام 1064م) أفرد بابًا في كتابه «طوق الحمامة» عن «الحب بالوصف»، لفت فيه النظر إلى أن أكثر من كُتِب فيهن هذا الشعر كنَّ من ربات القصور المحجوبات، اللاتي يصعب الوصول إليهن. ويبدو أن ابن حزم نفسه عاش هذه الحالة، وقال فيها:
أيضًا، من أشهر من عاشوا هذا النوع من الحب في الأندلس، وقالوا فيه شعرًا كان أمير ألبيرة سعيد بن جودي الأندلسي (توفي عام 897م)، حيث دخل قرطبة ذات يوم، وبينما كان يمرُّ في الشارع سمع جارية تغني داخل قصر الأمير محمد بن عبد الرحمن لابنه الأمير عبد الله، اسمها جيجان، فأعجب بصوتها، وحكوا له عن جمالها، فعشقها، ولأنه لم يستطع الوصول إليها أو حتى يراها، اشترى جارية من قرطبة – نفس المكان الذي تعيش به- وسماها بِاسمها «جيجان»، حسبما يذكر ابن الأبار في «الحلة السيراء»، ومن الأشعار التي قالها فيها:
ويرى المستشرق الهولندي «راينهارت دوزي Reinhart Dozy» في دراسته عن تاريخ مسلمي إسبانيا أن أسلوب سعيد بن جودي، خصوصًا في البيت الأخير يشبه الأسلوب البروفنسي في الحب، وهو أمر يدعم فكرتنا لأن ابن جودي سابق على ظهور التروبادور بأكثر من قرنين.
أخفي هواكِ عن العيون، فكيف مني يعرفون؟!
هذه الصورة الشعرية تشبه الصورة السابقة، من باب إخفاء اسم الحبيبة، ولكنها تختلف عنها في أن الشاعر هنا كان على اتصال حقيقي بمعشوقته، يواعدها ويلتقيها، ولكنه يكتم هواها خوفًا عليها، ويستعيض عن ذكر اسمها بلقب ذكوري يلقبها به.
وكان غيوم التاسع يلقب حبيبته في شعره بـ«الجار الطيب»، أما رامبو دي فاكيرا Raimbaut de Vaqueiras (توفي في 1207م)، فقد كان يلقبها بـ«الفارس الجميل»، وهو أمر لم تعهده أوروبا قبل التروبادور، بحسب ما يوضح اللغوي الفرنسي «ألفريد جانروي Alfred Jeanroy» في كتابه «أشعار التروبادور الغنائية La poésie lyrique des Troubadours ».
وهو ذات النهج الذي كان فيه الأندلسيون سبّاقون، كالعادة، ففيه يقول ابن زُهر الأندلسي (توفي 1162م):
كما يقول ابن قزمان (توفي عام 1160م):
سكن الليل، فتعالي
ضمن الموضوعات الغزلية لدى شعراء التروبادور، ما يعرف بـ«الفجريات»، وهي الأشعار التي تحكي عن لقاءات العاشقين ليلاً، تخفيًّا من أعين الرقباء الذين يطاردون هذا الحب ويقمعونه. ومن شدة المتعة يمرُّ الوقت سريعًا، ليتفاجآ بالنور نذير طالع، والفجر مطل كالحريق يأكل أشواقهما، قبل أن يشبعا من بعضهما، ويرضيا شغفهما الذي لا ينتهي.
هذا الموضوع شائع جدًا في الشعر العربي القديم، وانتقل إلى الأندلس مع العرب، ومنه إلى الجيل الثاني من التروبادور، وسموه Alba. ومن أوائل من كتبوا فيه كان التروبادور «جيروت دي بورنيل Guiraut de Bornelh (توفي عام 1238م)، ويتّضح في هذا اللحن حجم التأثير العربي الهائل في موسيقاه.
يقول جيروت دي بورنيل:
ويذكرنا ما قاله التروبادور بحشود من الأشعار العربية السابقة عليه تاريخيًّا التي سبقته إلى هذه المعاني، ففي الأندلس مثلًا أنشد ابن قزمان: