العدوان الثلاثي على صعيد مصر: القصة التي لم يحكها أحد
كثيرًا ما أشاد المهتمون بعلم الاجتماع السياسي بكتابات عالم الاجتماع البريطاني، تيموثي ميتشل، واعتبروا كتاباته عن الشرق الأوسط والدراسات ما بعد الكولونيالية في «استعمار مصر» و«حكم الخبراء» مُلهمة، ليس فقط لما يحمله ميتشل من قدرة هائلة على السرد والتحليل، وإنما في دعوته للتفكير بشكل عميق وسياسي. يعيد ميتشل قراءة التاريخ بآليات وأساليب غير متعوّدة، يكسر التصورات النمطية حول علاقة الباحث بالعالم المادي وظواهره.
في كتابه «حكم الخبراء» تبرز الأهمية التفكيكية للأحداث من واقع ومنظور ميتشل، وتتجلى هذه الإبداعية في واحدة من أهم الحقب الزمنية في تاريخ العالم ككل، ومصر بشكل خاص، الحرب العالمية الثانية (1934 – 1945).
بين الألغام الأرضية وناموسة الجنوب!
القائد الألماني إرفين رومل (يسار الصورة)
عام 1941 كلّف زعيم النازية قائده في أفريقيا بدعم القوات الإيطالية المتعثرة شمالي القارة السمراء. حقق إرفين رومل تفوقًا ملموسًا حتى رقّاه هتلر إلى درجة مشير، وفي صيف 1942، تقدم ثعلب الصحراء الألماني إلى مصر لمهاجمة العاصمة المصرية القاهرة والانطلاق منها إلى قناة السويس شرقًا.
وبالفعل تقدم الفيلق الأفريقي الألماني نحو الإسكندرية، لكن كان في انتظاره الجيش البريطاني الثامن «فئران الصحراء»، ووقعت حينئذ معركة العلمين، وكان التفوق فيها على الأرض للعتاد البريطاني الكثيف، المتفوق على نظيره الألماني عدديًا بنسبة تقارب الـ 3:1، إضافة إلى الدعم الجوي الذي كان حصرًا للإنجليز، وهُزم الفيلق الألماني وشُرد في صحراء أفريقيا.
كانت المعركة ذات أهمية عالمية، إذ كانت أول هزيمة برية حاسمة لقوات المحور، تبعها الانتصار السوفيتي العظيم في ستالينجراد، وكانت بداية النهاية لألمانيا النازية، وحلفائها، إيطاليا موسليني، ورومانيا ومملكتي بلغاريا والمجر. كذلك كانت معركة العلمين أول معركة تستخدم فيها الألغام الأرضية كسلاح رئيسي في الحرب، حيث خلفت هذه المعركة ملايين الألغام التي لم تجرِ إزالتها، وظلت لفترات طويلة تحصد أرواح المحليين من أبناء البلد.
إلى هنا لا تبدو رواية ميتشل ذات أهمية كبيرة، وكان بإمكان غيره الكثيرين ممن عايشوا هذه الحقبة أو تناقلوا أخبارها أن يرووا لنا تفاصيل المعركة بين دول المحور والحلفاء على الأراضي المصرية بسردية أكثر تشويقًا وحكايةً وتفصيلًا، لكن ما وصل إليه ميتشل، ولم يصل إليه غيره، أن ثمة غزوًا آخر فتك بالمصريين في هذا التوقيت وأن هناك علاقة وثيقة ومعقدة بين الملحمتين، الحرب العالمية الثانية وتفشي مرض الملاريا في الجنوب المصري.
جاء التقرير الأول عن انتشار وباء الملاريا في مارس/آذار 1942 من قرى النوبة، وصل الوباء إلى أسوان في يوليو/تموز، وإلى الأقصر في أغسطس/آب، مواصلًا تقدمه إلى الشمال حتى أسيوط، أكبر مدن الجنوب. كان عدد ضحايا الوباء مجهولًا ولا يمكن معرفته، لكن يُقدر عدد من أصابهم المرض بنحو ثلاثة أرباع المليون خلال سنوات الوباء الثلاثة، مات منهم ما بين مائة إلى مائتي ألف.
تفكيك الحدث في عيون ميتشل
وصلت ناموسة الأنوفيليس جامبي، المتوطنة في أفريقيا جنوبي الصحراء، إلى الجنوب المصري، ولم تكن من قبل معروفة في مصر. تحمل الناموسة في معدتها الشكل الأكثر خبثًا من طُفيل الملاريا، بلازموديوم فالسيباروم. كانت هناك قبل هذا التاريخ في مصر فصائل أخرى من ناموس الملاريا، لكنها كانت أقل شراسةً، وكان السكان المحليون قد طوروا مناعةً تجاهها، ولم تكن ثمة مناعة تجاه الغازي الجديد.
إلى هذا الحد تبدو الحادثتان منفصلتين جغرافيًا وسببيًا بالقدر الذي يجعل أي ربط بينهما مستحيلًا، لكن ميتشل بنظرة أكثر عمقًا أدرك حقيقة العدوان الثلاثي الذي ضرب صعيد مصر، وقتما كان العالم منشغلًا بالحرب الكبرى، حرب الآليات لا حرب الحشرات، الحرب العالمية الثانية. وفي ظل دول تعيش على هامش التاريخ فإن الأحداث الكبرى تنعكس عليها سلبًا بالضرورة على كافة المستويات.
الفقر أول المباغتين
رأي ميتشل في تفاعل الحرب مع الوباء وثالثهما الفقر في تلك الفترة من تاريخ مصر سببًا كافيًا لقتل عشرات الألوف من المصريين، أكثر من أي معركة عسكرية خاضتها مصر في تاريخها الحديث.
عام 1933 تمت تعلية خزان أسوان الذي بُني في بداية القرن ليُكمل شبكة من الخزانات والسدود بدأت إقامتها منتصف القرن الـ19، فحول معظم أراضي الدولة الزراعية إلى الري الدائم بديلًا عن الفيضان السنوي الذي كان يخصب التربة في الماضي بترسب طبقة من الطمي والعناصر المغذية، وصارت أربعة أخماس الأراضي الزراعية في وادي النيل تحتاج إلى الأسمدة الكيميائية بديلًا عن الطمي، ومع نهاية ثلاثينيات القرن الماضي كان المزارعون المصريون يستهلكون من الأسمدة حوالي 600 ألف طن سنويًا، معظمها عبارة عن سماد النترات.
المفاجئ أنه مع اندلاع الحرب العالمية الثانية انقطعت إمدادات السماد الألماني لمصر، مما تسبب في تراجع محصول القمح ومحاصيل أخرى بنسب تصل إلى الربع، وكان السبب وراء انقطاع الإمدادت أن تلك المادة «نترات الأمونيوم» المخلقة كانت على قائمة أولويات الدول المتحاربة لاستخدامها في أغراض أكثر أهمية من الغذاء، وهو الحرب. استُخدمت نترات الأمونيوم لصناعة المواد شديدة الانفجار، وحولت أوروبا وأمريكا صناعة السماد لديها إلى صناعة الذخائر الحربية.
أدخلت الحكومة المصرية نظام حصص التموين لتوفير الغذاء اللازم للقوات البريطانية، وأجبرت المزارعين في الشمال على استبدال محصول القطن بالمحاصيل الغذائية، ولما كان قصب السكر هو السلعة الأكثر انتشارًا في الجنوب، أجبرت الحكومة مزارعي الجنوب على استبداله بالمحاصيل الاستراتيجية، لكن على عكس ما كان منتظرًا، دفع الجشع كبار المزارعين والأعيان لزيادة إنتاجهم من قصب السكر وزادت المساحات المزروعة به بنسبة 30%!
يوفر قصب السكر بيئة مناسبة جدًا لتفقس ناموسة الملاريا، فكان أكثر ضحاياها في عِزب (جمع عزبة) السُّكر؛ أفاد طبيب مدينة أرمنت التابعة لمحافظة الأقصر أنه كان يموت يوميًا بين 80 إلى 90 شخصًا.
الحرب جنبًا إلى جنب مع الوباء
تفاعلت الحرب مع وباء الكوليرا وتقاطعت مع انتشاره وفتكه بالمصريين في عدة محطات، أولها أنْ أعادت بريطانيا فرض الأحكام العرفية على مصر، بعد أن تمتعت الأخيرة لقرابة العقدين بالاستقلال الجزئي، وتكتمت الإدارة البريطانية على أخبار الجنوب، في سبيل توجيه طاقات الدولة لتوقيف الجنرال الألماني «رومل» في العلمين، والاستعداد الاحترازي لإخلاء القاهرة في حال تقدمت القوات الألمانية إليها، مما ساعد على انتشار الوباء جنوبًا.
ثاني هذه التقاطعات، المعاناة من نقص مادة الكينين، العلاج الوحيد المضاد للعدوى. وجاء هذا النقص نتيجة لتزامن انتشار العدوى في الجنوب المصري مع احتلال اليابانيين لجزيرة جاوة، وسيطرتهم على مزارع الكينا الهولندية التي كانت أشجارها تمد أوروبا بالعقار، وعليه تُركت وزارة الصحة المصرية وحدها في صراع مع الوباء، فعمدت إلى مقاومة ناقل المرض (ناموسة الأنوفيليس) بدلًا من الطفيل نفسه (بلازموديوم فالسيباروم)، من خلال فرق المكافحة التي كانت تنتشر حول البؤر المرضية لرش المسطحات المائية بخليط المالاريول (زيت الديزل الممزوج بعنصر رش)، إلا أن الحرب جعلت الحصول على زيت الديزل هو الآخر مهمةً صعبة، لحاجة الآليات العسكرية الماسة له لتعمل بكفاءة في ميدان القتال، مما قوض من مساعي مجموعات المكافحة.
وعلى هذا النحو وجد (البلازموديوم) في الصعيد سكانًا ليست لديهم المناعة الكافية لوقف العدوى، أجسادهم هزيلة من جراء الفقر المدقع، الناتج تارةً عن الفقر ونقص الغذاء المتولد من شُح الأسمدة وقلة خصوبة الأرض، وتارةً أخرى لعدم توفر الأدوية المضادة له، كنتيجة مباشرة للحرب، وسيطرة اليابانيين على جزيرة جاوة، وبهذا تكالب على المصريين في الجنوب، الحرب والوباء والفقر، في عدوان هو الأشرس على الأجساد المصرية.