رحلة إلى حديقة حيوان من العصر العباسي
كان الإلحاح الشديد الذي مارسه الطفل «عمر» على والده أحمد بن الكوفي لزيارة «حير الوحش» في مدينة بغداد، نتيجة طبيعية لولعه الشديد بالحيوانات، لدرجة دفعته إلى عدم الاكتفاء بما ذكره أبوه من معلومات عنها، والاتجاه لجمع تفاصيل جديدة.
نشأت رغبة «عمر» عندما علم من أصدقائه بوجود حديقة أنشأها الخليفة العباسي أبو الفضل المقتدر بالله (895- 932)، بها كثير من صنوف الحيوانات والطيور، والتي لا يمكن أن يراها إلا هناك، فأخبر أبيه برغبته في زيارة هذه الحير لمشاهدة ما قرأ عنه على الطبيعة.
نجحت محاولات الابن في إقناع الوالد، بالتودد تارة، وإظهار الحزن لعدم تلبية رغبته تارة أخرى، وفي النهاية كُتب لهما زيارة حديقة الحيوان التي كانت تعرف في هذا الوقت بـ«حير الوحش»، أي البستان الواسع الذي به أنواع مختلفة من الحيوانات.
على كلٍ، اصطحب الوالد ابنه واتجها إلى حير الوحش، وفور دخولهما، فوجئ الابن بعدد كبير من الوحوش والحيوانات التي تحويها الحديقة، فقال له والده إن «المقتدر بالله» مولع بتربية الحيوانات الأليفة والوحشية والضارية كالأسود، وهذا ما يفسر هذا العدد الكبير من الحيوانات والسباع، والتي خُصص لكل صنف منها مكان خاص.
توقف «عمر» كثيرًا أمام المكان المخصص للسباع، وكان في أعناقها ورؤوسها السلاسل، المقيدة بأسوار البيت المخصص لها، ويقوم على خدمتها رجل يطلق عليه «سَبّاع»، يوفر لها الطعام، وينظف مكانها آخر اليوم.
نظر الطفل لوالده مدهوشًا بما رآه، وقال له ربما لا يوجد خليفة سابق قام بمثل هذا العمل، لكن الأب فاجأه بالقول إن تاريخ إنشاء مثل هذه الحير ليس حديثًا بل هو ممتد إلى عصر الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك (691 – 743)، عندما أنشأ في الشام حيرًا تبلغ مساحته تسعة كيلو مترات مربعة، وسوّره بسور لحصر الوحوش داخله، وضم هذه الحير الخيل والبغال والحمير والغزلان والأرانب والأوز، والدجاج، والحمام، وغير ذلك.
ومن جاء بعد هشام بن عبدالملك سار على دربه، فجمعوا مختلف الحيوانات والوحوش من مختلف المعمورة وبذلوا في ذلك أموالًا طائلة، ولم يكتف بعض الخلفاء لم بإرسال المبعوثين والرسل فحسب، إنما كانوا يستخدمون أمهر القناصة والصيادين لاصطياد الطيور والحيوانات المتوحشة أيضًا.
ويبدو أن عمل الأب في ديوان بيت المال آنذاك جعله يقف على كثير من المعلومات الخاصة بالحيوانات التي جُلبت للحير، بل وأيضًا تاريخ نشأة مثل هذه الحدائق على يد الخلفاء السابقين، ومن ثم صُبغت مشاهدة الطفل بالمعلومات الغزيرة.
أحد «السباعين» لاحظ حوار «عمر» مع والده، فقال للطفل إن خلفاء بني عباس الأوائل اعتنوا عناية كبيرة بالأسود، فالأمين بن الرشيد (787 – 813) كان له جماعة خاصة يركبون البغال، ويصطادون له الأسود، ويضعونها في أقفاص ثم ينقلونها إلى قصره، كما وجه إلى جميع البلدان في طلب الوحوش، والسباع والطيور.
وشُغف «الأمين» بالحيوانات، لدرجة أنه عمل خمس «حراقات»، أي سفن، في نهر دجلة على خِلقة الأسد والفيل والحية والفرس والحوت، كما أنه كان يتردد كثيرًا على حير الوحوش.
لكن لم يعتن خليفة بالنمور قدر اعتناء الخليفة هارون الرشيد (766 – 809)، الذي جلبها من مناطق عدة، وبذل في ذلك الأموال الكثيرة.
وتطور الأمر بعد ذلك فخصص الخلفاء من بعده مكانًا واسعًا يضم جملة كبيرة من الحيوانات الكاسرة والداجنة والطيور، كما عُني بعضهم بالأفاعي والحيات والعقارب، وكان البعض يقيم حديقة منفصلة بها، أو يقتطع ركنًا واسعًا من إحدى حدائق قصره من أجلها.
ورغم أن «عمر» عرف كثيرًا عن الفيلة من خلال حكايات أبيه، لكنه لم يكن يتخيل يومًا أنه سيراها رؤي العين، بخاصة أنها من الحيوانات التي تترعرع في الغابات، وبلاد العرب ليست موطنها، لذا انتابه فرح شديد ممزوجة بالدهشة عندما رأى أربعة منها جلبها «المقتدر بالله» إلى الحير.
لم يقطع هذه الحالة المزاجية التي كان عليها الطفل، سوى حديث أبيه الذي قال إن الفيلة كانت تُستخدم في تعظيم الملوك، والإعداد للحروب، وكذلك الزينة في الأعياد من خلال تسيير المواكب، وكان أكثر الخلفاء عناية بها هو الخليفة أبو جعفر المنصور (714 – 755)، الذي جلبها من مناطق عدة.
انتقل الوالد بابنه إلى المكان المخصص للخيول، والذي كان يضم أنواعًا كثيرة منها، ولفت انتباهه الرعاية التي تتلقاها، ما دفعه لسؤال القائم على خدمتها عن أشكال الخدمة المقدمة لها، فذكر له أن «المقتدر بالله» اتخذ اصطبلًا خاصًا للخيل، وبغال السروج، والقباب، والهوادج، والحمير، وجعلها قريبة منه، وبين يديه، وفي الميدان والرياضة، وجعل العمل متصلًا عليه، ومن أدى عمله من العمال بإتقان زاده في الأجر، ومن قصّر صرفه، واستبدل به غيره، وكان في اصطبل خيله ألف فرس.
وذكر له أن الاهتمام بالخيول وتخصيص حير لها عادة الخلفاء المسلمين، فلما انتقل الخليفة عبدالله المأمون (786 – 833) إلى منطقة الجعفري في بغداد كان من أحب المواضع إليه، وأشهاها، فاقتطع جملة من البرية جعلها ميدانًا لركض الخيل واللعب بالصوالجة (إحدى ألعاب السلاطين قديمًا)، واتخذ جزءًا منها حيرًا لجميع الوحوش، وفتح له بابًا شرقيًا إلى جانب البرية، وأجرى فيه نهرًا ساقه من نهر المعلّي.
غير أن أكثر ما لفت انتباه «عمر» اتساع مساحة الحير، وكثرة عدد العاملين به، فذكر له والده، أن «المقتدر بالله» عيّن جدولًا لتتبع أرزاق أصحاب الصيد من الفهادين، والكلابين، والصقارين، والصيادين، وثمن الطعام والعلاج للجوارح، وأصحاب الحراب، والسبّاعين، وأصحاب الشباك، ومن معهم من الأعوان، والحمّالين، وأصحاب المرور، وغيرهم، كما خصص مبلغًا ماليًا كبيرًا لتجديد الآلات المستخدمة في الصيد ورعاية الحيوانات.
ولم يكن الخلفاء العباسيون على اختلافهم أقل من «المقتدر بالله» في هذا الأمر، فخصصوا للحير عمالاً مكلفين بإطعام الحيوانات وتنظيفها، وتنظيف الأماكن التي تعيش بها، مثل الخليفة أبو العباس أحمد المعتضد بالله (857- 902) الذي خصص لبستانه حرسًا مسؤولين عن إغلاق أبواب البستان في الصحن الحسني.
أما الخليفة أبو إسحاق المعتصم بالله (796- 842) فأنشأ حيرًا، وقام بتوسعته، ووضع فيه الكثير من الحيوانات منها الوحش من الظباء، والحمير، والوحش، والأيايل، والأرانب، والنعام، وعليها حائط يدور في صحراء حسنة واسعة.
وعندما توسع الخليفة أبو جعفر المتوكل على الله (822- 861) في العمران شرقي سامراء، أنشأ حائطًا جديدًا على الحدود الجديدة للبناء، بعد أن اقتطع جزءًا كبيرًا من ساحة الحير، وجعل له بابًا رئيسيًا عُرف بـ«باب الحير»، فقام بتوسعتها وأنشأ فيها حديقة واسعة للحيوانات، جمع فيها الكثير من الحيوانات، البعض منها كان حرًا طليقًا، والبعض الآخر في أقفاص.
ووصل اهتمام المتوكل بحيره إلى أن أمر بحفر نهر نيزك في سامراء، ليرويها به، لذا كانت أشجار الحديقة كانت كثيفة ومتشابكة.
ما جذب انتباه الطفل أيضًا هو موقع الحير الذي تحيط به الخضرة من كل جانب، لكن الأب فسر ذلك بأن «المقتدر بالله» سار في هذا النهج على عادة الخلفاء السابقين في اختيار مواقع الحدائق، والذين دأبوا على إقامتها في أماكن تشرف على مشاهد طبيعية ومناظر جميلة، فجلبوا لتنظيمها كل ذي خبرة في الزرع والنخل والغرس، وهندسة المياه، وجمّلوها بالصناعات المبتكرة لاستكمال وسائل الحضارة والترف. حتى يقال إنهم زينوا الأشجار وألبسوها المعادن الثمينة، وزخرفوها ونشروا في أرجائها الميادين والطرق والصور والتماثيل، ورفعوا إليها مياه دجلة بالدوالي الخشبية، وأنفذوا إليها الأقنية والأنهار، حتى صار للعرب في الشرق فن عربي عباسي في تنظيم الحدائق.
استراح الأب وابنه ليلتقطا أنفاسهما ويتناولا بعضًا من الطعام والشراب بعد جولتهما داخل الحديقة، لكن الابن لم يكف عن طرح التساؤلات، لا سيما عن تلك الحير التي أنشأها الخلفاء السابقون، بيد أن الوالد فاجأ ابنه عندما ذكر له أن إنشاء هذه الحدائق لم يقتصر فقط على الخلفاء، وإنما امتد أيضًا إلى الأثرياء والوزراء الذين أحبوا جمع الحيوانات وامتلكوا مقدرة مالية ساعدتهم على جلبها من مناطق عدة، فأسرفوا على تزيين الحير بالألوان والأصباغ والأثاث الفاخر والوشي والديباج والستائر المذهبة والبسط الثمينة، وزينوها أيضًا بأنواع الرياحين والورد والطيور النادرة.
فابن مقلة الشيرازي وزير الخليفة «المقتدر بالله» كان له بستان بناه في منطقة الزاهر على نهر دجلة، ولا يقل عن بستان الخليفة، بل قد يفوقه، حيث جعل به عدة أجربة (شجرًا بلا نخل)، عمل له شبكة إبريسم (الحرير)، وكان تُفرخ فيه الطيور التي لا تفرخ إلا في الشجر، كالقماري، والدباسي، والهزار، والببغاوات، والبلابل، والطواويس، والقبج، وكان فيه من الغزلان، والبقر البدوية، والنعام، والإبل وحمير الوحش، وقام بتجربة عملية التزاوج بين الحيوانات وكان منها طائر بحري مع طائر بري، فازودجا وباضا، وأفقسا.
لم يكتف الطفل بهذه المعلومات عن حديقة الوزير ابن مقلة وطلب المزيد، فذكر له أبوه، أنها على شكل بستان عظيم مربع الشكل، وقد عُمل في حائطه بيوت تأوي إليها الطيور وتفرخ، وأن القائمين عليها أطلقوا القماري والدباسي والنوبيات والبلابل والقبج والطواويس والشحارير والزيارب والهزار والبيغ والطيور التي كانت تجلب من أقصى البلاد طيور مما لا يكسر بعضه بعضًا، فتوالدت وتوارثت منها أجناس مختلفة، ثم عمدوا إلى باقي الصحن فطرحوا فيه الطيور حتى لا تطير، كالطواويس والبط، كما خصص مناطق فيها فاخر الطيور.
ولم يقتصر ابن مقلة على ذلك، إذ جعل من خلف البستان الغزلان والنعام والإبل وبقر الوحش وحميره، وغير ذلك من غرائب الحيوانات. وكان لكل صحن أبواب تنفتح إلى الصحن الآخر فيرى في مجلسه سائر ذلك.
هامش
هذه القصة ليست حقيقية، وإنما هي مُجرد مدخل من نسج خيال كاتب الموضوع لتقديم أحداث تاريخية في إطار قصصي.
- دراسة فصول من حضارة بغداد، ناجي معروف