فيلم «مثلث الحزن» والضلع الناقص لـ «روبين أوستلوند»
كعادة «روبين أوستلوند» لا يكل ولا يمل من السخرية من قيم وعادات المجتمعات الحديثة، في فيلم «المربع» كان الفن المعاصر ضحيته، أما في فيلم «مثلث الحزن»، الحائز على سعفة «كان» الذهبية هذا العام، كانت ضحيته الموضة والرأسمالية.
وبالطبع لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل كان ذلك مدخلاً من أجل تفكيك قيم المجتمع والحداثة والتقدمية بكافة أشكالها، وكأن أوستلوند- بطريقة أو بأخرى- يريد أن يسخر من شيء ربما نوافق عليه كي يستدرجنا ليسخر من كل شيء، فتخرج من أفلامه مُشتت الذهن، لا تستطيع أن تحسم قرارك في أبسط الأشياء في يومك التالي.
روبين لديه قدره مذهلة لجعلك تعيد حساباتك في كافة آرائك ونظرتك للحياة بشكل عام. أوستلوند فنان حقيقي يصنع أفلامه ليس ليملي عليك ما يجب فعله– رغم وقوعه جزئياً في هذا الفخ عن قصد أو عن غير قصد أحياناً– بل يصنعها لأنه يقدم تساؤلات عن المساواة والصوابية السياسية والصراع المستمر بين الاشتراكية والرأسمالية، وأخيراً عن الإنسان نفسه ورغبته في السيطرة وعدم تخليه عن أي امتيازات يتحصّل عليها مهما كان جنسه، وخاصة إذا علم أن تخليه عنها سيرجعه عدة خطوات إلى الوراء، سواء كان هذا مكانه الطبيعي أو مكان ليس من المفترض أن يسكنه أحد.
في البداية يسخر بطريقة مباشرة من صناعه الأزياء والموضة ومن الدعاية المُروِّجة لها، حيث يقوم مراسل صحفي بعمل تقرير مُصوّر مع بعض العارضين، واصفاً العلامات التجارية ذات الإعلانات التي يبتسم عارضيها، بأنها رخيصة، وكلما ارتفعت قيمة العلامة التجارية نظر العارض إلى العميل بغطرسة. المثير للضحك– بعيداً عن الفيلم– أن ما يعد ملابس رخيصة في دول العالم الأول يُعد هنا ملابس غالية، بل وربما شديدة الغلاء.
تعاون مثمر
يواصل أوستلوند تعاونه مع المصور السينمائي «فريدريك وينزل» الذي تعاون معه في فيلميه السابقين، وكعادته يعتمد على اللقطات الواسعة التي تكشف كل شيء، ليضع المتفرج في قلب الحدث، فهو يرى كل شيء كما تراه الشخصيات، بل وربما أكثر، يتجنّب اللقطات القريبة أو أن يتجول بالكاميرا كثيراً، فالكاميرا ثابتة والشخصيات هي من تأتي إليها، لتتعرى بكامل إرادتها من قيمها الزائفة.
أوستلوند لا يتحرك بالكاميرا كثيراً، إلا إذا كانت هناك مشاهد طويلة– التي تمتلئ بها أفلامه– ويستلزمها الحركة من مكان لآخر، ولكن حركة الكاميرا انسيابية لا تشعر بها ولا تجعلك تخرج عن تركيزك، وهي ما زالت تُشعِرك بشعور المراقب، الذي يرى الأحداث من نافذة منزله.
في أحد المشاهد، يُطالب أحد المنظمين بعض الجالسين في الصف الأول أن يتركوا مقاعدهم، وبعد أن يتركوها يكتشف أنه بحاجة لمقعد آخر، فيتحرك كل من في الصف إلى المقعد الذي يليه ليجد كارل -بطلنا الذي يجلس في آخر الصف– أنه أصبح بلا كرسي، لتخبره إحداهن أن يجلس في أحد الصفوف المتأخرة.
يُجسِّد هذا المشهد بطلنا بشدة، فهو ضائع لا يستطيع أن يجد مكاناً في الأمام، بل لا يستطيع أن يُحافظ على مكتسباته، ليجلس في آخر الصفوف متذيلاً يُراقب، وعينيه تملؤهما الحيرة والضياع.
أدوات متكررة
روبين من صنّاع الأفلام ذوو البصمة الخاصة والواضحة، لديه أدوات يستدعيها في كل أفلامه، وذلك يجعله في مصاف صناع الأفلام الذي لربما تعجبك كل أفلامه أو لا يعجبك أياً منها، لا شيء في المنتصف.
إحدى أدواته المُتكررة هو كيفية تحويل موقف بسيط إلى جدال كبير في إيقاع متصاعد بكل سلاسة وانسيابية، كما حدث في فيلم «Force Majeure» عندما تحدثت الزوجة عن هروب الأب عند الانهيار الجليدي، أو كما حدث في فيلم «المربع» بين آن وكريستيان عند مشهد «ماذا حدث في الليلة الماضية».
أما في فيلم «مثلث الحزن» يوجّه كارل النقد إلى صديقته يايا، حيث عندما وضع النادل الفاتورة أسرعت لتُمسك هاتفها وقال «شكراً حبيبي. هذا لطف منك»، ليصبح كارل مجبراً أن يدفع الفاتورة منفرداً، وعندما حاول كارل طرح موضوع الدفع، تصاعدت الأجواء لتقوم يايا بالمغادرة محاولة قلب الطاولة، كما حدث في فيلم Force Majeure عند بكاء الأب من أجل أن يُشعِر زوجته بالذنب.
ينقلب الحوار تدريجياً عن النسوية والمساواة بين الجنسين ومنها المساواة في الدفع، والغريب في الأمر أن الرجال لا يتحدثون عن المساواة إلا عندما يشعرون أنهم –من وجه نظرهم– لا يُعاملون بنفس الطريقة التي يُعامل بها النساء. يستدعي الرجال مواقف مثل منْ يدفع الفاتورة أو عند غرق السفينة من له الأولوية في الصعود لقوارب النجاة، وهل يجب أن يترك الشاب المقعد للفتاة في الحافلة. ولكنهم يغفلون عن مئات المواقف اليومية التي يتم التحيز لجنسهم، بل يفرضون فيها سلطتهم وربما بطشهم.
المساواة التي يريد تحقيقها الرجال هي مساواة تذهب إلى مزيد من التحيز الجنسي وإعلاء مكانة وسلطة الرجل، يريدون أن يتساوى مع النساء في أقل القليل الذي يتم إنصافهم فيه، وهذا الإنصاف ما هو إلا نتيجة لعدم المساواة بالأساس، أو لنظرة دونية للمرأة.
يُكرِّر كارل أنه يريد المساواة بينهما، فربما الرغبة الملحة في تكراره ولإثارته الموضوع بالأساس نابعة من أنه يتقاضى أقل منها بثلاث مرات. يتركها كارل وأثناء سيره في ممر الفندق يهمس بصوت منخفض، تباً للنسوية.
الصراع الدائم بين الأغنياء والفقراء
دائماً ما يطرح أوستلوند مواضيع رائجة على الساحة، في فيلم «المربع» كانت الصوابية السياسية فريسته، أما هنا فينقلنا إلى صراع رائج منذ سنوات، الاشتراكية أم الرأسمالية، يبدأ عندما تريد روسية ثرية من إحدى النادلات النزول لحمام السباحة من أجل الاستمتاع باللحظة كما تفعل هي.
يمكننا هنا بكل وضوح عمل إسقاط بسيط على حياتنا اليومية، حيث يمارس الأغنياء هوايتهم المعتادة لكي يشعروا أنهم أناس طيبون، أو ربما هو علاجهم الوحيد لإسكات ضمائرهم التي ربما من دون قصد ما زالت تنبض. وربما يتهرّبون من دفع المليارات، لكن في نفس الوقت يكونون شديدي الحرص على التبرع بالملايين للفقراء!
على جانب آخر، وعندما تصطاد أبيجيل الأخطبوط، تُقسمه نصفين، نصف لها وحدها ونصف للبقية يُوزع بالتساوي بينهم، وهنا تنشأ نواة مجتمع رأسمالي صغير، الأقوى فيه هو منْ يمتلك آليات السيطرة، وهو ليس معنياً بأن تُقسَّم الثروة بالتساوي، أو ماذا سيفعل بكل ما يملك منفرداً، المهم أن يحصل على ما يريد طالما في يده السيطرة الكاملة.
الطريف أنه في نهاية المشهد يحاول الثري الروسي الذي يعلم أنه ورفاقه عديمو الشأن في المنظومة الإنتاجية في الجزيرة، إقناع أبيجيل بشعار الشيوعية من «كلٌ حسب قدرته» إلى «كلٌ حسب حاجته»، لتنظر له نظره جافة دون أن تتحدث.
وبعد أن أصبحت أبيجيل (المرأة) على رأس المنظومة في هذه الجزيرة، تفعل ما يفعله الرجال منذ القدم: استغلال الجنس الآخر، سواء كان رجلاً ذا لون بشرة مختلف أو امرأة، فتُقايض كارل بالطعام مقابل أن تستغله جنسياً.
نهايات مظلمة والضلع الناقص
في النهاية تدرك أبيجيل أنها في هذه اللحظة فقدت كل شيء، وأنها ستعود لوظيفتها على اليخت إذا لم تُطرد من الأساس، أدركت أن الوسيلة الوحيدة للحفاظ على مكانتها هي بقاء الجميع على الجزيرة، وألا يكتشف أحد أن الجزيرة ما هي إلا منتجع فاخر.
ينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة للمشاهد لسببين: الأول أن النهاية غير مهمة لإكمال القصة، التي اكتملت بالفعل، والثاني أنه يتركها كل حسب نظرته للحياة. ولكن الخلاصة ستظل أنه لا يوجد جنس من الجنسين وُلد سيئاً، فالسلطة التي اكتسبها الرجال منذ القدم هي منْ أثّرت في طباعهم وجعلتهم منْ هم عليه الآن، رافضين أي محاولة لزعزعة زعامتهم وإنزالهم من على رأس السلطة.
أخيراً، نجد أن العظيم في فيلم «المربع»، وهو شيء حاول المخرج القيام به في فيلم «مثلث الحزن»، لكن لم يكن على نفس القدر، بل لم يقترب مما فعله في فيلم المربع، أنه كان يطرح الموضوع تلو الآخر بكل سلاسة، يغزلها ضمن خيوط الحكاية فلا تشعر أنها مصطنعة أو موضوعة عنوة، على العكس هنا تشعر أن الأحداث تسير في إطار مرسوم بدقة زائفة لكي نصل إلى مشهد النهاية، إضافة إلى أن بعض الأحداث التي لم تُفسَّر بالشكل الكافي.
يعتبر أوستلوند أحد أفضل المخرجين على الساحة، ورغم قله أعماله، فإنها تحمل الكثير، وذات قيمة فنية رفيعة، وأتمنى أن أراه يحمل سعفته الذهبية الثالثة، ليحقق الإنجاز الذي لم يسبقه إليه أحد.