الدين والطب: التداوي بالحبة السوداء والعسل أم الطب الحديث؟
يسأل سائل: ورد في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يتعلّق بالطب، كأمره بأدوية معينة كالحبة السوداء والعود الهندي، وتبيينه فوائد بعض الأغذية كالعجوة وألبان البقر، وحثّه على بعض الإرشادات الطبية كالحجامة وغمس الذباب في الشراب لإزالة الداء من جناحه، وما سوى ذلك من كلام ورد على لسان النبي يتعلق بأمور طبية.وقد قال بعض المسلمين: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كما ذكر القرآن، وبالتالي فكل ما يقوله النبي – صلى الله عليه وسلم – هو من الأسرار الإلهية التي أطلعه الله – عز وجل – عليها، ولذلك فقد اعتقدوا أشد الاعتقاد في فائدة تلك الوصايا الطبية التي أوصى بها النبي، بل اعتقدوا فيها ما سمّوه بــ«الإعجاز العلمي في الطب النبوي»، بل غالى بعضهم فظن أن كل ما هو مفيد في طب الأبدان فقد سبق به رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم.وعلى الناحية الأخرى، نظر بعض الملحدين في هذا الكلام، فرأوا بعضه مما يعترض عليه الطب الحديث، وبعضه مما ليس فيه كبير فائدة، ورأوا كيف أن البحث العلمي المعاصر في مجال الطب قد فاق هذه الإرشادات النبوية بدرجات، فاتهموا الدين بالتناقض والضعف والبداوة. فأين الحق في هذه المسألة؟نقول: إن الله تعالى قد أجرى الكون الذي نشاهده ونتفاعل معه على أسباب وقوانين، هي فعله وصنعه. وإن من المشاهد أن الطب يتبع الأسباب العادية والقوانين الكونية كما خلقها الله سبحانه وتعالى، تلك التي طريق معرفتها هو الاستنتاج والتجربة والعقل، وبإذن الله سنتكلم على الأسباب الدنيوية بمزيد تفصيل في الحلقات القادمة.
ثم إنّا وجدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – يخبرنا عن أمور طبية معينة، فاتجهت أنظار العلماء وتساءلت عن طبيعة هذه المخبرات، أهي وحي من الله تعالى أم أنها من جملة طب العصر، وكيف نفعل إذا وجدنا تعارضًا بين ما ورد من «الطب النبوي» وما عرفناه من «الطب الحديث»، خاصة وإذا ادعى الطب الحديث خطأ الطب النبوي!
الفرق بين الأمور الدينية الشرعية والأمور الدنيوية
إن من الدين ما قد جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من عقائد وتشريعات وأخلاق، ودور علماء الشرع هو فهم ما صح عن سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أقوال وأفعال، في مواقف ومشاهد وظروف مختلفة، يجتهد العلماء في فهمها.
سبق أن بينّا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأتِ أساسًا ليعلمنا الدنيا وشؤونها، بل ليعلمنا الدين: العقائد والأحكام الشرعية والأخلاق الدينية، وأن أفعال وأقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – محمولة بالأساس على المعاني الدينية التي إنما بعث ليعلمنا إياها، فمن ثم فإنا نفهم بالأساس ما يصدر عن سيدنا – رسول الله – من حيث كونه نبيًا ورسولًا، مبلغًا عن الله، ومشرعًا للحلال والحرام بأمر الله.
ثم إن هناك بعض الأقوال والأفعال اقترن بها بعض ما جعل العلماء ينظرون ويبحثون، أهي كذلك وحي من الله تعالى؟
فقد ورد بعض ما يفيد أن هناك ما جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – باعتبار كونه نبيًا، أي أنه وحي من الله تعالى، وأن بعض ما قاله كان باعتباره مجتهدًا يقول في الدين باجتهاده – وهو أبدًا لا يُقَرُّ على خطأ في الدين! وبعض آخر لم يقله بهذا الاعتبار، بل قاله باعتبار كونه إنسانًا أو كونه قاضيًا مثلًا أو غير ذلك، أي أنه ليس وحيًا من عند الله.
وأصل هذا معروف مستقر في كتب أصول الفقه، فقد تكلم العلماء على الأفعال والأقوال النبوية الشريفة في محاولتهم لفهمها، وكان مما ظهر لهم أن ذلك ينقسم إلى أنواع، فبعد بحث قضية عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعدم صدور عنه أي ذنوب، أو جهل بالله تعالى ودينه ، وأنه لا يصدر عنه باطل ومنكر، وأنه لا يقر أحدًا على باطل – وكل هذا لا خلاف فيه – نجد العلماء يتكلمون على ما كان من أفعال الـجِبِلَّة كالقيام والقعود والأكل ونحو هذا، ثم يتكلمون على (ما تردد بين الـجِبِلِّي والشرعي) أي أن يكون فعل ما، يحتمل أن يكون قد فعله – صلى الله عليه وسلم – من مطلق الطابع البشري العادي، أو فعله بيانًا لأمر شرعي تعبدي، مثل جلسة الاستراحة بعد القيام من السجدة الثانية وقبل الارتفاع قائمًا، فهل تحمل على الجبلّي لأن الأصل عدم التشريع ، فيكون إنما فعل ذلك – صلى الله عليه وسلم – لأنه لما كبر به السن احتاج لأن يستريح من الارتفاع من السجود؟ أو تحمل على الأمر الشرعي لأنه عليه الصلاة والسلام بُعِثَ لبيان الشرعيات، فتكون سنة نقتدي به فيها وإن لم يكن بنا حاجة إلى الراحة؟[1]
بعض الأوامر النبوية إرشادات دنيوية ليست من الوحي
ثم إن الأوامر الواردة على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم، نظروا فيها وفيما تدل عليه صيغة الأمر، سواء فيما يدل عليه فعل الأمر نفسه، أو فيما يتصل به من السياق الذي يؤثر على فهمنا له، وقد أوصل بعض العلماء دلالات الأوامر الواردة في الشرع إلى ما زاد على عشرين دلالة مختلفة:
ومن ذلك أن يفيد فعل الأمر الإرشاد كما في قوله تعالى: «واستشهِدوا» في آية الدين في سورة البقرة (والإرشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية، فلا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات، ولا يزيد بفعله).[2]
ولنضرب أمثلة على بعض الأمور التي جاءت بها أوامر شرعية والمقصود بها مجرد الإرشاد الدنيوي لا الفرض الديني. من ذلك:
أمور الحرب
ومن ذلك أن الصحابي الحباب بن المنذر بن الجموح قال له يوم بدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل،أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فقال: «يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم تغور ما وراءه من القُلُب، ثم تبني عليه حوضًا فتملأه ماء [ثم تقاتل] فتشرب ولا يشربون». فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي».[3]
فعلَّم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الصحابةَ والأمةَ من بعدهم أن بعض ما يشير به – صلى الله عليه وسلم – هو من باب الرأي ومما تتعدد فيه وجهات النظر، فمن كان عنده من رأي.. فالسنة والصواب أن يأتي به ويهبره للنبي – صلى الله عليه وسلم، ولو كان وحيًا.. لما صح لأحد أن يراجع ألبتة![4]
فتعلمنا أن البحث عن هل الحديث من الرأي أم الوحي؟ هو المنهج النبوي السليم، قد أقر هذا البحث والسؤال عليه الصلاة والسلام.
تأبير النخل
ومن ذلك ما روي في حديث تأبير النخل المشهور في صحيح مسلم حيث مرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – على قوم يلقّحون النخل، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئًا»، فترك هؤلاء المزارعون تلقيح النخل، فلم تعد تنتج كما كانت تنتج، فأخبروا بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». وفي رواية: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر»، وفي رواية قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
ووجدنا الإمام النووي ترجم لحديث تأبير النخل السابق بعنوان هو: «باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي»، وبنحوه أيضًا قال الإمام الطحاوي في كتابه «مشكل الآثار».
فكان صلى الله عليه وسلم يخبر في أمور الدنيا بما قد عرف وظن منها، ويخالفه في ذلك غيره من الصحابة في هذه الأمور، أي وقد علمهم أن مخالفتم في ذلك ليست محاداة للشرع، بل إن بعض ما يقوله ويفعله – والذي منه أمور الدنيا – ليس من أمور الوحي.
تغطية الإناء وإيكاء السقاء
قال صلى الله عليه وسلم: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء[5]، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء»[6].
قال القرطبي رحمه الله:
النهي عن الغيلة
عن جدامة بنت وهب الأسدية، أنها سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم»[8].
قال القرطبي رحمه الله: والمراد من الغيلة أن يجامع الرَّجل امرأته وهي تُرضع، وإنما هَمَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنهي عن الغيلة لما أكثرت العرب من اتقاء ذلك، والتحدُّث بضرره، حتى قالوا: إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه. ويُسأل عن تعليله أهل الطبِّ.
ولم يكن هذا حقيقة الأمر معلومة عند أطباء العرب، فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أحوال غير العرب الذين يصنعون ذلك. فلما حصل عند النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يضرّ أولاد العجم.. سوَّى بينهم وبين العرب في هذا المعنى، فسوَّغه. يعني لما رأى أنَّه لا يضرُّ أولادهم.. لم يَنْه عنه[9].
وهذا الحديث دليل واضح على أن الأصل في الأوامر والنواهي الواردة في الأمور الدنيوية أنها إرشادات تتوخى المصلحة، فإذا استجدت خبرات ومعلومات تخالف ما بنيت عليه تغيرت بما يناسب ما استجد، مراعاة للمصلحة[10].
فظهر أن هم النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذا النهي الدنيوي كان بسبب خوفه من الضرر بحسب خبرته ومعارف قومه، فلما رأى أن الضرر لا يتحقق.. كف عن النهي، فكان باعث النهي وباعث الكف عنه دنيويًا وليس وحيًا إلهيًا.
الشرب قائمًا
عَنْ الجَارُودِ بْنِ المُعَلَّى، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا»[11].
قال الإمام أبو بكر بن العربي المعافري – رحمه الله:
كلام مهم لابن خلدون
وقد كان معروفًا للأقدمين أن الطب موضوعه أحوال بدن الإنسان من أسباب الصحة والمرض، وأنه يعرف بالحس والتجربة والاستدلال بالعوارض. وأن بعض التجارب القاصرة قد اشتهرت وتناقلها الناس في بعض المجتمعات.
يقول العالم الفذ الإمام ابن خلدون – رحمه الله:
وحاصل كلامهم أن الطب معروف عند العرب، قد أخذوه بالتجارب، تلك التي طريق معرفتها هو النظر في الأسباب الدنيوية الكونية، وأن الطب الذي جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – كان موجودًا معروفًا مستقرًا معمولًا به، وقد اعتمد فيه على الأخذ مما كان مشهورًا يقرره الأطباء والعارفون بالطب وقته،فإن حقيقة الطب هو: معرفة الأمراض، وكيفية حصولها، وكيفية معالجتها.
ويلخص ما سبق ما يقول الإمام شاه ولي الله الدهلوي:
إن ذلك لا ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم
إن منصب النبي – صلى الله عليه وسلم – أشرف من كل طبيب ومهندس وصانع وفنان، فإنه – صلى الله عليه وسلم – من اصطفاه الله لتبيين الحقائق الكبرى في هذا العالم، وسوق القلوب إلى ربها سبحانه وتعالى.
فهو – صلى الله عليه وسلم – منشغل بأشرف المنازل، ولا يشغل نفسه بما سواها.
ثم إن إرادة الله عز وجل أن يكون هذا النبي الكريم إنسانًا لا ملكًا، يعيش كإنسان من أهل عصره، يجوع ويشبع، ويضحك ويبكي، ومن ذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – عاش حياة قومه وتداوى بما تداووا به.
في هذا المعنى نقل نفيس للقاضي عياض أحد أعظم قضاة المسلمين وعلمائهم، يقول:
فهذه طبيعة هذه الأمور (أمور الدنيا)، وليس من وظيفة الشرع أن يأتي ويعلمنا إياها، وإن عدم العلم أو الخطأ في بعضها مما ليس من الغفلة والحمق لا يضر أبدًا، ولا ينقص من قدر سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فإنه بُعث نبيًا ورسولًا، لا أنه بُعث أفضل نجار، وأفضل مزارع، وأفضل حداد، وأفضل تاجر ، ونقول الآن: وأفضل مهندس، وأفضل عالم بالجيولوجيا إلى غير ذلك.
ولكنه – صلى الله عليه وسلم – أفضل الخلق، فلا يهجم على علم ما فيقول كلامًا يدل على أنه شخص متهور مثلاً ! أو غير هذه من الأمور التي يتنزه عنها أفاضل الناس، فضلًا عن سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم، فإنه قد علمنا أنه لو ظن أمرًا ولم يجزم به فإنه يفعل هذا كما في تأبير النخل، وقد نشأ في بيئة ليس فيها ذلك، وقاسه بعلمه ومعارف عصره.
الفائدة الشرعية لهذه الإرشادات الدنيوية
وعلماء الدين يستفيدون من مثل هذه الأحاديث بعض الأحكام الشرعية، وبعض الجهات المتعلقة بالدين.
ومن ذلك مثلًا إذا وجدت: «لا عدوى ولا طيرة»، فإنك تفهم منها المعنى الديني وهو عدم اعتقاد أن الشيء يمرض بذاته وإنما بخلق الله، عز وجل. وإذا وجدنا حديثًا مرويًا عن التداوي بشيء ما، استفدنا منه: أن التداوي مباح بذلك الشيء، وعلمنا أن ذلك الشيء كان من جملة ما يتداوى به العرب في ذلك الوقت.
ومن ذلك ما أخبر به تعالى عن خلق الجنين في بطن الأم، فإن معرفة اختلاف أطواره كان معروفًا عند الأمم، على اختلاف مستويات المعرفة تفصيلًا وإجمالًا، ولكن النظر إلى تلك المشاهدات، من حيث ظهور خالقية وإبداع الله تعالى، وكذلك من حيث كونه عزيزًا، جبارًا، وغير ذلك من تجلي أسماء الله تعالى وصفاته، فهذا أمر جاء الدين القويم ليقرره ويقيمه، ويرشدنا كذلك إلى جهة النظر إلى السماوات والأرض، من حيث كونها مخلوقة لله تعالى، محتاجة مفتقرة.
وكذلك الأمر في أمور الدنيا، التي الطريق إلى معرفتها يتساوى فيه كل البشر، من حيث الملاحظة والمشاهدة، أعلمنا الدين النظر إلى ذلك من حيث كونه مخلوقًا لله تعالى: «الله خالق كل شيء».
وكذا حديث الذباب مثلًا استفادوا منه حكم تنجيس ما لا دم له سائل للشراب إن وقع فيه. فلم يأت الدين بالأساس ليعلمنا كيفيات هذه الأمور، ولا طبيعتها، ولم يأت الدين ليكون بديلًا عن العقل والتجربة.
فإن قال قائل: الدين جاء أساسًا لتبيين الأمور الدينية، لكن ما المانع من أن يدل أو يشير إلى بعض الأمور الدنيوية تبعًا؟
نقول: لا مانع، ويسمى هذا أمرًا للإرشاد، ومن أمثلته الأمر بكتابة الدين والشهادة عليه ونحوه كما ذكرنا أولًا. ولكن لما كان هذا خلاف الأصل.. كان الأصل في فهم النصوص أن نفهمها على أنها تبيين لأمر ديني لا دنيوي.
ومن المهم أن نقول: إن كان الذي جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما جاء به من جملة ما كان يعرفه من الطب الذي عند العرب، ففي الحقيقة القول بأن «الدين جاء به» غير صحيح، إذ معنى أن الدين جاء به أنه وحي من الله يخبر عما غاب عن البشر، وهو ما ندعي خلافه.
بل لو علمنا أنه من الوحي – وذلك يحتاج إلى دليل – فوقتها ينظر العلماء في المراد منه، كما نظروا في كلام الله تعالى، واستنبطوا أن منه ما هو أمر ليس المراد منه إيجاب أو استحباب، بل هو فعل أمر المراد منه الإرشاد لما هو أفضل. وعَمَل علماء الشرع هو في هذا المجال، معرفة محل كل حكم، لمعرفة الأحكام التعبدية الثابتة التي لا تتغير بتغير الواقع والزمان، والأحكام المخصوصة بمحلٍ معين فتتغير مع تطور الحياة وأساليبها.
مثال: التداوي ببول الإبل
ولنضرب مثالًا على ما قدّمناه من الفهم. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس – رضي الله عنه – أن نفرًا من عُرينة أتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة فسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ قالوا بلى، فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحّوا، فقتلوا راعي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأطردوا النعم. وفي رواية: «فأمرهم أن يشربوا أبوالها وألبانها»[15].
فقال بعض المسلمين: ينبغي أن يبحث المسلمون بحثًا علميًا طبيًا في بول الإبل ليستكشفوا فوائده، بما أن النبي المعصوم قد أرشد إليه.
ونقول في مناقشة هذا: إن الأبحاث الإكلينيكية إنما تكون بعد تصور نظري لفائدة الدواء، ولأنه أفضل من المتاح حاليًا، وهذا التصور النظري يظهر أنه غير حاصل في حالة التداوي بأبوال الإبل. فإنه لكي نجرب دواء على المرضى يجب أن يوجد عندنا تصور نظري قوي عن: فائدته، وقلة ضرره، وكون هذا قيمة إضافية عن العلاجات الموجودة.
وفي تجربة الدواء الذي لم يستوف هذه الشروط على المرضى إشكالات أخلاقية، وربما شرعية.
فإن قال قائل: هذا ثبت عن المعصوم فينبغي أن نكون أكثر ثقة في أنه تكون فيه الفائدة وهذا حافز لتجربته تجربة علمية.
فالجواب: أن العلاج ببول الإبل لم يثبت عن المعصوم – صلى الله عليه و سلم – من حيث كونه رسولًا مبلغًا عن الله سبحانه وتعالى، وإنما نقل النبي ما هو شائع في زمانه من طرق التداوي، وأن أمور الدنيا (والطب من الدنيا) تتبع الأسباب كما خلقها الله سبحانه، وأن طريق معرفتها هو الاستنتاج و التجربة والعقل، وأن الوحي لم يأت ليعلمنا الدنيا بل ليعلمنا الدين.
هذا، ولا شك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كامل العقل وكامل النظر، فإذا ما نظر فلا شك أن نظره ومنهجه يتعلم منه الأوائل والأواخر، وإن اتباع ما يقرره المتخصصون في كل أمر، ومن ذلك أهل الطب في ذلك العصر، لهو عين العقل وكماله! وهو ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم.
ومن ضمن ما يستفاد منه، صلى الله عليه وسلم: أمره بالتداوي بحسب ما هو متاح، ومعرفة الأمور من مظانّها. فلا شك أنه لم يكن ليقول قولًا في الطب هكذا من عنده وهو ليس بطبيب، ولا حرج ألبتة على أحد أن يقول قولًا في الطب مقلدًا للأطباء، ولو ظهر بمزيد بحث أن في كلام الأطباء عدم دقة مثلًا، فإنه لا يُعد مقصرًا أصلًا ولا يلومه إلا من هو أحمق!
ولكلامه، صلى الله عليه وسلم، فائدة دينية شرعية، فقد نظر الفقهاء في المسألة من الناحية الشرعية على ما سبق تقريره، فقال البعض: بما أن الأصل في الأبوال النجاسة، فقد دل إرشاد النبي، صلى الله عليه وسلم، لهؤلاء القوم إلى الشرب منه، أنه: يجوز التداوي بالنجس.
قال الإمام النووي الشافعي:
وقال فريق آخر بأنه بما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جوّز شرب بول الإبل، فدل هذا على أنه طاهر.
قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي: «ولنا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، والنجس لا يباح شربه، ولو أبيح للضرورة.. لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة »، ثم استدل بأدلة أخرى على مذهبه[17].
وليس المراد مناقشة المسألة الفقهية،وإنما أردنا أن نضرب مثالًا على البحث الديني المتعلق بهذه المسائل، والجهة التي ينظر إليها الفقيه في هذه الأمور، وبيان الجانب التشريعي فيها، والفرق بينه وبين أن يقال: «الدين علّمنا التداوي ببول الإبل».
ومن أراد أن يبحث عن التداوي ببول الإبل، فإنه يبحث عنه من حيث كونه أمرًا طبيًا كان معمولًا به عند العرب، لا من حيث كونه وحيًا أو سنة عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر المؤرخون الباحثون في تاريخ الطب استعمال الأمور المستقذرة كنحو الأبوال في الطب عند العرب قبل الإسلام[18]، بل وغيرهم من الأمم[19]، أن Herophilean Apollonius Mys في القرن الأول قبل الميلاد، في كتابه «Euporista» أو «On Common Remidies»، يذكر استعمال بول الإبل من جملة مكونات الأدوية[20].
ومن يطالع كتاب القانون لابن سينا – وهو من هو في علم الطب القديم بشهادة العالم أجمع – يجده يتكلم في مواضع عدة على التداوي ببول الإبل، وأنواع الأبوال وخواصها[21]. حيث يصف أنواع أدوية فيقول مثلًا:
بل إن الطبيب أبو بكر الرازي (وهو معروف بانتقاداته على الأديان، وأنه كان محسوبًا من الزنادقة!) يقول في علاج ورم اللهاة، بشرب بول الإنسان! قال: «جَمِيع الشّجر الَّذِي فِيهِ عفوصة إِذا طبخ ورقه وقضبانه كَانَ ذَلِك الطبيخ ينفع لورم اللهاة النغانغ. أطهورسفس ينفع من اللوزتين وَالْحلق واللهاة إِذا ورمت شرب بَوْل الْإِنْسَان الْمُعْتق وزبل النَّاس نَافِع لورم اللوزتين».
فأي تشنيع على أن الفقهاء قد قالوا بجواز التداوي بالنجس، حيث لم يوجد غيره، ثم أحالوا الحكم في كونه يداوي أو لا يداوي، وهل يقوم مقامه شيء أو لا يقوم، على الأطباء المتخصصين؟! ولااستشكال على النبي الأكرم – صلى الله عليه وسلم – أن نصح غيره بالتداوي بما هو شائع في أطباء عصره بحسب معارفهم.
وأي خطأ وقع فيه هؤلاء الذين ظنوا غير الوحي وحيًا، وأمروا الناس بترك منجزات العلم والطب في القرن الواحد والعشرين والعودة إلى الوراء غافلين عن تقدم العلم وتطور الحياة.
وعلى فرض ثبوت أن هذا الإرشاد من الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان بالوحي ولم يكن مقيدا بكون هذا هو الأفضل في عصرهم، فمن أين لنا أنه ليس مختصًا بعصرهم هذا، وفي خصوص حالات معينة، فإنه لو أوحي عليه بعلاج خاص لجمع خاص، فإنه يحتمل أنه علم أن هؤلاء يفيدهم هذا الدواء، وما يدرينا لعل هذا الدواء لا يفيد إلا واحدًا في الألف من البشر (وما كان كذلك فلا يكون علاجًا ناجحًا و لا مفيدًا بوجه عام) ولكنه – صلى الله عليه وسلم – علم أن هؤلاء من الواحد في الألف؟ فمن أين لهؤلاء بهذا التعميم؟! كيف والمسائل الطبية ومناسبة كل دواء لكل داء، أمر في غاية التعقيد، فكيف لنا تعميمه الآن.
خلاصة ما نريد قوله
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم فيما يبلغ عن الله تعالى، وأنه في أحواله الدنيوية بشر كريم، وأن ما ورد على لسانه من إرشادات في بعض الأمور الدنيوية كالطب إنما كان ذاكرًا فيه لكلام الأطباء من أهل عصره بحسب معارفهم، وليس وحيًا نؤمر باتباعه، وأن الدين لم يأت بديلًا عن العقل والتجربة، ولم يأت لبيان الأمور الدنيوية التي يعرفها الناس بتطور علومهم وتجاربهم، وإنما جاء بأحكام شرعية فيها صلاحهم، وبإخبار عما يغيب عن حواسهم من عالم الملكوت، ومعرفًا لهم بالله وصفاته. وأن كبار علماء الإسلام فهموا هذا الفهم كما نقلنا، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يبعث طبيبًا ولا مهندسًا، ولا ليعلم الناس ما يمكنهم تعلمه بأنفسهم من الأمور الدنيوية التي مرجعها المشاهدة والتجربة، بل إنه قد بعث هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
- انظر شرح جلال الدين المحلي على متن جمع الجوامع في أصول الفقه 2/129 في الكلام على السنة.
- المستصفى للإمام أبي حامد الغزالي 205
- عيون الأثر لابن سيد الناس1/293 ، وسيرة ابن اهشام 2/192
- قال الإمام أبو المظفر السمعاني في معرض الكلام على ما ينعقد به الإجماع: «وأما أمور الدنيا كتجهيز الجيوش وتدبير الحروب والعمارة والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالإجماع ليس بحجة فيها، لأن الإجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا، وكذلك الإجماع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور دينكم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رأيا في الحرب راجع الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم وقد ورد مثل هذا في حرب بدر وحرب الخندق وغير ذلك ولم يكن أحد يراجعه فيما يكون من أمر الدين». قواطع الأدلة 1/486 ط. دار الكتب العلمية.
- إيكاء السِّقاء: شَدُّهُ بالخيط . وهو الوكاء
- صحيح مسلم 2014
- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 17/16
- صحيح مسلم 1442
- الكلام منقول بتصرف من المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم 13/34
- إزالة الأوهام عن دين الإسلام. خالد محمود. دار الفكر العربي. ص36
- سنن الترمذي 1881
- عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 8/73 ط. دار الكتب العلمية
- مقدمة ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون 1/651 ط. دار الفكر بيروت
- حجة الله البالغة 1/225، دار الجيل بيروت
- البخاري (5686) مسلم (1671)
- المجموع شرح المهذب 9/50
- المغني لابن قدامة المقدسي 2/66 ط. مكتبة القاهرة
- هي التي يعبر عنها بـDreckapotheke ، الأمور المستقذرة من أبوال ودماء الحيوانات والبشر
- Plinio Prioreschi, A History of Medicine, Volume IV Byzantine and Islamic Medicine, P 201-202, ,Horatius press 2004. And pg 610 Greek Medicine Volume II, Horatius press, 2004
- ففي الكلام على أعمال أبولونيس «some of the ingredients used in his prescriptions might strike a modern ear as somewhat esoteric, for example, birthwort, hyssop, iris oil, myrtle, came urine». Herophilus: The Art of Medicine in Early Alexandria, translation by Heinrich Von Staden, pg 543, Cambridge University Press, 198
- انظر كتاب القانون: صـ 1/412، 2/541، 2/544 ، 2/573، 2/665، طبعة دار الكتب العلمية
- القانون 2/665 ط. دار الكتب العلمية
- الحاوي في الطب ص 489 ط دار إحياء التراث العربي
- قريب من هذا المعنى ما قاله الحافظ الذهبي، قال في " مختصر المستدرك ": هو خاص بطباعهم وأرضهم، إلا أن يدل دليل على التعميم، لأن تطبيبه من باب المباح، بخلاف أوامره الشرعية، ذكره في حديث: أن «امرأة أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – بصبي لها فقالت: أتقأ منه العذرة. فقال: تحرقوا حلوق أولادكم، خذي قسطا هنديا وورسا فأسعطيه إياه» . وقال إسناده صحيح. انتهى. نقله الزركشي في البحر المحيط 4/261 ط. دار الكتبي، ثم خالفه ووافق جمع آخر من العلماء الذي صنفوا في الطب النبوي، وهو موقف مخالف للموقف الذي يراه الجمع الآخر من العلماء الذين نقلنا عن بعضهم، ورأيناه.