«رحلات في حجرة الكتابة»: استدراج القارئ إلى فخ الحكاية
عشرة أعوامٍ مرّت على صدور الطبعة الأولى الإنجليزية من رواية «رحلات في حجرة الكتابة» للروائي الأمريكي ذائع الصيت «بول أوستر»، والتي صدرت مؤخرًا عن دار المتوسط في ترجمة رشيقة للمترجم والشاعر «سامر أبو هوّاش». أوستر الذي يعده الكثيرون أحد أكثر الروائيين الأمريكيين المعاصرين تميزًا وفرادة، عُرف برواياته التي تحمل طابعًا بوليسيًا مميزّا، ولعل هذا أحد أسباب ذيوع صيته لاسيما في العالم العربي.
بدءًا بعنوان هذه الرواية يكون القارئ على وعدٍ مع حالة خاصة من استكشاف العالم الروائي الذي سينسجه «بول» حول «الكتابة»، ذلك العالم السحري الذي يستثير فضول الناس دومًا للتعرّف عليه، أو ما يمكن أن يعبّر عنه أحيانًا «بمطبخ الكتابة».
يستغل «أوستر» ذلك الفضول وهذا الشغف فقط ليقود القارئ إلى حكاية مختلفة وتفاصيل لا يمكن توقعها أبدًا، ولعل البداية التي وضعها مع بطل الرواية العجوز «السيد بلانك» الذي نجده في غرفة لا نعرف ماهيتها، ولا إن كانت تنتمي لسجن أو بيتٍ أو مستشفى أو خلاف ذلك، وبين يديه مخطوط رواية مجهولة المؤلف وألبوم صور وعدد من الشخصيات يظهرون ويدلون بمعلومات إلى هذا العجوز ثم ينسحبون بهدوء.
هكذا يضع الراوي القارئ وجهًا لوجهٍ أمام تلك الشخصية الاستثنائية، وبتلك الأحداث الغريبة التي ستتشكل له شيئًا فشيئًا، وكأنه إزاء شخصيةٍ روائية يجري خلقها بين يديه، شخصية لم يكن من العبث تسميتها «بلانك»، والتي تعني «فارغا»، ثم يتم تعريف بعض الشخصيات والأحداث من حوله، لنستكشف أن وراء تلك الشخصية تكمن الرواية وتختبئ الحكايات.
تحضر الشخصيات واحدة تلو الأخرى، وفيما القارئ منهمك في التعرف عليها، إذ ترد إشارات بين الحين والآخر لكون ذلك العجوز على علاقة بهذه الشخصيات، كل واحدٍ منهم يروي طرفًا من الحكاية، ليبدو أنهم على علاقةٍ من نوع خاص به، وهي علاقة تمتد في الزمان والمكان، كما سنكتشف مع شخصيات «آنا بلوم»، و«صوفي»، و«سيغموند جراف»، والمحامي الخاص به، وغيرها، ولدى كل شخصيةٍ منهم أطراف من حكاية ما.
لا يصرّح «أوستر» في أي من صفحات روايته بهويّة «السيد بلانك»، ولا يشير إلى كونه ذلك الكاتب/الروائي بالأساس، حتى وإن بدا أن بعض الشخصيات التي تمر عليه شخصياتٌ روائية بامتياز، (بل إن بعضها هي شخصيات لروايات أخرى لبول أوستر)، ولكنه يفضّل أن يترك للقارئ مساحة التأويل، وهو يتحدث عن الكاتب الإنسان في هذا العالم الذي يواجه بالكثير من التحديات والصعوبات ويظل متهمًا على الدوام!
هكذا يبدو «أوستر» على الدوام مهتمًا بالمتلقي، بالقارئ القادر على صنع العالم والتعرّف على شخصيات روايته بعد قراءةٍ واعية، بل هو يراهن على بقاء القصص والحكايات رغم كل مغريات العالم الافتراضي الذي نعيش فيه، يقول في أحد حواراته:
تنتهي سطور رواية «رحلات في حجرة الكتابة» التي يفاجئ القارئ بأنه ليس فيها ثمّة رحلات بالمعنى الذي يعرفه، بل لا حتى حجرة الكتابة التي اعتادها، ولكنها رواية خاصة على طريقة «بول أوستر» تجعل القارئ يشعر بالدوران بين شخصياتها، وهو الدوران الذي يجعله يستعيد قراءتها مرة أخرى، بل ربما التعرف على عالم ذلك الروائي الثري من جديد من خلال رواياته الأخرى.
تجدر الإشارة في النهاية إلى أن ترجمة «سامر أبو هواش» جاءت شديدة الدقة والتميّز، إذ استطاع أن يعبّر عن النص الإنجليزي بلغةٍ عربية رائقة ومتقنة، وربما يعود لكونه شاعرا بالأساس، نقل الكثير من نصوص الأدب الأمريكي إلى العربية، فقد سبق أن ترجم أعمال «تشارلز بوكوفسكي» و«مارلين روبنسون» وغيرهما، وقدّم مؤخرًا للمكتبة العربية عددًا من أعمال «بول أوستر»، كان آخرها تلك الرواية التي بين أيدينا.