العالقون بين المعارك!
مضى وقت طويل وهي تعيش معه، شاب وسيم يحبها، يعمل في مركز مرموق، لكن كان لفمه رائحة كريهة، تذكرها برائحة دفاترها وهي في الصف الثالث الإبتدائي حين تقيأت عليها وعنفتها المعلمة.
كانت مولهه بإعلانات معجون الأسنان، وحلوى النعناع التي تظهر في الدعاية كنسيم مليء بالفراشات ومشهد يطير فيه شاب وفتاة في الهواء من أثر الانتعاش، مضت حياتها تعيش في سردية واحدة اختزلت فيها مشكلاتها في حرمانها من شاب يحبها بلا رائحة كريهة.
يوما ما رأت حلمها حين حدثت تلك الحركة التي لم تخل منها الدراما العربية، التقطت مفتاح سيارتها من الأرض أثناء ميله لمساعدتها فشمت رائحة معجون الأسنان الذي لطالما ملأ ردهات أحلامها.
هاهو الحلم يتحقق في المكان رغم أن الأحلام دائمًا في اللامكان واللازمان، إلا أنها رأت الحقيقة وكل مشكلات الحياة قد تقلصت في رائحة أسنان ذلك الفتى الذي غادرها مسرعًا، حجبت رائحة معجون الأسنان بدانته وجسمه المترهل.
عادت ومرت حياتها كما هي تعيش في كنف إعلانات معجون الأسنان والشعور بالحرمان.
يوتيوبيا التمني (زنازين الهواء الطلق)
ثمة شبه بين تلك الفتاة وبين تفاصيل حال تعيشه أجيال متأثرة سلبًا بنقصان أحلامها، ترى أن حلم الثورة في صورة ثورة سريعة تأتي بجميع الحقوق، تزيل معها كل ما أفسده الدهر في كبسة زر بلا أية خسائر ولا ثمن، يظل العقل الذي يفكر بهذه الطريقة في رحلة دائرية حول حلمه اليوتيوبي دون أن يجده، وربما هو ما يفسر رفض بعض المتأثرين بهذه الحالة لأية حلول مكتفيين بانتظار معجزة من السماء تحقق حلمهم كما تصوروه هم في مخيلاتهم، مثل تلك المرأة التي تنتظر القدر أن يهديها زوجًا برائحة أسنان تشبه رائحة النعناع وبلا أية عيوب كملاك سيتنزل إليها من السماء.
أحيانا يلجأ المرء إلى مجموعة أفكار تخيلية كسلوك تعويضي عما واجهه من حرمان أو أزمات لها تأثير كبير في حياته فيبحث عن عالم من صنع خياله؛ خالٍ من مشكلته تلك التي يعاني الحرمان منها أو نقصانها، ربما لا ينتبه لأي شيء آخر سواها، لا ينتبه للتفاصيل التي ستواجه في الطريق ولا يضع نفسه في موضع خيارات عدة بل ربما يهاب اتخاذ القرارات لأنها الحد الفاصل بين الواقع وحلمه اليوتيوبي الذي سيظهر على حقيقته حين يبدأ في امتثاله للتحقق.
إنها يوتوبيا قشرية مادية ليست من ذلك النوع الذي يقف في مواجهة الرضوخ للواقع، ليست تلك التي تنسج من الخيال طريقًا للتمرد على الواقع، ولكنها باتت كزنازين الهواء الطلق.
اليوتيوبيا التي لا تتحول فيها الأمنيات إلى قرارات واختيارات فإنها يوتيوبيا تتوقف عندها الساعة، لا يرى المرء ما بعدها وما قبلها، لكنه شغوف بها إلى الحد الذي يجعله ناقمًا على كل شيء حوله، ويعشقها ويهيم فيها لأنها مجهول لا يعرف تفاصيله ولا يتخيل طريق الوصول إليه.
العقل المتأثر بهذه الحالة لا يعرف التدرج والمراحل، لا يرى سوى النتائج ويظن أنها ستتحقق مع قفزة واحدة أو أنها ستحدث كلها في ظرف واحد أو في مكان وزمان معين، ثم يحدث مع مرور الوقت ردة فعل تجعله كالعالق بين الأمكنة والأزمنة لا هو تعايش مع واقعه ولا هو تمرد عليه.
مع طول أمد هذا التفكير يعيش المرء العاشق للمجهول في أحلامه غير المحققة على اجترار الألم وتمثل الحرمان ورفض الحياة كتلك الفتاة التي لم تنقل إلى منطقة أحلام أخرى وظلت في كنف الشعور بالحرمان من الارتباط بشاب بفم له رائحة النعناع، فلا هي رضخت لوضعها القائم ولا هي تمردت عليه وحاولت التغيير.
أولئك العالقون في المنتصف هم الأكثر حيرة، يهدرون الكثير من لحظات حياتهم، يقعون تحت سلطة رمزية هي سلطة عشق المجهول أو تمثل الحرمان والوله بالكمال، ساهم في ذلك زمن سلطة الكلمة والصورة، الكلمات المرصوصة التي تحكي عن ملحمة نضالية ستحول البلاد إلى أرض العدل في بضعة مظاهرات وعدة أشهر، وانتصار مؤزر سيأتي من السماء. أو كسلطة الصورة التي اختزلت تفاصيل وأقنعت الشباب أن جميع المجندات في الجيوش الكردية ذوات شعر أصفر وأجسام رشيقة، وأقنعت الفتيات الريفيات أنهن يعِشن في حرمان من طبقات مظلمة لأنهن لم يستمتعن برشفة فنجان قهوة على ساحل البسفور كما تفعل كاتبة شابة تعيش مع أسرتها في جزر المالديف.
يقول مانهايم:
وربما يتعرض المرء بعد ذلك لصدمة تجعله يتخلى عن أحلامه التي أصبح يراها وهمًا كبيرًا، فيفقد جزءًا كبيرًا من كيانه الشخصي كان يعتمد فيه على رغبته في العيش فتتجه اهتماماته إلى أمور بسيطة اعتياديه كمشاغل العيش الحياتية أو الترفية المبالغ فيه ومحاولة الهرب من التفكير في كل ما كان يشغل عقله سابقًا، وهو ما يفسر عدم اكتراث بعض الشباب اليوم بالشأن العام بعد أن كانوا من قبل في أوج حماستهم للتغيير وحلم الثورة، أو يصبح مبالغًا في الواقعية والتفكير العملي ويتحول عقلا عملياتيا ويفقد ما يجعله إنسانا متطلعا طموحا، أو كما يحدث عند الأفراد والجماعات التي تعرضت لهذه الحالة الإفراط في اللجوء إلى مرفأ الماضي وإنجازاته وانتصاراته وتضحياته.
يوتيوبيا فعّالة
من المفترض أن تحمل اليوتيوبيا الإنسان على استكشاف الممكن والمحتمل المختفي بين أدغال الواقع، فالمرء بلا خيال هو إنسان ميت، والتغيير لا يأتي إلا من أولئك الحالمين الذين لديهم قدرة على القفز فوق مصائبهم والتمرد على واقعهم، وهي الحاملة لرؤية تفاؤلية تجاه مسيرة الإنسان.
أي أننا بشكل عام نبحث عن اكتشاف النقطة التي تصبح فيها الأفكار دافعة للتغير ومتسامية على الواقع محركة له إلى الأمام، وهذه النقطة هي الحد الفاصل بين يوتيوبيا فعالة ويوتيوبيا التمني.
يذهب كارل منهايم في كتابه الأيدلوجيا واليوتيوبيا إلى أن:
وأن اليتوبيا تأتي متسامية على الواقع في مواجهة المنظومات القائمة والأيدلوجيات التي ترسخ لوجود الوضع الواقعي، رغم أن كليهما من وحي الرغبة في تغيير الواقع أو معارضته، إلا أن الإيديولوجيا تروم التحقق، أما اليوتوبيا فهي عالقة في اللامكان.
وهذه بدايات التغيير في المسيرة الإنسانية دائمًا تأتي من فكرة يوتيوبية قياسًا بالوضع القائم تعتبر غير قابلة للتحقق إلا أنها إن توفرت الرغبة في تحقيقها وبدأ إيمان الأفراد والمجموعات بها تتحول إلى أفكار تفرض نفسها على الواقع.
إن هذا يفسر لماذا لم يتقبل الشباب -الذي بدأ عقله يتأثر بالثورة باعتبارها يوتيوبيا متسامية على الواقع- أية أفكار تأتي من داخل المنظومات القائمة سواء أكانت أيدلوجيات دينية أو أيدلوجيا الدولة عسكرية أو أي منظومة تميل إلى الاستقرار. فالمندمجون مع الحالة اليوتيوبية لا يفهمون مبدأ الحسابات، كما أن هذا يفسر أيضًا تأخر اندماج الجماعات والأفراد والمؤسسات في الثورة باعتبارها تفكيرا يوتيوبيا ناقما على الأوضاع، لأنه وبحسب ما أوضحه ماناهيم أن اليوتوبيا التي تنطلق من مدخل تغيير الواقع عادة لا تأتي من عقلية متأثرة بمنظومة سائدة، لأنه في العقلية الإنسانية لا تستطيع عقلية تحمل تصورات ما أن تأخذ وضعية يوتوبية متمردة على نفسها.
إذًا هذه هي البدايات التي تصنع التغيير ولا تحدث التحولات الكبرى إلا بها، ومع تحول الفكرة اليوتيوبية لوضع متداخل مع الواقع؛ يبدأ قياس كل فكرة بمدى الرغبة في السعي إلى تحقيقها وتحمل نتائجها، وفي هذه الحالة بمجرد أن يبدأ الفرد أو الجماعات في التفكير في خطوات تحقيق حلمه سيكون هناك عدة اختيارات، وسيكون لديه القدرة على التنبؤ بثمرة تفكيره واختياراته ولن تصدمه حقيقة طبائع البشر والكون، وسيدرك أن حصوله على ما يريد يعني خسارة ما في موضع آخر وأن لكل شيء ثمن ولا شيء كامل هنا في هذه الحياة.