الترجمة حين تصبح وصاية واستبدادًا: «هوليوود» نموذجا
في الكتاب الأول: «التشخيص»، من «عزاء الفلسفة» لـ «بوئثيوس»، يضع الدكتور عادل مصطفى هذه الكلمات في الهامش الأول [1]. وهو، في حقيقة الأمر، لا يعكس سوى مأساة أي مُترجِم بشكل عام، والمأساة الأكبر لمُترجِم الشعر بشكل خاص.
أعتبر نفسي واحدًا من الرافضين –بشدة– لترجمة الشعر للغة العربية من أي لغة أخرى، لأن «روح» الكلمات تفنى، بالكامل، حين تنتقل من لغة لأخرى، وحين تقرؤها بلغتك الخاصة فإن المسافة بينك وبين الكاتب وشعوره وانفعاله تأخذ في الازدياد طرديا، حتى يصير الكاتب وما كتبه على امتداد بصرك كنقطة تتبينها بصعوبة شديدة.
تشارلز بوكوفسكي [2] هو شاعر وروائي أمريكي (كتب قصصا قصيرة كذلك)، وُلِدَ في ألمانيا في أغسطس/آب 1920، وتوفي في مارس/آذار 1994. ترك إرثا كبيرا من الأدب والشعر مازال للآن يُحْتَفى به.
الحديث هنا سيكون عن روايته «هوليوود Hollywood» التي صدرت في عام 2017، في نسختين؛ الأولى عن دار مسكيلياني للنشر، والأخرى صادرة عن منشورات الجمل، ترجمة عبد الكريم بدرخان (في النسختين)، وتدقيق (أُكَرِّرُ: تدقيق!) زهير بوحولي في طبعة مسكيلياني.
قبل الشروع في الحديث عن الرواية بشكل أكثر تفصيلا، أشيرُ فقط إلى أنني قررت، حين علمت بصدور نسخة مترجمة من هذه الرواية، أن أقرأها بلغتها الأصلية [3]، ولعل السبب يكمن في أنني قد قرأت الكتاب الذي تمَّ فيه تجميع أغلب أعماله الشعرية في الفترة بين (1951-1993)، وأقصد كتاب Pleasures of the damned.
قبل ذلك كانت لي محاولة قراءة مع ترجمة لكتابه الشعري «الحب كلب من الجحيم Love Is a Dog from Hell» والصادر عن منشورات الجمل أيضًا. ووقتها، شعرت باختناق شديد على عديد الأصعدة لأنني لم أجد بوكوفسكي في هذه الترجمة، ولا أي ترجمة أخرى. حمدت الله أن قراءتي لهذه الترجمة كانت لاحقة على قراءة النصِّ الأصلي بالإنجليزية.
قرأت الرواية باللغة الإنجليزية لفترة امتدت لأقل من شهرٍ بقليل، وحين انتهيت منها، تعثرت (والمعنى هنا مقصود!) بالصدفة في نصِّها المترجم باللغة العربية.
حينها قررت أن أرى، بكل صدق، مدى الإبداع الذي قام به المترجم في ترجمة رسالة بين بوكوفسكي نفسه وصديقه هاري Harry، حيث لم ينقطع التواصل بينهما لمدة اقتربت من عشرين عامًا.
شعرت بصدمة حقيقية حينما رأيت بعيني أن النسخة التي أتفحصها تخلو تمامًا من وجود هذه الرسالة. لم أتخيّل حتى تلك اللحظة ما يمكن لمترجم أن يقترفه من آثام في حقِّ نصٍّ يترجمه لقارئ يثق فيه، ويدعمه ماديًا مقابل هذا الجهد المبذول. لحسن الحظ كان في حقيبتي النسخة الإنجليزية التي أقرؤها. جلست على أقرب مقعد، واستخرجت الفصل الخامس عشر من الرواية بالإنجليزية، وقارنت بينه وبين النصِّ المُترجَم.
تأكدت حينها أن الكارثة أكبر مما أتخيل؛ فبترقيم الصفحات بالإنجليزية، قرر المترجم، بكل جرأة، وبحرية تجاوزت الحدود حتى صار من المستحيل وصفها بالحرية الإيجابية أساسًا، أن يتجاهل الرسالة بين بوكوفسكي وهاري. وبالتالي، فإن النصف الثاني من صفحة رقم 75، وصفحة 76 بالكامل، وصفحة 77 بالكامل، وبداية صفحة 78، كل ذلك لن يقرأه قارئ النصِّ المُترجَم.
والآن، أرجو من قارئ المقال أن يتحمل معي إذ أقوم بإرفاق النصِّ الكامل من الرسالة، مع الفقرة التي تسبقها والتي تليها مباشرة، وسأقوم بوضع تظليل على الفقرتين السابقة واللاحقة على الرسالة.
Hello Harry:
How’s it hanging? They’ve been running good. Badly hungover other day, got to track for 2nd race, gotta win on a 10-to-one-shot. I no longer use the Racing Form. I see everybody reading it and almost everybody loses. I’ve got a new system, of course, which I can’t tell you about. You know, if the writing goes to hell, I think I can make it at the track. Shit. I’ll tell you my system, why shouldn’t I? O.K. I buy a newspaper, any newspaper. I try to buy a different newspaper every day, just to shake up the gods. Then out of that newspaper I’ll choose any handicapper. Then I’ll line up his selections in order. Say there’s an 8 horse race. On my program I will mark next to each horse the order of his selection. Example:
horse 1. 7
horse 2. 3
horse 3. 5
horse 4. 1
horse 5. 2
horse 6. 4
horse 7. 8
horse 8. 6
The system? Well, you take the horse’s odds that go off below the number of the handicapper’s selection. If more than one set of odds goes off below, then take the greatest drop. For example, horse 1, selection 7 going off at 4-to-one is better than horse 6, selection 4 going off at 3-to-one. There is one exception to this system. If horse 4 goes off at below 1, that is 4/5 or below, then pass the race if there is nothing working against it. That is because plays on nothing but odds-on-favorites always show a loss.
The way I came up with this system was that when I was in highschool I was in the R.O.T.C. and we had to read the Manual of Arms and in this fat book there was a little bit about the Artillery. Now, remember this was 1936, long before radar and all the homing-in devices. In fact, the book was probably written for World War I, although it might have been compiled some time later, I’m not sure. Anyway, the way they figured how to lob an artillery shell was to take a consensus. The Captain would ask, “O.K., Larry, how far away do you think the enemy is?”
“625 yards, sir.”
“Mike?”
“400 yards, sir.”
“Barney?”
“100 yards, sir.”
“Slim?”
“800 yards, sir.”
“Bill?”
“300 yards.”
Then the Captain would add up the yards and divide by the number of men asked. In this case, the answer would be 445 yards. They’d log the shell and generally blow up a large proportion of the enemy.
Decades later I was sitting at the track one day and the Manual of Arms came back to me and I thought, why not apply the Artillery system to the horses? This system has worked for me most of the time, but the problem was and is human nature: one gets bored with the routine and sets off in another direction. I must have at least 25 systems all based on some kind of crazy logic. I like to move around.
Now you ask, how the hell did I land on a 10-to-one shot in the 2nd race the other day. Well, it’s like this, I write down the handicapper’s selections before scratches. This horse happened to be selection #16 before scratches. When it went off at 10-to-one, curiously, it was the largest drop from the handicapper’s selections. A rarity, true, but there it was. And when such things occur, they make one feel very odd indeed. Like maybe there’s a chance sometimes. Well, I hope you’re O.K. and that your young lady students don’t give you a hard-on, or maybe I should hope that they do.
Listen, is it true that Celine and Hemingway died on the same day?
Hope you’re all right…
Keep ‘em crying,
yrs,
Henry Chinaski
في الترجمة العربية لن تجد أي أثر للرسالة، وسيصبح حضور الرسالة في الفصل نفسه أقل بكثير من الهامشي أو العَرَضي. في حين أن النصَّ (نصُّ الرسالة) نفسه يكشف عن الكثير من الأبعاد الحميمية بين الصديقين، واعتماد بوكوفسكي على خطة أو استراتيجية قام هو نفسه بتطويرها ليفوز في مراهنات سباقات الخيول.
بل إننا سنجد حديثاً أيضاً عن الطبيعة البشرية يقترب من حدود الفلسفة، بل يمكن اعتباره رؤية فلسفية. وهو أمر ليس بغريبٍ عن بوكوفسكي ويعرفه عنه قراؤه المخلصون. كما أن قارئ بوكوفسكي يدرك مدى هوسه الشديد بمسابقات الخيول، وبالتالي تكتسب هذه الرسالة مجالات كثيرة من الدلالة، على المستوى الشخصي للكاتب نفسه، ومن إدراك القارئ لهذا الأمر بجانب الأبعاد التي ذكرتها سلفاً.
قبل أن أقارن بين الروايتين، على مستوى البنية النصية للفصول قرأت كلمات الممثل Sean Penn على الغلاف الخلفي من الكتاب، إذ يقول:
وترجمها «عبد الكريم بدرخان» كما يلي: «ميزة بوكوفسكي أنه عندما يتحدث عن شيء فإنه يقول الحقيقة». لاحظ هنا كيف قام عبد الكريم بترجمة «He’s right» إلى «فإنه يقول الحقيقة»، بدلا من «فإنه يكون على صواب» أو «فإنه يكون مُحِقًا»!
ويحق الآن للمرء أن يتساءل، ما هو دور المترجِم؟ وهل يحق له أن يقوم بحذف أكثر من ثلاث صفحات من الرواية لأنه لم يفهم ما يدور في هذه الصفحات [4]؟ هل وجدها صعبة؟ هل قرر بشكل استبدادي أن يحرمَ الناس من النصِّ لأنه لم يفهمه أو رأى أنه لن يفيد بأي شكل ممكن؟ أم لعله رأى أنه سيبذل فيه الكثير من الجهد ليترجمه وربما خرج منه في شكل لغوي غير متماسك؟ ماذا عن «استسهال» الترجمة؟ وسَعي المترجم للتخلص من النصِّ أو إبراء الذمَّة منه، إن جاز التعبير، بأي شكل؟
حسناً، بالتالي، ما هو دور المُدقِق؟ هل قام بالتدقيق من خلال المقارنة بين النصين الإنجليزي والعربي الذي تم إنجازه؟ هل رأى هذا القَطْعُ المُتَعَمَّد للنص بواسطة المترجِم [5]؟ إن لم يره، فكيف يكون مدققاً؟ وإن رآه وقرر تجاهُلَ الأمر، فكيف يمكننا أن نفهم ذلك؟
يصاب المرء بشيء من الحسرة عندما يتذكر حرصه الشخصي في التدقيق كلمة بكلمة، مع أي نصِّ يترجمه، بل استعانته بأصدقائه لكي يبحثوا سويا عن المعنى الذي يقترب لأقصى مدى ممكن من قصدية المؤلف.
جرائم الترجمة متعددة، وأقصد كلمة «جرائم» تمامًا حين يصل الأمر لهذا الحد، وإذا ما أضفنا الأسعار العالية للروايات المترجمة بشكل خاص، وللكتب بشكل عام الآن، فإن المأساة تكتمل، وتصبح الخسائر على جميع المستويات؛ المادي منها والمعنوي والأدبي… إلخ.
للترجمة نظام أخلاقي يلزم المترجم التمسُّك به، والسير وفقًا له، وإلا، فما الذي يمنع أن تتحول حياتنا الطبيعية للنص، من خلال الترجمة، إلى قتلٍ له أو بترٍ لأجزاء منه دون أدنى شعور بالذنب؟[6] وماذا نصبح حينها كمترجمين، أمام ذواتنا أولا قبل أي اعتبارٍ آخر؟!
كلمة أخيرة، روايات بوكوفسكي الإنجليزية سعرها أرخص من الترجمات، غالبًا، وحينئذ، يكون من المفيد على المستوى المادي، اقتناء الرواية أو الأشعار بلغتها الأصلية، بجانب ما يجنيه القارئ من تطوير وتحسُّن في لغة غير لغته الأم ستكون مفيدة له بكل تأكيد، ناهيك عن الاقتراب من الروح الأصلية، الأصيلة، للنَصِّ.
الهوامش [1] انظر بوئثيوس: «عزاء الفلسفة»، ترجمة: عادل مصطفى، مراجعة وتقديم: أحمد عتمان، رؤية للنشر والتوزيع، 2008، ص48.[2] أو «بيوكاوسكي» كما ينطق هو اسمه، لكني سألتزم بما اشتُهر عنه في الترجمات العربية وكما ينطقون اسمه في أوروبا.[3] قرأت النسخة الصادرة عام 2007 في بريطانيا عن دار نشر CanonGate Books Ltd. وقد صدرت في طبعتها الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1989 عن دار نشر Black Sparrow Press.[4] لو أن المترجم أورد في هامشٍ مثلاً قراره بتجاهل هذه الرسالة بالكامل، مع إعطاء أسبابه، أو حتى بدون إعطائها، لما اضطررت لكتابة هذا النقد غالبًا.[5] إذ كيف يمكن لإنسان أن يعجز عن رؤية ثلاث صفحات متتاليات؟![6] جرائم الترجمة ضد نصوص بوكوفسكي تم الحديث عنها أيضًا في ترجمة روايته «نساء Women» الصادرة عن منشورات الجمل أيضًا بترجمة شارل شهوان!انظر: مصحح مجهول، «نساء شارل شهوانسكي، ما هيك؟»، مجلة عالم الكتاب، سبتمبر/ أكتوبر 2015، عدد 92/93، ص 100، 101. حيث تحول بوكوفسكي لكاتب أو روائي لبناني! بجانب الترجمة السريعة للنصوص دون أدنى تفكير أو تدبر للنصِّ الأصلي.