لا أملك ثمن العلاج: مأساة العلاج النفسي في مصر
كانت هذه نتيجة الإحصائية الرسمية التي أجرتها وزارة الصحة المصرية ونشرتها أواخر عام 2017، لكن عندما ننتقل إلى أرض الواقع نجد الحقيقة الصادمة، وهي أنه لا توجد مستشفيات حكومية تكفي لاستقبال هؤلاء المرضى، فعدد الأسرِّة المطلوبة لرعايتهم 17 ألف سرير، بينما المتوفر 6700 سرير فقط.
بالإضافة إلى الفجوة السابقة، هناك معضلة أخرى تتمثل في الوصمة المجتمعية السائدة تجاه المريض النفسي، التي تجعل من الرقم المذكور في البداية غير دقيق بنسبة كبيرة، فالكثير من المرضى يرفضون مبدأ الذهاب إلى المستشفى النفسي خوفًا من تغير نظرة المحيطين بهم تجاههم، وحتى في حال رضاهم عادةً ما يُفضلون العلاج الخاص لقلة جودة العلاج الحكومي، مما يضطرهم لدفع مبالغ باهظة زادت بعد قرار تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، والذي جعل المريض النفسي يضيق به الحال من ناحيتين؛ متابعة نفقات علاجه وتلبية متطلباته المعيشية.
جلسة واحدة لن تكفي
ضمن خطواتنا لإعداد هذا التقرير رصدنا متوسط أسعار الكشف عند الأطباء النفسيين، الذي كان 250 جنيهًا مصريًا/ 14 دولارا أمريكيًا، مع الوضع في الاعتبار أن العلاج النفسي في الغالب ليس مثل أنواع العلاج الأخرى، فالمريض يحتاج للمتابعة الدورية بحد أدنى جلستين شهريًا، وهو ما يعني أن التكلفة الشهرية تبلغ بحد أدنى 500 جنيه مصري/ 28 دولارًا أمريكيًا.
وبالمقارنة مع متوسط دخل المواطن المصري الذي يبلغ 2900 جنيه/ 165 دولارًا أمريكيًا شهريًا، فإن هذا المبلغ يمثل سدس دخله دون حساب الأدوية التي قد تُوصف له، وفي بعض الأحيان تتأزم حالة المريض في صمت نتيجة عدم مقدرته المادية على العلاج، ويظهر هذا في حديث ندى (اسم مستعار) – 23 سنة- مع «إضاءات»، فهي تعاني الاكتئاب الحاد الذي دفعها لمحاولتين فاشلتين للانتحار، لكن غلاء الجلسات النفسية يحول بينها وبين الذهاب للطبيب.
يتعقد الوضع في حال إذا ما كان المريض أو المريضة ما زال تابعًا ماديًا لأسرته، التي في الغالب ما تكون متأثرة بالنظرة المجتمعية للمرض النفسي على أنه رفاهية غير ضرورية، وهو ما ينطبق على سندس (اسم مستعار) – 22 سنة- برفض أهلها علاجها نفسيًا، وفي الوقت نفسه لا تمتلك مالًا خاص بها تستطيع الإنفاق منه على جلسات العلاج النفسي.
حديثنا فيما سبق يتعلق بزيارة الطبيب النفسي في العيادة، ولم نتعرض إلى الحالات التي يكون من الضروري فيها الاحتجاز في مستشفى لفترات قد تطول أو تقصر حسب حالة المريض،فالأسعار تتفاوت لكنها في جميع الأحوال لن تقل عن خمسة آلاف جنيه شهريًا/ 285 دولارًا أمريكيًا، وفي المستوى المتوسط تكون التكلفة يوميًا 400 جنيه/ 23 دولارًا أمريكيًا، مما يعني دفع 12 ألف جنيه شهريًا/ 683 دولارًا أمريكيًا، وهو مبلغ يُصعب توفيره بالنسبة للمستوى المادي لكثير من المرضى النفسيين في مصر.
أسعار الأدوية المرتفعة والتناول دون وصفة طبية
تتكرر هذه الشكوى من العديد من المرضى النفسيين؛ نتيجة أن الكثير من الأدوية النفسية أسعارها مرتفعة، مما يجعل المريض النفسي في كثير من الأحيان غير قادر على شراء الدواء؛ لأنه يحتاج ثمنه لتسديد تكاليف المعيشة الأساسية.
عند البحث عن أسعار أشهر الأدوية النفسية في الصيدليات، وجدنا أن «البرستيك 50 مجم» وهو مضاد حديث للاكتئاب، يبلغ ثمن العلبة منه التي تحوي 30 قرصًا 230 جنيهًا مصريًا/ 13 دولارًا أمريكيًا، أما دواء «الاسيتا» لعلاج الاكتئاب، فالعلبة منه يبلغ ثمنها 77 جنيهًا مصريًا/ 4 دولارات أمريكية وبها 14 قرصًا، بينما يبلغ ثمن علبة دواء «السيمبالتا تركيز 60 مجم» لعلاج الاكتئاب والقلق 305 جنيهات/ 17 دولارًا أمريكيًا وبها 28 قرصًا، وأخيراً «المودابكس» وهو من أشهر مضادات الاكتئاب التي تُوصف في مصر، وصل سعره إلى 60 جنيهًا/ 3.5 دولار أمريكي للعلبة التي بها 20 قرصًا.
ونظرًا لارتفاع أسعار الكشف عند الأطباء النفسيين كما أوضحنا مسبقًا، يلجأ الكثير من المرضى إلى البحث ذاتيًا على الإنترنت أو من خلال الأصدقاء عن دواء مناسب يُخفف عنهم أعراض المرض، والبعض منهم يلجأ للأدوية التي تساعد على النوم وتخفف الأرق، باعتبارها مأمونة الأعراض الجانبية، لكن في كل الأحوال تبقى المحاولة الذاتية غير مبنية على أسس علمية مما يجعلها تساهم في تأخر عملية العلاج، بالأخص في الأمراض النفسية غير الشائعة.
خسرت عملي بسبب مرضي النفسي
محمد – 35 سنة
تؤثر الأمراض النفسية على قدرة المريض في الاستمرار في عمله،فمرض الاكتئاب والذي يُعد من أكثر الأمراض النفسية انتشارًا، صنّفته منظمة الصحة العالمية على أنه رابع مسببات الانقطاع عن العمل في عام 2009، وتوقعت أن يتقدم ليصبح في المركز الثاني بحلول عام 2020.
وحتى عند ذهاب المريض النفسي – المُشخص بالاكتئاب- إلى العمل فإنه يفقد قدرته الكاملة على الالتزام نتيجة مرضه، فهو غالبًا ما يعمل ببطء ويكون غير قادر على التركيز، ولا يلتزم بتسليم المهام في مواعيدها المُحددة، وأحيانًا يخرج للراحة في غير موعدها حتى يرتاح من الضغط الواقع عليه، وفي الوقت نفسه يواجه صعوبات في التواصل مع زملائه، ويحتاج لمجهود مضاعف حتى يُنجز المطلوب منه.
تشرح هبة (28 سنة) لـ«إضاءات» أزمة مريض الاكتئاب مع الاستمرارية في العمل، فقد عملت فور تخرجها من الجامعة في إحدى مؤسسات المجتمع المدني، وكان العمل يمثل بالنسبة لها مصدر ضغط كبير على صحتها النفسية، وبعد تعرضها لمواقف محرجة مع زملائها تركت الوظيفة لتجلس في المنزل دون عمل لفترة تجاوزت العام، ورغم أنه قد عُرض عليها عدة فرص للعمل، فإنها تؤكد أنها نفسيًا غير قادرة على الانطلاق في وظيفة جديدة.
أحيانًا تكون الخسائر مضاعفة، خصوصًا إذا ما كانت هناك مسئوليات متعلقة بأشخاص آخرين يتطلب من المريض الوفاء بها، ففي حالة محمد (34 سنة) الذي أنجب طفلتين بعد زواجه، أثّر مرضه النفسي على عمله في إحدى دول الخليج، فلم يستطع الاندماج مع زملائه في العمل، وهو ما أدى في النهاية لفسخ تعاقده وعودته إلى مصر وبقائه دون عمل، مما عرضه لضغط نفسي مستمر.
ومن التأثيرات المهمة على مريض الاكتئاب فيما يخص العمل، فقدانه الشغف تجاه مجال كان يومًا ما يحبه، ويتمنى أن يكمل مسيرته المهنية فيه، ويروي لنا صابر (اسم مستعار) – 29 سنة- الذي يعمل في مجال البرمجيات كيف حدث هذا معه، فمنذ إصابته بالاكتئاب فَقَدَ تدريجيًا قدرته على تطوير نفسه، واستمتاعه بالوقت الذي يقضيه في العمل، مما أدى لخسرانه وظيفة كان يحسده الناس عليها لحبه لها وفق تعبيره، وهذا جعل الأشخاص الذين تعلموا على يديه يصلون لمناصب متقدمة عنه، ويختتم حديثه بالتأكيد على ندمه في تأخره في العلاج النفسي منذ ظهور أعراض الاكتئاب عليه، حتى وصل به الحال إلى هذه الخسارة المدمرة.
العلاج النفسي الخيري
كانت الجملة السابقة نقطة الانطلاق للبحث عمن يقدم خدمة علاج نفسي جيد بشكل مجاني، وتوصلنا إلى منشور على فيسبوك يُعلن صاحبه عن تقديم العلاج النفسي مجانًا لغير القادرين، كان ذلك طرف الخيط الذي بحثنا وراءه حتى وصلنا إلى سامي (اسم مستعار) – 26 سنة- صاحب الفكرة.
والذي كشف في حديثه مع «إضاءات» عن الصورة الكاملة منذ انطلاق الخدمة قبل عامين لمريضة واحدة، حتى وصول المستفيدين منها بالشراكة مع مركز دعم للاستشارات النفسية والأسرية، الواقع بمنطقة التجمع الخامس بمدينة القاهرة، إلى 32 مريضًا، تلقوا الجلسات النفسية والأدوية مجانًا.
يُرجع سامي شرارة ظهور الفكرة في ذهنه إلى تجربة شخصية مر بها في فترة من حياته، عندما كان طالبًا في الجامعة ولم يكن لديه مصدر دخل ثابت، وفي الوقت نفسه كان يعاني من مشكلة نفسية، وعندما حاول اللجوء إلى الحلول المتاحة للعلاج النفسي دون مقابل، لم تكن على مستوى جيد، فعلى سبيل المثال، ذهب إلى مستشفى العباسية الحكومي للصحة النفسية، والذي كان تجربة سيئة للغاية بحسب وصفه، كما حاول التواصل مع أطباء أكفاء، لكنهم لم يتمكنوا من تقديم تخفيض ثمن الكشف بشكل مستمر، إلى جانب ذلك فإنه بعد التخفيض فالتكلفة كانت لا تزال مرتفعة بالنسبة لحالته المادية.
مرت خدمة دعم علاج المرضى النفسيين ماديًا بعدة مراحل، ففي البداية نشر سامي دعوة على فيسبوك موجهة لمن لا يملك القدرة المادية على العلاج إلى اختيار الطبيب الذي يفضله وسيتم تغطية التكاليف، وبالفعل استفادت من الخدمة مريضة ذهبت إلى أحد الأطباء، والذي عند علمه بالمبادرة تشجع للمشاركة في تحمل التكلفة بشكل جزئي في البداية وانتهى الأمر بتحملها كاملة.
وشيئًا فشيئًا مع زيادة المتبرعين والمرضى توسعت الخدمة لتصل إلى شراكة لم تستمر طويلًا مع أحد المستشفيات الخيرية؛ لحدوث بعض السلبيات من تأخر المرضى على كشوف الانتظار، وعدم الرد عليهم في بعض الأحيان، وهو ما أدى لنقل الشراكة إلى مركز دعم للاستشارات النفسية والأسرية منذ مارس/آذار 2018 حتى اليوم.
يلفت سامي الانتباه إلى أن العلاج النفسي ليس مثل بقية الأمراض الجسدية التي يستطيع المريض بها أن يقدم تحاليل وشهادات تُثبت مرضه، ففي حالة المريض النفسي الوحيد القادر على تحديد أحقيته في العلاج المجاني هو الطبيب، لكن بشكل عام، فالمعيار الموضوع من جانب البرنامج الخيري هو وجود ظروف مادية لدى المريض تجعله غير قادر على تحمل تكلفة الجلسات والأدوية، إلى جانب وفائه ببقية الالتزامات الأساسية في حياته، مثل أن يكون طالبًا جامعيًا لا يعمل، أو رب أسرة يعمل، لكن لديه أطفالًا وراتبه لا يكفي للعلاج.
بالطبع لم يكن برنامج علاج المرضى النفسيين مجانًا بعيدًا عن التأثر بالتغيرات الاقتصادية التي طرأت على المواطن المصري، فقد قلّت المقدرة المادية لدى المتبرعين على تقديم نفس المبلغ الذي كانوا يقدمونه سابقًا، لذلك يؤكد سامي أن المبالغ التي تصل إلى المركز العلاجي في الوقت الحالي قلت بنسبة 30% منذ شهرين، وأصبح لا يكفي لخدمة سوى نسبة قليلة للغاية من المرضى الذين يحتاجون خدمةً مشابهة حسب تقديراته.
نتيجة أخرى لعملية البحث عن مقدمي العلاج النفسي مجانًا كانت ظهور مؤسسة مرسال الخيرية، التي توفر الخدمة من خلال الاتصال بالخط الساخن التابع لها، ولقياس مدى جودة الخدمة دعونا قاسم (اسم مستعار) – 28 سنة- أحد المشاركين في التقرير للاتصال بهم، وبالفعل حُدد له موعد للجلسة بعد ثلاثة أيام فقط من إضافة اسمه على قوائم الانتظار.
وعند ذهابه إلى العيادة الكائنة بأحد الشوارع الهادئة بحي المعادي، يصف الخدمة التي حصل عليها بالراقية، فلم ينتظر سوى عشر دقائق للدخول إلى الطبيبة النفسية، واستمرت الجلسة مدة 45 دقيقة، انتهت بالتأكيد على حضوره لجلسة أخرى في نفس الموعد الأسبوع التالي؛ لاستكمال العلاج ووصف الدواء إذا ما كانت حالته تستدعي ذلك.