الحرمان من الألعاب: طريق طفلك نحو المرض النفسي
الطفل المثالي في نظر أكثرية الآباء والأمهات، أو لنكن أكثر دقة، في خيال هؤلاء الآباء والأمهات، هو طفل يُولد في يده كتاب، ويجلس طوال اليوم بمنتهى الرصانة والهدوء على الأريكة يحتسي كوباً من اللبن، أو عصير البرتقال البيتي الطازج، وإذا لعب، فهذا هو الاستثناء في حياته، وسيلعب فقط ألعاب الذكاء، أو الألعاب التي تخدم التحصيل الدراسي، والأهم مما سبق، أنه مطيع كأنه يُحرَّك بالريموت كنترول، اجلس فيجلس، كُل فيأكل، العبْ فليعبْ، لا تلعبْ فلا يلعب… إلخ.
بالطبع هذا الخيال السابق يكذبه الواقع بنسبة 150% على الأقل، ليس هذا فحسب، بل إن الطب النفسي يخبرنا أن سعي الكثير من الآباء والأمهات ولو بحسن نية لتنفيذ هذا الخيال كلياً أو جزئياً، وحرمان أطفالهم من الانطلاق واللعب بغير عُقَد، وبغير إطلاق وحش جلد الذات في أعماقهم، هو منحدرٌ مفتوح للإيقاع بهم في هوة الاضطرابات النفسية والمرض النفسي عاجلاً أو آجلاً، وهذا ما سنُفصِّلُه في السطور التالية.
أهمية اللعب للنمو النفسي والعاطفي للأطفال
يكاد يجمع خبراء التربية والطب النفسي على أن اللعب وحرية الانطلاق فيه هو الركيزة الأساسية لصحة نفسية سوية للأطفال وصغار البالغين، وأنه يساهم بشكلٍ إيجابي في النمو الذهني والنفسي والعاطفي للأطفال، وكذلك النمو الجسماني.
يساعد اللعب الحر الأطفالَ على التطور عبر التفاعل الإيجابي وحتى السلبي مع البيئة المحيطة بيهم، واكتساب وصقل العديد من المهارات الحركية والعاطفية والنفسية، ويُعزِّز إحساسهم بذواتهم، ويمنحهم المزيد من الثقة في أنفسهم، وهذا الرصيد من الثقة مهم للغاية في عمرهم القادم، وفي تطور شخصياتهم مستقبلاً.
ومن الأساس، فإن لعب الأطفال جزء لا يتجزأ من تركيبة الإنسان، وهو أحد أبرز تجليات الغريزة والفطرة الإنسانية، ويمكن التدليل على هذا بمشاهدات علمية عديدة قد رصدته في صغار الحيوانات في البراري والغابات، ويذكر بعض الباحثين نصاً أن لعب الأطفال من أهم خطوط دفاع مناعتهم النفسية، وأن نقيض اللعب في الأطفال ببساطة هو الاكتئاب.
تضغط الثقافة الجمعية السائدة حول العالم على الوالديْن والمُربيْن للتركيز على التحصيل الدراسي والإنجاز الرياضي والمعرفي المباشر للأطفال، وضرورة السيطرة على كافة مفاصل حياة الطفل ويومه، لتحقيق أكبر قدرٍ من هذا، مما يؤدي إلى إغفال الأهمية الكبرى لوجود أوقاتٍ لازمة للانطلاق الحر للأطفال وممارسة اللعب دون عُقَد أو تقييد أو رقابة صارمة مباشرة، فهذا النوع من اللعب يبني نفسية سوية للطفل، ويُحقِّق له ذاته، ويُنفِّس عن ضغوطاته النفسية، ويُكسِبه مهارات الاتصال والاجتماع والتفاعل البيني، لن يمنحها إياه التحصيل المدرسي والبيئة الأسرية الصارمة.
بل أكدت دراسة علمية حديثة أن ترك الأطفال لممارسة بعض الأنشطة الحرة التي قد تتضمن نوعاً من المخاطرة، مثل تسلق الأشجار أو الإتيان ببعض الحركات الصعبة مثل الشقلبة… إلخ أو اللعب مع بعض الأطفال الغرباء دون رقابة مباشرة يشعر بها الطفل من والديه، كل هذا وأضرابه، يُعزِّز كثيراً من ثقة الطفل في نفسه، ويُقلِّل كثيراً من فرص إصابة باضطرابات القلق والرهاب الاجتماعي، ويجعل الأطفال أحسن تصرفاً في المواقف الطارئة التي قد يجدون أنفسهم في مواجهتها دون وجود الكبار.
مخاطر الحرمان من اللعب على السلامة النفسية للأطفال
الحرمان من الانطلاق الزماني والمكاني في اللعب الحر غير المقيد، يُفوِّت على الأطفال فرصة ذهبية للتعلم التلقائي عبر التفاعل والمحاكاة. فالطفل مثلاً يحب أن يتصور في لعبه أن لديه زوجة وأسرة، انعكاساً لانتظام حياته الأسرية وما يشاهده من تفاعل إيجابي بين والديْه، وهذا اللعب الذي نشأ في مرآة ما يراه حوله، يبدأ في تشكيل مفاهيمه الأساسية عن الأسرة والارتباط. وكذلك يبدأ الطفل في تكسير ألعابه، وضرب عرائسه بعنف، تنفيساً ومحاكاة لما تعرّض له من والديْه أو معلميه من تعنيف وضرب. ترجمة الخبرات الإيجابية والسلبية في اللعب، جزء لا يتجزأ من نمو الطفل الذهني والنفسي، وحرمانه منه، أو على الأقل التضييق عليه فيه، يسبب كبتاً نفسياً بالغ الضرر على حصانته النفسية.
أشارت دراسة أمريكية نُشرت حديثاً، عام 2023، أن معدلات الاكتئاب واضطرابات القلق قد تفاقمت لدى الأطفال وصغار المراهقين بمرور السنين، وكانت ساحة الدراسة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أعلنت مؤسسات الصحة النفسية فيها عام 2021 «حالة طوارئ طبية وطنية» في ما يخص تدهور الصحة النفسية للأطفال والمراهقين. أكدت نتائج تلك الدراسة وغيرها، أن هذا التدهور في الصحة النفسية للأطفال مردُّه بالأساس إلى تضاؤل فرص الانطلاق في اللعب الحر المستقل الذي يسمح للطفل بالاحتكاك الفطري المباشر مع بيئته ومحيطه، دون رقابة صارمة مباشرة وثقيلة من الأهل والمربّين.
ركّز الباحثون على أن حسن نوايا الآباء والأمهات والمربّين في تقييد وتحجيم أوقات ومساحات وأشكال اللعب للأطفال، حرصاً على سلامتهم الجسمانية من الإصابات، وإعطاءً للأولوية للتحصيل الدراسي والمعرفي المباشر، وتعويداً له على الضبط والربط والانضباط، يؤدي في أحيانٍ كثيرة إلى ضرب النمو والاستقرار النفسي للأطفال وصغار المراهقين في مقتل، ويُلقي بهم في هاوية الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب والوساوس القهرية.
بل ذكرت دراسة علمية نُشِرَت عام 2019، أن حرمان الأطفال من اللعب السوي والانطلاق، لاسيّما نتيجة غياب الوالديْن أو أحدهما، يؤثر سلباً على بنية المخ ونموه وحجم بعض المناطق الحيوية فيه، بما يُقلِّل من كفاءة الوظائف العليا للمخ والتحصيل المعرفي، وقد أكدت الدراسة حدوث مثل هذا عبر صور الرنين المغناطيسي على المخ، وباختبارات الذكاء على الأطفال.
وقد أكدت فترة الإغلاق الشديد عام 2020 إبان الانتشار الكثيف لجائحة كوفيد-19، تلك الأهمية للعب الحر التلقائي للأطفال، لاسيّما في المساحات المفتوحة، فقد حرم الإغلاق عشرات الملايين من الأطفال من هذا الحق الفطري، ومن التفاعل مع أصحابهم وأقرانهم، على مدار أشهر طويلة، ورصد الباحثون والأطباء النفسيون آثاراً نفسية سلبية لهذا على الأطفال، مثل ارتفاع معدلات الإصابة باضطرابات القلق، والنشاط الزائد لمراكز التوتر والخطر في المخ، وإضعاف المهارات الاجتماعية والتفاعلية، ومحاولة لفت الأنظار بشكل سلبي عبر تكسير محتويات المنزل مثلاً، للفت أنظار الوالديْن والكبار إلى القلق النفسي الباطني والشعور بالإهمال الذي عانى منه هؤلاء الأطفال.
وبالطبع حدّث ولا حرج عن الكوارث النفسية المهولة لدى الأطفال في الفئات شديدة الهشاشة مثل اللاجئين وضحايا الحروب والأزمات الكبرى، الذي يصبح مجرد الحديث عن الحرمان من لعب الأطفال معهم بمثابة رفاهية لا يسمح بها الحرمان من الأمن والأمان والطعام والتدفئة.
الخلاصة
اللعب والحركة والانطلاق هم حياة الطفل وحيويته، وصمام أمان استقراره النفسي والعاطفي في حاضره ومستقبله. وليس المقصود من جولتنا الحالية أن ندعو الآباء والأمهات إلى «إطلاق الحبل على الغارب» للأطفال بشكلٍ تام، إنما نريد أن نُؤكِّد على ما تؤكد عليه الأبحاث الطبية الموثوقة، ومُشاهدات خبراء التربية والسلوكيات، من أن اللعب والانطلاق هما أساس الطفولة السوية، وفطرة طبيعية لا ينبغي كبتها، أو إحاطتها بالعُقد وتأنيب الضمير وجلد الذات دون وجه حق، وإنما توجيهها بلُطفٍ وبصبرٍ وبذكاء، بغير حصارٍ للطفل ولطفولته، وبدون قمعٍ للاتزان النفسي وللسواء العاطفي له.
وللأسف الشديد، فإن قضية الحرمان من اللعب وقمع الطفولة، لا يمكن مواجهتها على صعيد الأسرة فحسب، إنما هناك دور بالغ للأجواء والمفاعيل السياسية والمجتمعية والاقتصادية، ولا يمكن لأسرة تعاني من الحرمان من الحد الأدنى من الحياة الكريمة، أن توفر لأطفالها الأجواء الصحية التي تسمح لهم باللعب والانطلاق بشكلٍ سوي، ولكن للحديث في هذا مساحات أخرى.