توشكى الخير: كيف بُعث «حلم الجنزوري» من جديد؟
انطلق مشروع توشكى في عهد حسني مبارك؛ بهدف ما اعتبر وقتها «إنشاء وادي النيل الثاني» عبر إعادة توجيه 10% من مخصصات مصر من مياه النيل في مخطط ري ضخم، لزيادة مساحة الأرض الصالحة للسكن من 5% إلى 25%، وتطوير وتوسيع الإنتاج الزراعي، وخلق فرص عمل جديدة ومراكز سكانية بعيدة عن الحدود الضيقة لوادي النيل.
أطلق عليه حينها «أمل مصر للقرن الحادي والعشرين». لكن تركيب أنظمة الري الحديثة على هذا النطاق كان مكلفًا ويستغرق وقتًا. وحتمًا، كان لقيود التمويل تأثير على مر السنين، ليواجه المشروع مصيره البائس، على الرغم من أنه في نهاية يونيو 2005، وصفت السلطات المصرية 90% من البنية التحتية للمشروع على أنها مكتملة، قبل أن يتوقف حلم توشكى تمامًا بنهاية حقبة مبارك، ليعود، مؤخرًا، في عهد الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي باسم «توشكى الخير».
كل شيء بدأ من معجزة «محطة مبارك»
في مارس 2005، صنفت الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين (ASCE) محطة مبارك للضخ كواحدة من أهم خمسة إنجازات في مجال الهندسة المدنية لهذا العام. استغرق العمل في المحطة خمس سنوات، وتكلف 436 مليون دولار، لتملك مصر حينها إحدى أكبر محطات الضخ من نوعها في العالم.
كانت محطة مبارك محور مشروع توشكى، الذي يستهدف في مرحلته الأولى استصلاح أكثر من 600 ألف فدان، يفترض أن تتوسع لاحقًا إلى مليون فدان، في الصحراء الغربية، 225كم جنوب محافظة أسوان في صعيد مصر.
واجه العمل في المحطة تحديات كبيرة، تراوحت بين التعامل مع درجات الحرارة القصوى في المنطقة، إلى دمج وسائل الحماية الفعالة من الزلازل، وصولًا إلى شبه استحالة المهمة المطلوبة من المحطة نفسها: العمل على نقل المياه من بحيرة ناصر «أرض منخفضة من خلال شبكة مواسير بمواصفات خاصة لتتحمل الضغط، وبقُدرة 6 آلاف متر مياه فى الساعة؛ لإيصال مياه النيل إلى توشكى «أرض مرتفعة».
لتحقيق الغرض، بنيت محطة مبارك بجوار بحيرة ناصر، بطاقة استيعابية 1.2 مليون متر مكعب/ ساعة، مع تصميم مبتكر وضع بيت المضخة كجزيرة في بحيرة، محاطة بالكامل بالمياه، مع 24 مضخة عمودية مرتبة في خطين متوازيين على الجانبين، بخلاف تفاصيل فنية معقدة لضمان رفع المياه بتكلفة أقل وكفاءة أعلى، وبنية مقاومة لأي حركة زلزالية، وقدرة على العمل في درجة حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية.
وبسبب هذه التفاصيل المعقدة، استحقت محطة مبارك وصف «ووتر تكنولوجي» بأنها «المشروع الذي وسع حدود الهندسة المدنية». وإضافة إلى محطة الضخ نفسها، تضمن مشروع توشكى بناء 50كم من قناة النقل الرئيسية، التي حملت اسم رئيس الإمارات حينها، زايد بن سلطان آل نهيان، تقديرًا لتبرع بقيمة 100 مليون دولار من صندوق أبوظبي للتنمية.
بنيت القناة بعرض 200 متر «عرض قناة السويس تقريبًا» وأربعة فروع جانبية إضافية بطول 22كم، و800 متر من خط أنابيب التغذية، لتمر بمنخفض توشكى، ثم واحة باريس، لتمر بواحات الخارجة والداخلة والفرافرة، بطول 850كم في المرحلة الأولى، لتصل لاحقًا إلى الواحات البحرية وصولًا إلى منخفض القطارة في النهاية.
الانطلاق مع كثير من الجدل
أطلق الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك المشروع باسم مشروع تنمية جنوب الوادي «توشكى» لأول مرة في 9 يناير 1997، وكان يفترض أن يكتمل في 2017، بتكلفة إجمالية 70 مليار دولار، بهدف مضاعفة الأراضي الصالحة للزراعة في المنطقة، وخلق 2.8 مليون فرصة عمل جديدة، وجذب أكثر من 16 مليون شخص إلى المدن الجديدة المخطط لها ضمن المشروع.
وكما هو متوقع مع أي تعهد بهذا الحجم، نال مشروع توشكى نصيبه من الجدل، على الصعيدين المحلي والدولي. إذ أعرب كثير من الخبراء عن شكوكهم حول الحكمة من تطوير الإنتاج الزراعي الذي يحتاج كثيرًا من المياه، بينما الدول العشر المتشاركة في حوض النيل متورطة في نزاعات مستمرة حول موارد المياه في منطقة تصنف باعتبارها الأكثر ندرة في المياه عالميًا، وكذلك استصلاح الأراضي في الجزء الأكثر سخونة من البلاد، وحتى الفوائد الاقتصادية طويلة الأجل المحتملة التي ستعود على مصر. كما تعرضت الأهداف الاستراتيجية والاجتماعية للنقد في بعض الأوساط.
كذلك نالت ترعة الشيخ زايد نصيبها من الانتقادات؛ باعتبار أن الأنسب- وفق خبراء- استخدام خط أنابيب بدلًا من الترعة المكشوفة، والتي ترك تداعيات تتعلق بكمية الفقد من المياه بسبب التبخر، في منطقة تشهد صيفًا شديد الحرارة.
لكن مصر جادلت حينها بأن هطول الأمطار سنويًا بمعدل يبلغ 1 مليار متر مكعب، بجانب 7.5 مليار متر مكعب من المياه الجوفية و5 مليارات متر مكعب من مياه الصرف الزراعي المعاد تدويرها، كافية لإنجاح المشروع من دون إخلال بحصة البلاد البالغة 55 مليار متر مكعب من مياه النيل، وأن مد خطوط أنابيب لن يكفي لنقل كميات المياه المطلوبة.
وفاة مفاجئة برحيل مبارك
الباحثة إيما براسي، التي خصصت أطروحتها للدكتوراه عن المشروع، قالت إن مبارك رأى توشكى باعتباره عقدًا اجتماعيًا مع الشباب المصري. أطلق عليه اسم «المسيرة نحو الصحراء» واستهدف به الشباب بشكل أساسي، خصوصًا العمال العائدين من السعودية وليبيا والعراق.
لم يستمر الاهتمام بالمشروع طويلًا، خصوصًا بعد خروج رئيس الوزراء آنذاك كمال الجنزوري- المؤيد الرئيسي للمشروع- من منصبه في عام 1999، ليعلق المشروع عمليًا، وإن استمر على الورق.
في النهاية، لم يسر الالتزام السياسي والاقتصادي بنفس وتيرة الخطط. تأخر إكمال محطة ضخ مبارك نفسها حتى 2005، لتؤدي التأخيرات الكبيرة في تنفيذ الخطة إلى تخلي الحكومة عما يسمى «المرحلة الثانية» وتأجيل استكمال المرحلة الأولى لمدة عشر سنوات، وتحريك الموعد النهائي لإكمال المشروع إلى عام 2022، مع تقليص المساحة النهائية المطلوب استصلاحها.
وبحلول 2006، حين كان يفترض أن يكون المشروع قد وفر لمصر 520,000 فدان إضافية، كان التنفيذ على الأرض لا يتجاوز مساحة 20 ألف فدان فقط من الأراضي، وبينما كان يفترض أن تكون عشرات الآلاف من الوظائف قد توفرت، لم يوفر المشروع إلا أقل من 10,000 وظيفة.
حتى حملات التسويق القوية توقفت، وبدأ المستثمرون يفقدون اهتمامهم بالخطة، باستثناء أمير سعودي شهير سنتطرق إليه لاحقًا.
وبوصف الإذاعة الوطنية الأمريكية، تسبب «سوء الإدارة والفساد» والإطاحة بمبارك في نهاية المطاف، في ترك مشروع توشكى ومشاريع أخرى في حالة يرثى لها.
تجدد الاهتمام بالمشروع في 2012، مع تزايد الصعوبات الاقتصادية في مصر، وخصوصًا مع عودة كمال الجنزوري نفسه لرئاسة الحكومة، ليعيد دفع المشروع بنفس القوة القديمة، ويشجع الوزارات المختلفة على إحياء الخطط التي توقفت.
ومع جدل حول افتقار الوسائل المطلوبة لنقل كميات كبيرة من القمح والمنتجات الأخرى من توشكى إلى بقية البلاد، وتقارير حول معدل ملوحة الأرض، كانت العقبة الأكبر أمام محاولة الجنزوري لإحياء المشروع هي اعتبار توشكى «إرث مبارك».
محمد عبد الفتاح، الأمين العام لحزب الحرية والعدالة- حينها- في أسوان، قال إن جماعة الإخوان تعارض بشدة مشروع توشكى وغيره من المشاريع التي تربطها بتجاوزات الرئيس السابق حسني مبارك. وقال عبد الفتاح إن الجماعة لديها خطة نهضوية خاصة بها تركز على السياحة والمشاريع الزراعية في مواقع أخرى، بخلاف توشكى، التي قال، إن «دراسات مستقلة وصلت الجماعة أظهرت أن مشروع توشكى كان محكومًا عليه بالفشل من البداية، بعدما أهدرت الكثير من المال من دون خلق وظائف كافية.
إعادة الإطلاق
رغم الانتقادات والمخاوف، بقي احتمال تحقيق حلم مبارك القديم قائمًا، بعدما بدأت بعض المزارع التي استمرت في العمل تزدهر، عبر 3 شركات واصلت جهود الاستصلاح، إحداها شركة المملكة للتنمية الزراعية، المملوكة للأمير السعودي الوليد بن طلال، أحد أغنى رجال العالم.
الآن، يبدو أن المشهد آخذ في التغيير سريعًا.
في يوليو 2014، أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، تعليمات للمجموعة الوزارية المعنية ببحث استصلاح 4 ملايين فدان، بالذهاب إلى توشكى وتقييم الوضع؛ للوقوف على أسباب توقف المشروع، بعدما تكلف المليارات كبنية أساسية، من دون تحقيق أهدافه.
وفي ديسمبر 2021، افتتح السيسي المشروع باسم جديد «توشكى الخير».
ووفق هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية، تظهر صور الأقمار الصناعية التقدم المحرز في «توشكى الخير»، والبحيرات التي تشكلت في المنطقة عبر مياه النيل المنقولة إلى هناك ليعتمد عليها مشروع الري. لكن الهيئة بدت حذرة حين قال، إن مشروع توشكي لا يزال غير مكتملٍ، واصفة مستقبل الخطة الطموحة بـ«موضع تساؤل».
كيف حدث التحول إذن؟
رئيس الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية في مصر، محمد الشحات، قال للتلفزيون المصري، إن أهم مشكلة عطلت مشروع توشكى الخير في بداياته كان محدودية إمكانية نقل المياه من نهر النيل إلى المشروع؛ إذ منع جدار صخري توصيل المياه إلى أحد فروع المشروع الأربعة، والتي تغطي 880 ألف فدان قبل أن تنجح الهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري في تدمير الجدار بالمفرقعات.
أنور أمين، رئيس مجلس إدارة إحدى شركات المشروعات الهندسية التي عملت في المشروع، قال إن «التدمير» المقصود تضمن إزالة 9 كيلومترات من الجرانيت كانت عائقًا أمام نجاح مشروع توشكى منذ تسعينيات القرن الماضي، لتصل إجمالي أعمال الحفر بهذه المنطقة 15 مليون متر مكعب، في عملية استمرت 13 شهرًا ، واستهلكت 3 ملايين طن مفرقعات.
وبحسب شركة ABB، المشاركة في المشروع، يهدف توشكى الخير إلى استصلاح أكثر من 2200 كيلومتر مربع من الصحراء بحلول عام 2024 في جنوب الوادي؛ بما سيعزز الإنتاج الزراعي، ويخلق صناعة أغذية وأنشطة حضرية مرتبطة، وينشئ مجتمعات جديدة تتكامل مع بعضها البعض بالتوازي مع وادي النيل، والأهم أنها تذهب تحديدًا إلى هدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.
إكرامًا للجنزوري؟
لا نعرف الكثير بالتأكيد عن علاقة السيسي برئيس وزراء مصر الأسبق كمال الجنزوري. لكن الرئيس المصري أشاد برؤية مستشاره السابق حول مشروع توشكى، بدرجة استدعت إطلاق اسمه على محور توشكى، باعتباره «شغله ومكانه الذي اختاره»، و«ردًا لغيبته».
وفي مذكراته، وصف الجنزوري ، منطقة توشكى بـ«إحدى أفضل المناطق التى توفر الأراضى البديلة القابلة للتوسع فى هذا الشأن، والتي تمكن من استيعاب الهجرة السكانية المحتملة إضافة إلى أنه يعتمد عليها دائمًا في توظيف عمالة جديدة وتلافي أسباب البطالة».