معذبو قصص الحب من طرف واحد في السينما المصرية
“مثل الأفلام” هي جملة شائعة تستخدم بغرض السخرية من مشاعر حب ساذجة يطمح أصحابها أن تكلل علاقتهم بالسعادة والزواج “مثل الأفلام”. على أساس أن الأفلام، وبالأخص العربية القديمة، تُصدر دائمًا أن كل العلاقات تنتهي نهاية سعيدة، هناك دائمًا “قبلة سينما” شهيرة في نهاية الفيلم بين البطل والبطلة بعد حرب طويلة مع الأحداث الدرامية المؤسفة. ولكن ماذا إن قدمت لنا السينما أسوأ مخاوف الحب من طرف واحد في نموذج متكرر بشكل أو بآخر؟
زرازير السينما المصرية: أوجه متعددة لعملة واحدة.
الملك، عبد الملك زرزور، هو أطروحة وناتج عمل سنين للراحل محمود عبد العزيز، الجاذبية المقنعة والسحر الذي يتمتع بهما عبد العزيز جعله المرشح الأول بلا منافس لدور عبد الملك زرزور في فيلم إبراهيم الأبيض من إخراج مروان حامد وتأليف عباس أبو الحسن. الملك، الجبار، الباطش عبد الملك زرزور، حاكم حي “الأباجية” بأكمله، الذي لا يتردد ثانية واحدة في عقاب فلذة كبده إذا قرر التلاعب خلف ظهره.
ومع كل هذه القوة تأتي نقطة ضعف وحيدة وهي حورية (هند صبري)، حورية البحر هي الاسم الثاني للمخلوقات الأسطورية”جنيات البحر”، وعلى عكس ما صدرته لنا أفلام الرسوم المتحركة أنهن كائنات جميلة مسالمة، فـ وفقًا لبعض الأساطير تقوم جنيات البحر باستدراج الرجال لأعماق المحيط مستخدمين في ذلك جمالهن الفتان ومن ثم يقمن بقتلهم. ومثل الأساطير مثل حورية التي استغلت أن شغف المعلم بحبها لتنتقم من إبراهيم قاتل والدها وحبيبها في نفس الوقت. ويمكن فهم ملخص حب عبد الملك لـ حورية من إضاءة الكادرين التاليين فقط.
وفي حكاية أخرى، تدور حول الصداقة، نجد مرزوق (عادل إمام) الذي لا يترك حقه مهما يكن خصمه، وفي نفس الوقت هو الصديق المخلص لصديقه، حتى لو كانت علاقتهم لم تتعدى الإثنى عشرة ساعة. ففي اللقاء الأول في فيلم “سلام يا صاحبي” من إخراج نادر جلال ومن تأليف صلاح فؤاد، بين مرزوق وبطة (سوسن بدر)، وفي الخلفية يشدو العندليب “قولوا له بحبه ومتوّهني حبه، في بحوره الغريقة أبو عيون جريئة” يقع فورًا في حبها.
يذهب إليها مرة أخرى بدافع الشوق، لـ تطربنا السيدة أم كلثوم في الخلفية بـ “ياما، ياما، ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة أو بنظرة حب أو كلمة ملامة. بس أنا نسيت الابتسام.. زى ما نسيت الآلام.. والزمن بينسي حزن وفرح ياما”. وأخيرًا وبعد الصراع مع القوى الحاكمة لعالم تجارة البطيخ، وبعد تبدل أحوال الجميع، وفي نفس اليوم الذي يقرر به مرزوق الاعتراف لبطة بحبه وطلب الزواج، يسبقه إليها كما سبقه من قبل إلى قلبها صاحبه بركات. فيدرك مرزوق في مشهد في خلفيته يتألم عبد الوهاب ويقول “ليه ليه ليه ليه، ياعين ليلي طال، ليه ليه ليه ليه، يا عيني دمعي سال” أن صديق عمره يطلب منه أن يخطب له الفتاة الوحيدة التي أحبها من بحر فتيات قدمن له كل شيء. وإن كان مشهد الأسطبل يلخص علاقة حورية وعبد الملك، فإن “الأغاني” السابقة تلخص علاقة بطة ومرزوق التي لم يقدر لها أن تبدأ من الأساس.
وعودة مرة أخرى للصورة، فنجد في أفيش فيلم باب الحديد من إخراج يوسف شاهين وتأليف عبد الحي أديب، قناوي حبيسًا خلف القضبان. تبدأ رمزية شاهين في الظهور مبكرًا، من الاسم أولاً الذي يوحي بوجود باب ما غليظ مصنوع من الحديد، وثانيًا من القضبان الموجود في الأفيش، وثالثًا من اختلاف شكل قناوي الذي يظهر أول مرة في انعكاس ما كأنه بهلوان ساذج، ومع رؤيته لهنومة أول مرة يتحول لـ عاشق جذاب تظهر على وجهه كل أمارات العذاب في الحب. تلك الرموز توضح كل شيء، فـ هذا قناوي هو حبيس كل شيء، حبيس جسده العاجز ورجله العرجاء التي تمنعه من أن يكون إنسانًا كاملاً يحظى بالاحترام، حبيس رغبته الجنسية المتأججة التي تدفعه دفعًا نحو محاولة لمس/ رؤية أي جزء من جسد امرأة، حبيس رغبته الشديدة للحصول على الحب بأي شكل، وأخيرًا حبيس حبه لـ هنومة. حب من طرف واحد، فـ قلبها مشغول بحب أبو سريع، الرجل مكتمل الرجولة، صاحب المبادئ والرؤية، الذي تقدم لخطبتها، ماذا تريد أي امرأة في مكان هنومة غير هذه المواصفات؟ فليذهب قناوي وحبه وسلامته العقلية إلى الجحيم إذن.
في الحب، أنت تحصل بالضبط على ما تعتقد أنك تستحقه
هل سمعت من قبل عن مقولة “حب نفسك قبل أن تحب الآخرين”؟ إن لم تكن على دراية بها ففي الأغلب أنت تتورط في علاقات سامة غير صحية. فإن جوهر الحب هو أن يحب الفرد نفسه أولًا، ومن ثم يجد نفسه يستحق أن يبادله الآخرون الحب، فماذا يحدث عندما يحدث خلل في أي من هذه الخطوات؟ يحدث “الحب من طرف واحد”. وفقًا لمدرسة التحليل النفسي وعلماء علم النفس الأسري، أن الحب هو حالة تفاعل بين المكونات والرغبات الشعورية واللا شعورية عند الفرد “س” المكونات والرغبات الشعورية واللا شعورية عند الفرد “ص”، أي أن الحب عملية تكامل على كل المستويات.
تبرر وجهة النظر تلك الكثير من العلاقات العاطفية والزوجية الفاشلة، فنجد فتاة مثلًا تطلب مواصفات معينة في شريك حياتها كأن يكون شهمًا وحنونًا، ومع ذلك تتزوج رجلاً نذلاً يعنفها ويقسو عليها، الحقيقة أنها لم تختر بناء على الرغبات الشعورية المعلنة، بل عن طريق تلك الرغبات المكبوتة التي لا تفصح عنها، اختارت رجلاً يناسب الصورة الأبوية الأولى الموجودة في اللا شعور.
قياسًا عليه، فإن النماذج الثلاثة السابقة ورطت نفسها في مشاعر حب هم يعلمون جيدًا أنهم لن يحظوا بأي شيء منها، فالمعلم يعلم جيدًا أن حوريته لم ولن تحبه، وأنها فقط معه للانتقام من حبيب قديم. كذلك مرزوق، فمن نظرات بطة وبركات منذ البداية يعلم أن كلاً منهما يميل للآخر، كما يعلم جيدًا أنه لا يستحق بطة بكل ما تحمله من براءة وطهر، لكنه ظل يعاند للنهاية فهو يرى أنه لا يرفض و”مفيش ست مبتحبنيش”.
أما عن قناوي، علق آماله بأكثر الأحبال تهالكًا في المحطة، عشق قناوي العاجز المعدم مجهول النسب سيدة المحطة، الفتاة الأكثر جمالًا وإثارة بين الفتيات، سليلة العائلة الموجودة في فقوس وليست فتاة شارع مثله. عشقها وهو يعلم أنها لم ولن تكن له أبدًا، عشقها حتى ولو سيخسر في سبيل ذلك عقله وحريته. أي أن النماذج الثلاثة اختاروا -بشكل لا شعوري- أن يقعوا في حب أشخاص بعيدي المنال، وفي الحقيقة يعد ذلك نوعًا من أنواع عقاب الذات.
الموت مصير الحب من طرف واحد
الموت هو مصير كل علاقات الحب من طرف واحد، فلا تصدق “كلام الأفلام” أن شخصًا ما بالتأكيد في وقت ما سيبادلني الحب بأي شكل. يظهر القتل في قصصنا السابقة بأشكال مختلفة، قتل المعلم حوريته بعد أن وضع شرطه الأول والأخير في علاقتهما “أهون عليكِ تهوني عليا”، قتلها ليدرك أنه بنفسه ضغط بكل قوته على نقطة ضعفه الوحيدة حتى يتخلص من سيطرتها عليه. كذلك قتل قناوي نفسه بسبب حبه لهنومة، فليس قتلاً بالمعنى الحرفي، لكن وجوده في مستشفى الأمراض العقلية حتى نهاية عمره هو قتل بشكل ما. وعن مرزوق، فلم يُقتل أو يَقتل، لكنه فقد صديق عمره، صديقه الذي كان يفضل أن يموت على أن يخسره. ففي لعبة الحب من طرف واحد، أو مثلث الحب كما يطلق عليها لا يفوز أحد.