معذبو أدب الرسائل: فرانز كافكا وغسان كنفاني
يُعتبَر أدب الرسائل من أكثر أنواع الأدب رقة وواقعية، ويعرف على أنه «أحد أنواع الأدب الذي ازدهر في القرن العشرين، وهو نص نثري يرسل من طرف لآخر، ويُعتبَر قطعة أدبية لما يحتويه من بلاغة، وسهولة، وتدفق في المشاعر».
ومع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي اختفت الرسائل الشاعرية المكتوبة بخط اليد. لذلك السطور التالية قراءة بسيطة في «كولاج» من الرسائل الغرامية لاثنين من أشهر كتَّاب الرسائل الغرامية في مصر والوطن العربي، خصوصًا أن طرفًا منهما مناضل عربي شهير.
كنفاني: ضحية المسافات ومعذَّب السمان
اختتم كنفاني بهذه الجملة رسالة طويلة بتاريخ 20 يناير 1967 يشرح فيها لحبيبته البعيدة غادة السمان كيف ذوَّبه الانتظار سبعة عشر يومًا كاملًا، يدخل مكتبه في كل صباح يُهرَع إلى كومة الرسائل على مكتبه لعل يجد منها خطابًا، وفي اليوم الذي يفقد فيه الأمل ولا يتفقد رسائله يجد منها رسالة فتدمع عيناه! وللأسف كان مصير علاقة السمان وكنفاني عدم الاكتمال، لتكون واحدة من أكثر علاقات الحب تعقيدًا في الأدب العربي، كما انتهت بشكل حزين بسبب الاغتيال الغاشم الذي تعرَّض له كنفاني على يد قوات الاحتلال في عام 1972 قبل أن تعود غادة من بعثة تعليمية باعدت بينها وبين غسان، الذي تركته وحيدًا حزينًا هائمًا في حبها حتى انتقل للسماء.
الرسالة السابقة
وبغض النظر عن المسافة – التي اختارتها غادة عمدًا – عانى غسان من الجفاء والصد المستمر من غادة، يرجع ذلك لعقدة عند الأخيرة جعلتها تخشى الاقتراب من رجل، الوقوع في حبه، أن يكون عليها أن تتماهى معه وتفقد شخصيتها، ارتعبت غادة من فكرة اقتران اسمها باسم شخص ما، أن تكون جزءًا من كلٍّ. فما كان من غادة إلا تعمد إهانة غسان، صده، توجيه الكلمات القاسية له أمام الجميع، تجاهله في حين الاهتمام بالآخرين، سمات علاقة حب سامة بامتياز!
كنت تختارين مني أسوأ ما فيَّ وتمزجينه مع ما اخترت أنت من أسوأ تجاربك، وصف رائع من غسان لما كانت تعانيه غادة من أفكار منعت بينها وبين الوقوع في حب غسان، واختارت أن تمنع حبه بكل الطرق، مع ذلك وفي كتاب يضم أكثر من 20 رسالة يفيض حبه بشكل لا يوصف.
كافكا: الرخو المريض الذي أحب ما لم يكن له
السمة الأشهر المعروفة عن الأديب النمساوي الشهير كافكا هي السوداوية، فكان حزينًا، متشتتًا، يملؤه البؤس، كله أمور انعكست على أعماله بشكل واضح. وحتى لو لم تكن مطلعًا على أدبه، يمكنك قراءة رسائله لحبيبته ميلينا التي حاول فيها وصف أدق تفاصيل يومه، الحديث عن أفكاره الغريبة والحزينة التي لم يكن يبوح بها لأحد غيرها، لتصل لنفس النتيجة عن شخصية كافكا. فقد كانت ميلينا رفيقة كافكا الوحيدة داخل شرنقته.
من الجدير بالذكر أنه في نفس التوقيت الذي كانا يتبادلان فيه الرسائل الغرامية، كان كلٌّ منهما مرتبطًا بآخر. فكانت ميلينا زوجة على وشك انهيار زواجها، كما كان كافكا -الذي يعاني من فوبيا الزواج- مرتبطًا بخطبة لم تتم بفتاة يهودية؛ تدعى «فليسيه باور» التي وصفها كافكا بأنها فتاة صلبة تحملت طرقه المستمر لها. لذلك لم يكن «الحب» هو ما يريده كافكا من ميلينا، فقد كان سعيدًا بفكرة عذابه في حبها المستمر ليس إلا.
كنفاني مرة أخرى
من أفضل رسائل غسان لغادة على الإطلاق هي رسالته الأخيرة من الرسائل المنشورة التي استطاعت غادة إنقاذها من الحريق الذي نشب في منزلها، تلك الرسالة لم تكن هي المخاطَبة فيها من الأساس، حيث فوجئت غادة في صباح 28 ديسمبر عام 1966 بغسان واقفًا أمام بابها منهكًا وغاضبًا للغاية بسبب تجاهلها له في الليلة السابقة، سلمها رسالة قائلًا: “إنها لك، كتبتها لك، ولكنني خاطبت أختي فايزة فيها لغضبي منك”. تلك الرسالة هي أطول رسائل غسان لغادة، تمتد تقريبًا لإحدى عشرة صفحة، وعن الاقتباس السابق فهو آخر كلمات كنفاني في الرسالة، وآخر كلماته في رسائله لغادة بشكل عام.
يظهر في هذه الرسالة من غسان ما لم يظهر من قبل في أيٍّ من رسائله، حيث استفاض للغاية في شرح حياته الشخصية قبل الوقوع في غادة بهذا الشكل، كيف تبدلت شخصيته وأصبح «أنعم» وأضعف بسببها، كيف تعامله غادة وكم الإهانة التي يتلقاها منها في كل مناسبة، وكم يتمنى التخلص من هذا القيد الذي يدمي كرامته. ومع ذلك فهو لم يكن يطلب النصيحة، فعلى حسب كلامه فهو يعرف بالضبط ما ستئول إليه الأمور في وقت ما.
ولكن قوات الاحتلال التي اغتالت كنفاني في صباح 8 يوليو 1972 كان لها رأي آخر لتضع لقصة حبهما نهاية محتمة. بعدها عزمت غادة على نشر رسائلهما، وحاولت جمع رسائلها له، ولكن بلا فائدة، فقررت نشر رسائله لها تخليدًا لذكراه، كما ذكرت مرارًا في مقدمة الكتاب «نعم.. كان هناك رجل اسمه غسان كنفاني».
اقرأ أيضًا: رسائل إلى ميلينا: كيف ظل كافكا سوداويا حتى في الحب