فيلم «Top Gun: Maverick»: فانتازيا الانتصار الحتمي
طائرات حربية سريعة تحلق فوق السحب في الساعة الذهبية، يصطبغ حولها بياض السحاب وزرقة السماء بحمرة الشفق، شباب في أوج قوتهم الجسدية والعقلية يتمازحون، تربطهم صداقات قوية، يلعبون الرياضة على شاطئ البحر بينما تلوِّن الشمس أجسادهم الفتية، أنغام أغنيات فترة الثمانينيات الهادئة، التي تميزها الجيتارات الإلكترونية تصدح بينما تحلق الطائرات، أو عندما يقع أحدهم في الحب.
تلك كانت أجواء فيلم «توب جَانْ – Top Gun» الأمريكي الشهير من إخراج «توني سكوت» الصادر عام 1986، الفيلم الذي جعل من «توم كروز» النجم السينمائي الأشهر في جيله، والفيلم الذي أضفى أجواءً رومانسية جذابة على سلاح الطيران الأمريكي، مما أدى إلى ازدياد عدد المتطوعين في السلاح بعد عرضه، أراد الشباب صغير السن اختبار تلك الحياة، تلك الفانتازيا، التي تدمج بين المهارة القتالية والقوة الجسدية وإمكانية الصداقة العميقة والرفقة الرجولية.
بعد ستة وثلاثين عامًا، في عصر النزوح للنوستالجيا السينمائية واجتذاب الجمهور بما يعرفه مسبقًا، صدر جزء جديد من توب جان بعنوان، توب جان: مافريك، مافريك هو اسم بطله، الطيار الكاسر للقواعد صاحب المهارات غير المسبوقة، الأمهر في جيله، الأسطورة، يبدأ الفيلم بعد حوالي ثلاثين عامًا من أحداث الفيلم الأول، يبدو على وجه بطله توم كروز مرور الزمن حتى مع حرصه طوال السنوات على الظهور في أفضل صورة جسديًّا.
تلتقط القصة بقايا الفيلم الأصلي، صدمات الماضي وخسارة الأصدقاء، تستحضر النبضات التي أحبها الجمهور في الماضي خاصة الأمريكي منه، الأغنيات والأجواء نفسها، مشاهد الغروب والشروق ولعب الكرة على الشاطئ، وبالطبع النزعة الوطنية الأمريكية والبروباجندا غير المبطنة لأسلحة الجيش، لا يتسم الجزء الجديد من توب جان مثل الأجزاء المعاصرة بالسخرية من ماضيه أو محاولات تحليله، بل ينغمس في كل ما جعله محبوبًا وجماهيريًّا، الأدرينالين المصاحب لمشاهد مطاردات الطائرات، العلاقات الإنسانية خاصة الرجولية منها، لكنه يملك عنصرًا جديدًا على الفيلم الأصلي، وهو التقدم في العمر.
التمرد محمود العواقب
يبدأ توب جان مافريك بمفاريك (توم كروز) نفسه بعد سنوات يتمرد على القانون مرة أخرى ويحلق بطائرة ويصل بها لأقصى إمكانياتها فقط لأنه يستطيع ذلك، يضعنا الفيلم في وجهة نظر مافريك بعد أعوام من رؤيتنا له في شبابه وأوج تمرده، لم يفقد روحه المغامرة، ولم يتخطَّ صدمة فقدان صديقه المقرب، تبدو حياته ثابتة فهو لم يتزوج ولم ينجب الأطفال ولم يترقَّ من رتبة كابتن حتى مع اعتراف الجميع بأنه أسطورة في الطيران، لكن على الرغم من إيمانه بأنه لم يتغير يصدمه الواقع حينما يُستدعى مجددًا لسلاح توب جان، ليس كطيار ولكن كمعلم لجيل من الطيارين الشباب، الذين يوازي بهم الفيلم مافريك ودفعته في الماضي، فهم مجموعة ذات سمات نمطية، المغامر والمتعجرف والخجول، وبينهم روستر (مايلز تيلر) ابن جوس (أنتوني إدواردز) صديق مافريك المقرب الذي يعيش بذنب التسبب في مقتله.
تبنى قصة الفيلم في أجواء ليست بعيدة عن أصله، تتلخص الحبكة الدرامية الأساسية في محاولات مافريك التواصل مع روستر ابن جوس، ومحاولته التعافي من صدمته بإرساء نفسه كنموذج أبوي لروستر، بينما يرفضه الابن كونه سبب يتمه، ولأسباب أخرى يكشفها الفيلم، وبموازاة الدراما توجد حبكة الفيلم كفيلم حركة مثير، بعد مشاورات ورفض من مافريك في القيام بدور المعلم وليس الفاعل فإنه يوافق في النهاية، وتتمثل مهمته في تدريب الطلبة لتنفيذ عملية حقيقية خطرة تستدعي سرعة ودهاءً شديدين، لا يقدر عليهما بالطبع غير أسطورة مثل مافريك، يضع نفسه في ميدان الحركة ويمثل العدو أمام طياريه الشباب، يتفوق عليهم مرات ومرات، ويتحداهم لإخراج أفضل ما فيهم، يشجعهم على التمرد على القواعد، وإرساء قواعد جديدة.
في عالم توب جان يمثل التمرد وعواقبه الثيمة الرئيسية، يمكن أن يؤدي بسهولة لحادث مدمر مثل الوفاة أو فقدان الزملاء، ويمكن أن يؤدي لنجاحات غير مسبوقة، تمرد مافريك غالبًا ما يأتي بثمار إيجابية تقابلها خسائر كبرى، لكنه دائمًا محمود العواقب من قبل القيادات، التي تقضي وقتها في التهديد بالفصل أو العقوبات ثم تنصاع في النهاية لعبقرية ذلك الطيار الأسطوري الذي بنى سمعته كلها على التصرف دون تفكير، يمثل التمرد على قواعد الجيش أحد النقاط التي تجعل من توب جان فانتازيا عسكرية رومانسية، ففي العالم الحقيقي يستحيل أن تمر تصرفات مافريك، خاصة بموقعه في تراتبية الجيش الصارمة دون عقاب، لأن الجيوش لا تتصرف بتلك المرونة، وذلك التقبل لما هو جديد وشغوف، يستمر توب جان مافريك على ذلك النهج الذي يجعل المشاهد ينتظر انتصار البطل الذي لا تحكمه قيود، البطل الأمريكي الذي لا يقهر، مهما كان ذلك الافتراض مبتذلًا.
العودة لبساطة الانتصار
حقق توب جان مافريك عائدات ضخمة عالميًّا، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يملك التأثير نفسه في مصر، لأنه معتمد على النوستالجيا الأمريكية بشكل خاص، لكن ذلك النجاح العابر للمتوقع يمكن تفهمه في ظل المناخ السينمائي الحالي، استدعى الفيلم أعمارًا مختلفة من الجماهير، وهو ما قل في الأعوام الأخيرة في الأفلام التجارية الضخمة الموجهة لفئة سنية محددة، استقبل توب جان مشاهدين يشتاقون لأجواء الفيلم القديم ومشاهدين يختبرونها للمرة الأولى، والجميع يخرج من الفيلم راضيًا عن التجربة، لأنها تجربة بسيطة، لا يصعب تفكيكها أو توقع عناصر نجاحها، بطل محبوب، انتصار محتوم ونزعة رومانسية دون سخرية أو تذاكي.
صنع المخرج جوزيف كوزينسكي وفريق المؤثرات وتصميم الحركة في توب جان مافريك مشاهد جوية مثيرة حابسة للأنفاس، تملك جماليات بصرية، وتعمل كمشاهد حركة يندر رؤيتها في الأفلام الكبيرة مؤخرًا، باستخدام محدود للمؤثرات الرقمية وتركيز على المونتاج وتصوير المشاهد الحية، تمثل تلك المشاهد جزءًا كبيرًا من متعة مشاهدة الفيلم، لكنها أيضًا تعمل في اتجاه الانتصار المحتوم، تشعر طول مدة المشاهد أنه مهما ساءت الأمور فإن الانتصار قادم لا محالة، سوف يجد مافريك حلًّا، سوف تتقارب حتمًا الفجوة بين الأجيال ويهب أحد الطلبة المتأثرين بأسطورة مافريك للإنقاذ، سوف تنجح المهمة تحت أي ظرف، فهو في النهاية فيلم يعلي من القيم العسكرية الأمريكية ومدى دقتها وجديتها، لذلك على الرغم من التوتر والأدرينالين المتصاعد فإن هنالك شعورًا بالاطمئنان بأن الفيلم لن يخذلنا، لن يلقي فجأة بخدعة حداثية تصور زيف البطل الأمريكي أو المنظومة الأمريكية، أو يجعل التقدم في العمر يهزم مافريك، الذي يملك في قلبه شبابًا يوازي طلبته الفتيان، وهو ما يمكن وصف توم كروز نفسه به كذلك.
موت النجم السينمائي
في مقالِه عن «توب جان مافريك» يحلل الناقد «ديفيد الريتش» من موقع «إنديواير» كيف يعمل الفيلم كمجاز لمسيرة توم كروز نفسه متمثلة في مافريك، كيف ينتصر لمفهوم النجم السينمائي في ظل صناعة معاصرة قتلت المفهوم تقريبًا، نحن لا نذهب للأفلام لأنها من بطولة توم كروز أو براد بيت أو آل باتشينو، أو همفري بوجارت ومارلون براندو سابقًا، بل نذهب إلى أفلام ذلك الاستوديو أو تلك السلسلة السينمائية، لطالما تميزت السينما الأمريكية بتقديسها للنجم السينمائي خاصة الذكر، الذي يتمنى كل رجل أن يكونه وتتمنى كل امرأة أن تحصل عليه، يرى فيه الشخص العادي إلهًا قادرًا على ما لا يقدر عليه البشر، وسيم وأكبر من الحياة، ذو قوة جسدية وقدرة على جذب النساء.
مثل توم كروز ذلك المفهوم من الثمانينيات وحتى وقت قريب، بأفلام متتالية متنوعة، اشتهر بقدرته على القيام بمشاهد الحركة الصعبة بنفسه، وبالطبع اتسم بوسامته الشديدة، لم يملك قط موهبة تمثيلية خارقة، لكن ظهرت إمكانياته في أفلام بعض المخرجين المؤلفين مثل ستانلي كوبريك أو بول توماس أندرسون، مع الزمن انطفأ نجمه قليلًا، خاصة مع ظهور أخبار عن غرابة حياته الشخصية ومعتقداته الحياتية والدينية، ظهر عليه مرور الزمن، لكنه لم يلقِ له بالًا قط فهو في طريقه لصنع جزء سابع من سلسلة مهمة مستحيلة mission impossible التي تحتوي مشاهد حركة مستحيلة مثل اسمها، وبتوب جان مافريك يرسم أسطورته الخاصة، فهو مافريك الذي مهما شكك في قدراته وصباه من هم أصغر فإنه يثبت للجميع أنهم على خطأ.
يمثل فيلم توب جان: مافريك تجربة مثيرة من الحركة والمتعة البصرية، ممزوجة بخط درامي مؤثر، مما يجعله نوستالجيا ليس فقط للأجيال التي عاصرت توب جان الأصلي، ولكن لأي فرد يفتقد تجربة سينمائية بسيطة غير ساخرة حتى إن شابتها مخططات البروباجندا العسكرية، فإن مشاهدة مافريك ورفاقه يحققون الانتصارات ويلعبون كرة الشاطئ في ضوء الشمس الحارق يجعل تجاوز النوايا وتعطيل العقل التحليلي لمدة ساعتين مثيرتين ممكنًا، بل مطلوبًا.