كيف تقرأ عبد الوهاب المسيري
تَحِلُّ اليوم الذكرى الحادية عشرة لوفاة أستاذ الجيل؛ العلامة الدكتور «عبدالوهاب المسيري»، رحمه الله. الذي انتقل إلى جوار ربه في الثاني من يوليو/ تموز عام 2008م. وإذا كان الرجل نفسه، وإنجازه المعرفي؛ قامة شامخة غنيَّة عن التعريف، فربما كان من الملائم تخصيص هذا الموطن لترتيب كتبه المحوريَّة بحسب أهميتها من وجهة نظري، بعد أن صحبتها طويلًا؛ في التعبير عن منظومته الفكرية ومشروعه الرائد، وذلك حتى يفيد منها كل معني بالاطلاع على إنتاجه.
وقد يعجب البعض لأن اللائحة لا تحوي إلا النزر اليسير من كتاباته عن الصهيونية، وهذا حقيقي. فالإنجاز المنهجي، وتطور رؤيته وازدياد تركيبتها، ومراحل اكتمال منهجه في النظر هو ما يهمنا في هذا المقام. لذا رتَّبت كتبه المركزيَّة بحسب فهمي لهذا التطور المنهجي، لعل هذا يفيد من لم يسبق لهم الاطلاع على فكره، أو اطلعوا على نتف منتاشة منه، أو حتى من أرادوا إعادة قراءة مشروعه بشكل مُنظَّم، ليبصروا الهيكل العظمي الأساسي لمشروعه، ويُدركوا مراحل تخلُّقه وتشكُّله:
1. «الفردوس الأرضي: دراساتٌ وانطباعات عن الحضارة الأمريكية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ثم تنوير للنشر والإعلام)
هو أول كتب المسيري المنشورة باللغة العربية على الإطلاق، والكتاب الذي عبر عليه من الماديَّة إلى الإيمان، ويطوي – رغم صغر حجمه- جمهرة المقولات الفلسفية والمعرفية التي بُني عليها مشروعه الضخم. ورغم أن الكتاب مرحلةٌ وسط بين المادية والإيمان، فإنه يكشف عن روح تحثُّ المسير إلى الإيمان، فهي إلى فردوسها القلبي أقرب منها للفردوس الأرضي الموهوم؛ ومن ثم فإن قوام الكتاب حرارة وصدق لا يمكن أن تخطئهما الروح.
2. «أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية شبه ذاتية شبه موضوعية» (دار الشروق)
وهي مجموعة شعريَّة صغيرة تطوي سيرة شعوريَّة موجزة، نُظِمَت مُجزأة على مدى حياته؛ فجاءت في مجملها تعبيرًا عن تطور مشاعر المفكِّر في رحلة بحثه وانتقاله من البراءة إلى الحيرة فالخبرة فالعودة إلى فردوس الإيمان. ولأن ديدن كتابات المسيري هو البرودة العقليَّة؛ فإن حرارة هذه المجموعة تكشف عن البُعد الجواني لشخصيته الثريَّة ومراحل تطورها.
3. «رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار» (دار الشروق)
وهي وإن كانت من نصوصه المتأخرة إلا أنها من أهم كتاباته الجامعة المنشورة بالعربيَّة؛ إذ تحوي لا مقولاته الفكرية التوليدية الرئيسية فحسب، بل تكشف كذلك عن منهج توليد هذه المقولات، ومراحل تطور المنهج (والمقولات)، وكيفية قراءته للعام من خلال الخاص، والعكس؛ ومن ثم ترسُم لوحة سوسيومعرفيَّة سياقيَّة بديعة لتطور أفكار الأستاذ ومنهجه داخل سياقه التاريخي. وهو نص عظيم الفائدة لا لمن أراد الاطلاع على مختصر جامع لمشروع المسيري فحسب، وإنما لمن أراد مدرسة يتعلم فيها كيف يفكر وكيف يتفلسف وكيف يصيغ مشروع حياته من أسئلة حقيقية، بقطع النظر عن حجم هذا المشروع ومجاله ومداه.
4. «دراسات معرفية في الحداثة الغربية» (مكتبة الشروق الدولية)
وهو كتاب ضخم يحوي دراسات معرفية مُختارة وقراءات فلسفية متنوعة عن الحداثة الغربية وتجلياتها وأهم محطاته معها. وبمعنى من المعاني؛ فهذا الكتاب يمكن اعتباره مختارات (بالإنجليزية: أنثولوجي Anthology) تُيسِّر فهم مشروعه وتفتح الباب للقارئ ليلج عالمه الفكري. وهذا النوع من الكتب مشهور في الغرب الأنغلوسكسوني باسم «ريدر Reader»، ومهمته التعريف بكتابات المفكرين والأكاديميين الرواد من خلال مختارات من نصوصهم، وذلك بغير أن يضطر القارئ للرجوع إلى المطوَّلات التي خلفوها في كل موضوع. ومن ثم؛ يكثر استعمال هذا النوع من الكتب في الوسط الأكاديمي الغربي، خصوصًا من طلاب المراحل الجامعية المبكرة، أو من يريدون تكوين فكرة عامة عن منظومة مفكر ما وأهم مقولاته.
5. «في الأدب والفكر: دراسات في الشعر والنثر» (مكتبة الشروق الدولية)
وهو دراسات نظرية وتطبيقية في الشعر والنثر يكشف فيها رؤيته ويطبِّق فيها منهجه كناقد أدبي وفيلسوف. وفيه يقف القارئ على بعض اهتمامات المسيري المعرفية – الأقل شُهرة عند جمهور القراء- خارج إطار الحالة الصهيونية. وهو يُعتبر ريدر (Reader) أصغر حجمًا وأقل شمولًا، وربما جاز لنا اعتباره مُكملًا للكتاب السالِف ومتممًا له.
6. «اللغة والمجاز: بين التوحيد ووَحْدة الوجود» (دار الشروق)
وهو كتاب فذ بديع، وإن كان سبر غوره مسألة ليست باليسيرة؛ فهو يطوي رؤيته اللسانيَّة المركبة ونسقه اللغوي التوحيدي، اللذين تشكل بهما مشروعه. وإذا كان من المستحيل تشكيل نسق فلسفي بغير رؤية كونية واضحة تولِّد معجمًا لغويًّا خاصًا؛ فإن هذا الكتاب هو الإطار النظري الذي ولَّد من خلاله عبدالوهاب المسيري مُعجمه، كما يستبين فيه كذلك النسق الفلسفي- الكلامي الذي تعكسه استعمالاته اللغوية. وبعبارةٍ أخرى: ففي هذا النص تكمن مفاتيح استعمالاته اللغوية التي بُني بها مشروعه، وفي نفس الوقت؛ فإن النص ذاته انعكاس واضح لنسقه المعرفي ومشروعه الفكري.
7. «الحلوليَّة ووحدة الوجود» (الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر)
وفيه يصيغ المسيري النموذج المركزي والأهم في منظومته الفكرية؛ الحلول بوصفه مُناقضًا للتوحيد. وحُسن فهم هذا النموذج هو الباب الوحيد لفهم مُجمل نسق المسيري ومقولاته، ولإدراك كيفية توليده للنموذجين الآخرين اللذين يكتمل بهما مثلثه المنهجي. وهو نصٌّ جديد ليس في لغته فحسب، وإنما في إعادة صياغته لتقاليد وأدوات علم الكلام حتى يمكنها تفكيك مقولات الحداثة الغربية والتعاطي معها بكفاءة.
وهو في هذا النص (الذي نُشر كاملًا بعد وفاته، وإن تناثرت أكثر جزئياته في كتاباته الأخرى) لا يقتصِر على تعريف الحلولية ووحدة الوجود أو استعراض بعض تجلياتها وأنماطها (الروحية والمادية) فحسب، ولا هو بمجرد إسقاط للأنماط الغنوصيَّة والباطنيَّة التاريخيَّة للحلول على الأنماط الحداثيَّة لفهمها وتجريد سمات مشتركة للحلوليَّة. إذ القسم الأهم من هذا الكتاب هو تكملة شبه تطبيقيَّة لكتابه عن اللغة والمجاز؛ فهو يواصِل فيه تشريح الخطاب الحلولي ولغته النصيَّة الحرفيَّة، مع بيان علاقة المجاز بالتجاوز، وكشف أبعاد الصورتين المجازيتين الرئيسيتين للحضارة الغربية الحديثة، وأزمتها مع علاقة الدال بالمدلول.
8. «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» (مُجلدان، دار الشروق)
وفيه بلوَر المسيري ثاني النماذج التفسيرية الثلاثة المفتاحيَّة (العلمانيَّة، والجماعات الوظيفية، والحلوليَّة) التي تُشكِّل منهجه، ومن ثم؛ فهو نص كاشف عن ضلع تأسيسي من أضلاع المثلث المنهجي للأستاذ. وإن كان لا يمكن فهمه بغير فهم نموذج الحلوليَّة، إذ يعتبر المسيري العلمانيَّة أحد أهم تجليات الحلوليَّة. وقد تجلَّى في هذا النص كيفية إفادته – رحمه الله- من الانتقادات المتشظية لماكس فيبر وزيغمونت باومان ومدرسة فرانكفورت، وغيرهم من نقاد الحداثة؛ إذ سلكها في سلك واحد وأدرك رابط الوحدة الكامن فيها خلف التنوع الظاهري (الحلوليَّة)، وصاغ منها مقولة نقديَّة ومشروعًا فكريًّا مُتكاملًا متجانسًا، ومنظارًا أكثر تركيبيَّة يرى به الحداثة الغربية باعتبارها مشروع حلول/ علمنة، بفصلها المقدَّس عن الحياة؛ وليست مجرد ظواهر وأعراض سوسيولوجيَّة متفرقة مُنفصلة.
9. «الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذجٌ تفسيريٌّ جديد» (دار الشروق)
وهو ثالث النماذج التفسيريَّة أو ثالث أضلاع المثلث المنهجي – النقدي الذي قرأ به المسيري الحداثة الغربيَّة. وهو النموذج الذي اكتشف به طبيعة الوجود الصهيوني بوصفه تجليًا إمبرياليًّا من تجليات الحداثة الغربيَّة. وهو نموذج ذو مقدرةٍ تفسيريَّة عظيمة، ويُمكن التوسُّع في تطبيقه في الدراسات التاريخيَّة خصوصًا مع حالات مثل دويلات المماليك في المشرق الإسلامي وشبه القارة الهنديَّة وملوك الطوائف في الأندلس، بل وجمهرة من طوائف «الإسلاميين» المحدثين. لكنه كذلك نموذج يرتبط تكوينه بالمقولات الرئيسة التي صيغت في نموذج الحلوليَّة.
10. «دفاع عن الإنسان: دراسة نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة» (دار الشروق)
وهو كتاب يحوي عددًا من الدراسات التطبيقيَّة لنماذجه الثلاثة مع التركيز على نموذج الجماعات الوظيفيَّة، خصوصًا الجماعات الوظيفيَّة اليهوديَّة (الحالة التطبيقيَّة المركزيَّة في مشروع المسيري)، مع ملحقين منهجيين يحويان عددًا من التعريفات التي يحتاجها القارئ الذي لم يطلع على مشروعه بالترتيب، ومن ثم؛ فقد يجد القارئ فيها بعض التكرار، لكنه تكرار مفيد على كل حال.
11. «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان» (دار الفكر)
الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ــ عبد الوهاب المسيري
وسيجد القارئ فيه تفصيلًا منهجيًّا لكثير من الدراسات التي تناولها كتابه آنف الذكر (دراسات معرفية في الحداثة الغربيَّة). لكن البُعد الأهم في هذا الكتاب هو عنايته -على عكس سائر دراساته السوسيولوجيَّة- بتناول أثر الفلسفة الماديَّة على الإنسان بوصفه إنسانًا.
12. «حوارات المسيري» (أربعة مجلدات، دار الفكر)
وفيه بلورة تطبيقيَّة لكثير من جهود العلامة المسيري النظريَّة، وذلك بتنزيل رؤيته الكونيَّة على موضوعات بعضها جديد نسبيًّا، إذ لم يتناوله في كتبه وإن كان قد وضع الإطار النظري لقراءته.
إلى هذا الحد يكون القارئ قد أحاط إحاطة ممتازة بمنجز الأستاذ ومشروعه – رحمه الله- فلا يلزمه غوص في مطوَّلاته عن الصهيونية إلا أن يكون مُتخصصًا، كما لا يلزمه اطلاع على سائر كتبه -الأقل أهمية نسبيًا- إلا إن كان مُحبًّا يبغي الاستزادة وإثراء الفهم. ولو توقف بعد الكتاب التاسع (الجماعات الوظيفيَّة)؛ فلن يفوته الكثير. أما من أراد تكوين صورة شاملة لفكر الرجل، بغير خوضٍ تفصيلي في البنية المنهجيَّة؛ فيكفيه قراءة الكتب الخمسة الأولى ويشفيه. أثقل الله ميزان أستاذنا العلامة بكل حرف خطَّه، وعفا عنه، وأسكنه الفردوس الأعلى (الفردوس الحقيقي)، ونفعنا بعلومه في الدارين، آمين.