للأغنية دائمًا أثر كبير في التحركات الثورية عبر التاريخ، كثيرٌ منها نشأ في أوروبا قبيل عصر الثورة الصناعية والانفتاح، فمن داخل رحم ديكتاتوريات أوروبا العتيقة خرجت ألحان سجلها التاريخ، وتداولها المستمعون.

وعلى الجانب الآخر من العالم، حيث الشرق المتأزم، كانت الأغنية جزءًا من التاريخ، وجزءًا من قصص النضال ضد الاستعمار، ولكل منها حكاية سنقصها معًا.


1. «Bella ciao»: كيف ألهمت العاملات «الثورة»؟

وقف موسوليني بزيه العسكري المعتاد في منصة كانت تعلو الجميع بكثير… حتى ترآى للحضور أن موضع قدمه قد أصبح على الرءوس… وصاح بصوتٍ تملؤه الحماسة والاندفاع: اليوم صار النظام الفاشي والحكومة الإيطالية شيئًا واحدًا.

هكذا بدأت القصة، وليس كما ظننا أنها بدأت مع البروفيسور وفريقه في le casa de pabel، فقد كان الظهور الأول للحن الشهير، لحن أغنية Bella Ciao في أوائل القرن العشرين، حيث كانت الفاشية على رأس كل شيء في إيطاليا، ولا صوت يعلو فوق صوت موسوليني وحزبه، وأوروبا بأكملها ترزح تحت حكم ديكتاتوري لا هوادة فيه، بين توسع هتلر وقوة موسوليني المتصاعدة. وُلد اللحن الذي تداوله الملايين بعدها وعلق في أذهانهم.

لكن الكثير من المؤرخين ذكروا أن تاريخ الأغنية يعود إلى عاملات جمع النباتات في الحقول، في تلك الحقبة التي سبقت الحرب الأهلية الإيطالية عام 1943، وقد رددها كثيرًا الإسبان في حربهم الأهلية الممتدة. وظهرت في العديد من الأعمال الدرامية، أشهرها مسلسل le casa de papel.


2. «نيلسون مانديلا الحر»: الأغنية التي حررت مانديلا من السجن

خرجت الأغنية في ظل ظروف غريبة، عاشها جيري دامرز، مؤسس الفرقة ومؤلف الأغنية، فهو وبحسب ما قاله لشبكة CNN لم يكن يعرف من هو نيلسون مانديلا، ولم يكن قد سمع عنه من قبل، رغم سماعه عن حركة مناهضة التمييز العنصري، حتى جاء عام 1983 وحضر دامرز مؤتمرًا للحركة في لندن، استلهم مما سمع فيه فكرة الأغنية، وقد جاءت المفارقة بأن الأغنية قد خرجت في وقت اعتبرت فيه رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر أن مانديلا شخصية إرهابية.

فجأة وعلى غير المتوقع، انتشرت الأغنية كالنار في الهشيم، حتى صارت من أشهر 10 أغنيات في بريطانيا في ذلك العام. وقد كان الأثر الأكبر لها هو إخبار الشعوب أوروبا والعالم أجمع بمن هو نيلسون مانديلا.

بعدها بأربع سنوات نظَّم دامرز وفريقه حفلًا ضخمًا احتفالًا بعيد ميلاد مانديلا الـ 70، وقد شُوهد الحفل من قِبل 600 مليون مشاهد، مما وضع حكومة جنوب أفريقيا في وضع لا تُحسد عليه، ودخلت في مفاوضات سرية مع مانديلا لإنهاء الأزمة.


3. «يا ظلام السجن خيّم»: قبل فيروز وعبد الوهاب

اشتهرت الأغنية في الشام كله، فلسطين وسوريا والأردن، اشتهرت بين الجميع على أنها أنشودة إسلامية لإحياء صوت المقاومة، لكنها في الأصل كانت قصيدة للشاعر «نجيب الريس»، كتبها حين كان مسجونًا في زمن الانتداب الفرنسي الذي خيَّم على سوريا لعقود، وقد كان الظهور الأول للقصيدة عام 1922، في ظل قوة الانتداب الفرنسي.

وقد كان أول من لحنها وغناها الحلبي «صالح أفندي المحبك»، والذي درس الموسيقى لأعوام، وقد كان دائمًا من المهتمين بتقديم أغانٍ وأناشيد للثورة ضد الوجود الفرنسي في سوريا. وقد كان من بين من غناها فيروز بلحن الموسيقار محمد عبد الوهاب، وغنتها كذلك فرقة العاشقين، وهي فرقة غنائية فلسطينية تأسست في دمشق عام 1977، وقدمت للمكتبة الفلسطينية الكثير من الأغاني الثورية ضد الاحتلال.


4. «يا ليل خلي الأسير تيكمل نواحه»: قبل الإعدام بساعات!

ربما لم يكن «عوض النابلسي» يُدرك أن أبيات «يا ليل خلي الأسير تيكمل نواحه» التي كتبها في ليلة إعدامه وقبل تنفيذ الحكم بساعات، قد يُخلِّدها التاريخ، ويتناقلها المقاومون في فلسطين لعقود بعدها.

كتبها ذلك المقاوم الرافض للاحتلال الصهيوني، عام 1929، وذلك في خضم الاشتباكات التي وقعت بين الفلسطينيين وبين عصابات الصهاينة القادمة تحت مظلة بريطانية، خصوصًا عند حائط البراق، تلك الاشتباكات التي كانت الغلبة فيها للصهاينة بدعم من الشرطة البريطانية، التي خشيت التفوق الفلسطيني.

غناها الكثير من المنشدين والمطربين الفلسطينيين، لكن أول من غناها هو المغني صالح إبراهيم، ثم تردد صداها لسنوات وسنوات بعدها.

https://www.youtube.com/watch?v=5Jk4DXGTGk4

5. «لن تذاع الثورة في التلفاز»: حينما صرخت الأقلية

ربما لم يكونوا مضطهدين سياسيًّا أو فقراء فيصرخون صرخة الجوع، لكن الغضب الذي قدمه «جيل سكوت هيرون»، الشاب المنتمي لعرقية الأفارقة الأمريكيون، مختلفًا بعض الشيء، فقد كان الغضب مجتمعيًّا، غضب لن يودي بهم إلى إشعال الأمور ونزول الكاميرات وقنوات البث، ولن يذاع في التلفاز.

هو غضب من المجتمع الذي يعلن أمام الجميع احترامه لأصحاب البشرة السمراء، خشية من القانون فقط، لكنه يخفي بداخله كراهية تجاههم، تجاه ذلك الواقف عند باب متجره يسأل عن وظيفة، أو ذلك الأسمر الذي يصطحب طفله إلى المدرسة، أو حتى ذلك الطفل الموجود في فصله بين التلاميذ.

ألَّف جيل سكوت تلك الأغنية وأخرجها إلى النور للمرة الأولى عام 1971، واعتُبرت أيقونة لسنوات طويلة، مُعبرةً عن غضب الأفارقة الأمريكيين ضد التمييز المجتمعي الخفي الذي يبطنه البيض ذوو الأصول الأوروبية تجاههم.


6. «بنادق الإيتون»: حينما ثار البريطانيون على الأغنياء

في صيف 1979، وبينما كان «بول ويللر» يحظى ببعض الراحة في عطلته، قرأ مقالًا عن حركة المطالبة بـ «الحق في العمل»، والتي اشتعل صداها في بريطانيا على يد الحزب الاشتراكي هناك، وكان وقودها طلبة كلية إيتون، وقد كانت مطالب الحركة حينها تتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية بين الطبقات في بريطانيا، بدايةً من توفير العمل للجميع.

استلهم ويللر الفكرة من ذلك المقال، وألف أغنيته للمرة الأولى، ثم خرجت الأغنية في بريطانيا محققةً أرقامًا مذهلة من المبيعات، حتى أنها صنفت في المركز الثالث حينها ضمن الأغنيات الأشهر والأكثر مبيعًا في بريطانيا.

وقد نجحت الأغنية في تحقيق ذلك الانتشار الكبير ليس فقط لأنها تتلامس مع أزمة حقيقية كان يعاني منها البريطانيون، لكنها توافقت مع حالة الاضطراب الاقتصادي التي سادت أوروبا كلها، وعلى رأسها بريطانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخروج بريطانيا من الدول المستعمرة بسبب التدهور الاقتصادي.


7. «نشيد الأممية»: حينما اشتعلت الكومونة

كانت كومونة باريس حدثًا تاريخيًّا فريدًا، ليس في تاريخ فرنسا وحسب، ولكن في تاريخ الثورات البشرية، حيث نجح ثوار فرنسا عام 1871 في تشكيل هيئة من رؤساء مجلس البلديات، حازت على السلطة بشكل كامل، بعد سحبها من الجيش الدائم والشرطة المحلية، مما كان بمثابة إعلان دولة داخل الدولة.

كتب الشاعر التقدمي «أوجين بوتييه»، ذلك النشيد تخليدًا لذكرى تلك الثورة، خاصة بعد أن نُفذت الإعدامات الميدانية في قلب باريس.

تُرجم النشيد بعدها إلى أكثر من 100 لغة حول العالم، ليربط بين أصحاب الفكر اليساري الاشتراكي حول العالم، ويُذكِّرهم دائمًا بتجربة الكومونة.


8. «غني يا سمسمية لرصاص البندقية»: السويس تثور على العدوان

كانت الأجواء مشتعلة بما يكفي حينها، ليغضب أهالي السويس ويستمروا في تقديم الأغاني واحدة تلو الأخرى، لرفض الوجود الصهيوني ولو على حدود أراضيهم.

ظهر وقتها العديد من مؤلفي الأغاني الثورية منهم محمد أبو يوسف وكامل عيد والداش عبد السلام.

لكن أغنية المؤلف محمد أحمد غزالي، أو كما عرفه أهل السويس باسم الكابتن غزالي، كان لها ذلك الصدى الذي لا يُنسى في نفوس أهل السويس المتأهبين للانتفاض والمقاومة، وقد ارتبط خروج الأغنية ببداية استخدام السمسمية كأداة عزف في أغاني المقاومة، كجزء من التراث الشعبي السويسي، وبقيت الأغنية طوال تلك السنوات شاهد عيان على صمود السويس ضد العدوان.


9. «الشمس المختفية»: لتبقى إيرلندا

على مدى سنوات طوال، ظلت إيرلندا الشوكة التي تؤرق جبين بريطانيا، حيث ظلت مُصمِّمة على أن تظل حرة بعيدة عن السيطرة البريطانية، حتى لو كان السبيل إلى ذلك أن يستمر القتال دائمًا وأبدًا.

بدايات 1980 قررت فرقة The Police الغنائية أن تطلق أغنية بعنوان صادم invisible sun «الشمس المختفية»، حيث وصفت الأغنية شوارع إيرلندا الخائفة والمحاصرة بالسيارات المدرعة والأسلحة القاتلة، وما يعانيه الإيرلنديون من أجل حلم الاستقلال.

حظرت الإذاعة البريطانية BBC الأغنية فور صدورها، منعًا لانتشارها بين الجماهير، لكن حظ الإذاعة البريطانية السيئ أن الفيديو الذي صوَّره المخرج «ديريك بيربدج» أذاعته شبكة MTV الأمريكية، ونال شهرته الواسعة من هناك.


10. «عشية الدمار»: أمريكا العنصرية

في ظهيرة أحد أيام عام 1984، كأن جورج أورويل قبلها بسنوات قد تنبأ بأن هذا العام سيكون له من الأحداث ما تعجز الأعوام الأخرى عن احتضانه… في العاصمة البريطانية لندن؛ أطلقت فرقة The Special AKA الغنائية أغنية حمل اسمها الشعار الذي أطلقه مناهضو التمييز العنصري عام 1950 في جنوب أفريقيا Free Nelson Mandela.

إذا اطلعت على التاريخ الأمريكي إبان منتصف القرن الماضي وما قبله قليلًا، فستعلم أن الولايات المتحدة كانت من أكبر معاقل العنصرية ضد السود، رغم كل الوثائق الدستورية التي كانت تعلن رفضها لذلك. كانت العدالة غائبة والنفاق هو ما يحكم الأمور في معظم الولايات.

كتب باري ماكجواير أغنية «عشية الدمار» معلنًا بها غضبه مما تحياه الولايات المتحدة سياسيًّا واجتماعيًّا؛ سياسيًّا من الفساد السياسي المبطن، واجتماعيًّا من ظاهرة اضطهاد السود والتضييق عليهم.

رغم أنه لم يكن من ذوي البشرة السمراء، لكن حظه السيئ أن الأوضاع كانت أصعب مما يظن، والمناخ الديمقراطي المعتاد الذي لا يتعارض مع الفن بمختلف صوره وأشكاله لم يكن حاضرًا في تلك الفترة.

خرجت الأغنية إلى النور لأول مرة أوائل عام 1965، وقد كان صداها مخيفًا حتى قبل انتشارها، فقد رفضت الكثير من الإذاعات الأمريكية أن تذيع الأغنية بسبب محتواها السياسي الصادم، وقد كان التحدي الكبير بالنسبة لباري ماكجواير أن تخرج الأغنية للنور وأن تسمعها الجماهير حتى تُحقق له مراده، وصارت أيقونة دائمة لرفض الفساد السياسي.