طوني صغبيني ونقد تكتيكات العمل الثوري
مع الذكرى السادسة لمولد ثورات الربيع العربي في عام 2011 في تونس ومصر وما لحقته من حركة تغييرية لم تشهدها فقط منطقة الشرق الأوسط، ولكن تخطت الحدود ووصلت إلى قلب العواصم الغربية فكان من بينها انتفاضة احتلوا وول ستريت بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالرغم من حدة وسرعة تلك التحركات الثورية إلا أنها وفي ذكراها السادسة فقدت بوصلتها وفشلت في تحقيق أهدافها الثورية والتي قامت من أجلها، بل وتحولت في بعض الأقطار إلى حروب أهلية مفتوحة مثل ليبيا وسوريا واليمن، فلماذا فشلت ثورات وانتفاضات الألفية؟
لعنة طوني صغبيني تطارد الناشطين
تعددت الأطروحات والنظريات التي سعت إلى تقديم رؤية تفسيرية لما شهدته الحركة التغييرية منذ بدء الألفية، ففيما ركزت بعض تلك الأطروحات على العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الدافعة إلى قيام انتفاضات أو ثورات الألفية بدءاً بالانتفاضة الفلسطنية وانتهاء بالربيع العربي وملحقاته، ذهب البعض إلى التركيز على تغير بنية وهياكل الفاعلين الجدد في الحركة التغييرية.
إحدى أبرز تلك الأدبيات التي تستحق المناقشة والمراجعة ما كتبه طوني صغبيني تحت عنوان «لعنة الألفية: لماذا يفشل النشاط التغييري» التي زخرت ببيان أهم الأسباب والدوافع الكامنة وراء تراجع وفشل النشاطية السياسية والاجتماعية مع بدء الألفية الجديدة، فصغبيني يحاول قراءة هذا الفشل من خلال مجموعة الأفكار والافتراضات والاستراتيجيات والتكتيكات التي تقود وترسم وتشل حركة الكثير من الحركات والأنشطة الاجتماعية المعاصرة.
لقد تشكلت النشاطية السياسية والاجتماعية خلال العقود المنصرمة حول ثلاثة تكتيكات أساسية تتمحور حول «تكتيك الاحتجاج، وتكتيك التخريب العشوائي، وتكتيك القرصنة الإلكترونية»، وبالرغم من النجاحات التي حققتها تلك الاستراتيجيات والتي عبرت عن منهجية سياسية واجتماعية للتغيير، إلا أنها وفقًا لصغبيني تعاني من قصور دفع بها إلى إفشال النشاطية السياسية، حينما تحولت من مجرد آلية للتغيير لتصبح عقيدة وهدفًا بحد ذاتها، مدعومة بثقافة الفراغ والنهايات، ومستندة إلى ردات فعل قصيرة العمر، فيما تغلب عليها الطابع اللاسلطوي واللاستراتيجي للتغيير.
لماذا اليافطات والمسيرات وحدها لن تغير العالم؟
السردية التاريخية والاجتماعية تشير إلى أن الاحتجاج مثل لدى الجميع الآلية التي لا تقهر لتحقيق التغيير السياسي، ومع ذلك فإن كثيرًا من حركات الاحتجاج المعاصرة سواء كانت تتخذ من المظاهرات أو المسيرات أو الحملات الدعائية قد فشلت في تحقيق أي من أهدافها ورسائلها الاجتماعية والسياسية واكتفت بهدف متواضع وهو طرح قضية ما للمناقشة أو مجرد إسماع صوت المقهورين.
وفي ذلك يرى صغبيني أن فتون القوى السياسية والاجتماعية بآلية الاحتجاج ذهب بهم إلى أبعد من الواقعية السياسية فبات الاحتجاج في غير موضعه، مفتقرًا إلى القوة والتي تتمثل في القدرة على التصعيد إلى أشكال أخرى، بينما أهملت تلك القوى العمل البنيوي طويل الأمد المرتكز على التثقيف والتعبئة والتنظيم والدعم وبناء الشبكات الاجتماعية، كما أن تمجيد آلية الاحتجاج دفع إلى تبديد طاقة القوى السياسية والاجتماعية في ظل أنظمة قمعية لا يكترثون إلا لمفهوم القوة لا ليافطات وشعارات مدوية.
لماذا لم يعد التخريب الآلية الأفضل للتغيير؟
شهدت أوروبا وأمريكا الشمالية وأخيرًا الوطن العربي العديد من النشاطية السياسية التي ارتكزت على الأناركية والفوضوية وقامت بحرق المقاهي والمقرات وتكسير الزجاج والمحلات التجارية الشهيرة، حتى تحول العنف من مجرد آلية إلى هدف في حد ذاته، ولكن مع هذا لم تستطع تلك الجماعات أو النشاطات العنيفة تحقيق أي تغيير ملموس على الأرض.
فالتخريب كونه مصاحب للفعل الاحتجاجي، فإن فعاليته تتوقف على السياق الذي يتم فيه، ففي الوقت الذي ينتقد فيه صغبيني ما آلت إليه سلمية الاحتجاجات في مواجهة بطش الأنظمة، إلا أنه لا يرى في مفهوم التخريب وسيلة أفضل من الاحتجاج، بل يرى أنه يحمل في طياته مخاطر على السلامة الشخصية للناشطين الذين يقومون به، خاصة وأنه يتم بطريقة عشوائية ومرتجلة أثناء أعمال الشغب، ويفقتر إلى التخطيط الاستراتيجي في تحديد أهدافه، بينما يركز على الهدف المتواضع وهو مجرد إيصال رسالة للنظام مصحوبة بضجيج.
فشل القرصنة الإلكترونية
جميعنا يتذكر هجمات القرصنة الإلكترونية التي ظهرت كشكل من أشكال المقاومة والاحتجاج في 2011 والتي عملت على اختراق مواقع ومنصات إلكترونية للعديد من المنظمات والمؤسسات الحكومية لعدد من الدول من بينها ويكيليكس وأنونيموص، وبالرغم من الحفاوة الأكاديمية والشعبوية التي حظيت بها تلك النشاطات إلا أنها لم تؤد ولا مرة إلى تعطيل استراتيجي للنشاط الحكومي أو نشاط الشركات أو الأجهزة.
يذهب صغبيني إلى أن هذه المجموعات استطاعت بالتأكيد توجيه ضربات مؤلمة هنا وهناك وإحراج بعض الحكومات والشركات، لكن ذرباتهم لم تستطع تغيير قواعد اللعبة، وهذا لأن قواعد اللعبة لا يمكن تغييرها عبر الإنترنت وحده. كما أن فشلها يعزا إلى عزلتها عن الواقع، فنشاطات القرصنة يتيمة وغير مرتبطة بنشاط أوسع على أرض الواقع،كما أنها ترتبط بالطبيعة المؤقتة والمتحركة للمشهد الإلكتروني.
هل ما زلنا نفضل النضال على كوكب آخر؟!
الشكل الرابع من أشكال واستراتيجيات التغيير، ما خصص له صغبيني جزءًا مستقلاً في ورقته لأهميته وهو دور الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في النشاطات السياسية والاجتماعية منذ بد الألفية الجديدة، سواء الدور الدعوي التحريضي التعبوي أو التنظيمي، وبالرغم من هذا الدور المتزايد إلا أن السردية الاجتماعية المعاصرة تشير إلى أن الحركات التي تقوقعت حول هذا الدور، فشلت في تحقيق أي من أهدافها ورضيت بالطموح المتواضع وهو إحداث ضجيج حول قضية معينة، فيما استطاعت حركات ما قبل عصر الشبكات التواصلية في تحقيق ما صبأت إليه.
وهنا يشير صغبيني إلى العديد من الآثار السلبية التي هالت بالنشاطية السياسية حينما تقزمت حول محورية الإنترنت، فهو يرى أن الإنترنت دفع إلى دعم النشاط الفردي على حساب العمل الجماعي، مع تعزيز سلوكية الجماعة، وتدعيم النقص الحاد في الثقافة السياسية، فيما عمل على التهافت والتسابق من أجل الشهرة الإعلامية للناشطين، وهو ما دفع إلى تشظي الجهود وتجزئة القضايا، والتشويش بين الأدوار الإلكترونية والأدوار النضالية على أرض الواقع.
اللاحركات: كيف فقدنا بوصلتنا السياسية؟
أتت ثورات الربيع العربي وما تبعها من هبات ثورية في مختلف الأقطار بالحديث عن قيامة جماهيرية تقودها حركة لا بنوية وغير منظمة، ومع ذلك لم تستطع تلك الحركة اللابنيوية من تحقيق الهدف المنشود، فيما كان الرابح الرئيسي من تلك الهبات القوى السياسية البنيوية والمنظمة أمثال التيار الإسلامي في الوطن العربي، فلماذا؟
لم يكن صغبيني أول من تحدث عن مفهوم اللاحركات أو اللابنيوية فقد سعت المداخل السيوسيولوجية إلى محاولة تفسير وتجذير التطورات التي لحقت بالنشاطية السياسية مع بدء الألفية الجديدة، فيما حاول الباحث الإيراني آصف بيات في كتابه «الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط» تقديم تفسير محايد للنشاطية المعاصرة في الشرق الأوسط من خلال حديثه عن استراتيجية الزحف الهادئ للمعتاد أو مفهوم اللاحركات الاجتماعية.
وبالرغم من اختلاف المنطلقات لدى كل من صغبيني وبيات في تعريف اللاحركات عند بيات أو اللابنيوية عند صغبيني إلا أن هناك شبه اتفاق على أن المفهوم يعبر عن نشاطية سياسية يقوم بها أناس غير جمعيين، يعملون في شبكات رخوة وواسعة من الأفراد، وبالرغم من أن مفهوم بيات يشمل كافة التحركات لكافة الشرائح الاجتماعية من الطبقة الوسطى والفقيرة، إلا أن صغبيني يركز على شريحة واحدة وهي شريحة النشطاء السياسيين من الطبقة الوسطى والتي يعني لها النشاط السياسي هوية شخصية ومهنة تدر المال.
في حين يتفق كل من بيات وصغبيني على أن صراع اللاحركات أو اللابنيوية مع الدولة هو صراع حتمي ولكنه لا يستطيع إحداث تحولات سياسية أوسع من تلك التي أحدثتها الحركات القومية ما لم يتم تحريكها على أساس جمعي أو منظم.
وعن مستقبل النشاط التغييري يذهب بيات إلى تبني صيغة أكثر تفاؤلاً من تلك التي يتبناها صغبيني، فقد ذهب بيات وفي حدود تركيزه على منطقة الشرق الأوسط بالتأكيد على أن المنطقة الشرق أوسطية تحتاج إلى «ثورة إصلاحية ما بعد إسلاموية» تقودها حركات ليست إسلامية وليست علمانية، فيما ذهب صغبيني إلى محاولة إجهاض أي رؤية لقيام حركة تغييرية للكتلة الجماهيرية الحاسمة وذلك في ظل غياب ثقافة المقاومة المنظمة والمقاربات المنهجية للتغيير وهو ما أدى إلى ترهل حركة التغيير المعاصرة وتجزئة مقاصدها.
أزهار أم بنادق؟
تماهت حركات التغيير المعاصرة في تبني استراتيجيات المطالبة بالتغيير بين ثنائية العنف واللاعنف، حتى صارت تلك الثنائية عقيدة مقدسة لدى اليساريين أو الليبراليين، وبالرغم من أن كل فريق يرى أن استراتيجيته تملك القول الفصل، إلا أن العنف على سبيل المثال كان بمثابة المسمار الأول في نعش حركات التحرر، وكان وراء الفشل الذي أصاب انتفاضات الربيع العربي 2011 وتحويلها إلى حروب أهلية، كما أن اللاعنف فشل في تعبئة وتحريك الجماهير لفترة أطول في مواجهة القمع بل وتحولت من اللاعنف إلى العنف كما حدث في ثورة 25 يناير.
إن أحد عوامل فشل تلك الاستراتيجيات هي عدم امتلاكها رؤية استراتيجية شاملة، ويتم تنفيذها في سياقات مغايرة لأدواتها، كما أن معظم حركات الألفية تشن حربًا ضد بعضها البعض بطريقة استقصائية واستبعادية للحركات الراديكالية التي تنتهج تكتيكات غير سلمية لتحقيق الأهداف نفسها.
لماذا البعد الروحي أساسي للتغيير الشامل؟
ينتهي صغبيني في ورقته إلى نقد الرؤية اليسارية الرافضة للبعد الروحي والديني كأساس للتغيير، معتبرًا أن التطرف والعنف الديني هو أحد عناصر الضخ لتلك الفلسفات، مؤكدًا على أن هذا الرفض غير منطقي فهو قد جاء في سياق تاريخي محدد، بالرغم من أن الروحانية كانت وستكون أحد العناصر المحركة للشعوب والأفراد.
يختتم صغبيني بضرورة تبني ثقافة سياسية تراعي البعد الروحي، تمتلك ترسانة سياسية جريئة وبراغماتية ملاءمة لعالم ما بعد الرأسمالية الصناعية أو عالم ما بعد انهيار الحضارة، ثقافة لا تمجد العنف أو العنف كأساس أيديولوجي، ثقافة متوازنة منفتحة تستوعب جميع الناس في عملية التغيير، ثقافة مقاومة.
- آصف بيات: ترجمة أحمد زايد، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، المركز القومي للترجمة، 2014