طوكيو التي لا نعرف: مزيج اللذة والألم
بالنظر لاتجاهي الشخصي منذ فترة للتعرف على أدب شرق آسيا؛ كانت رؤية عنوان الرواية واسم الكاتب إشارة كافية للاندفاع لاقتنائها، مدفوعة بالفضول وغير قليل من الحاجة لقراءة نص لطيف بدأتها.كانت القراءة سلسة وهادئة حتى أول مرة شعرت فيها بالعطش، وفي أثناء توقفي للشرب انتبهت أني أنهيت ما يقارب ثلث العمل وما زالت الحكاية شديدة البساطة، مجرد سرد مليء بالتفاصيل التي وجدتني انسقت معها دون أي وجهة بادية.حكاية لطيفة عن شاب وامرأة عجوز يجمعهما بشكل ما عمل مشترك في صناعة فطائر الدوراياكي المحلاة (نوع من الفطائر اليابانية). حسنًا، أعترف أن هذا مما شدني إليها في المقام الأول كاستراحة هادئة في فترة عزوف عن القراءة. لكني سرعان ما تداركت سذاجة الانطباع الأول، فالرواية التي كنت أقرؤها مأخوذة بتوقع غذّاه العنوان والغلاف من أني أمام عالم مليء بالحلوى -التي لا أفضلها عادة- والملذات وكل ما هو وردي ومرغوب كمهرب من قماءة العالم، أخذت فجأة بالتحول لحكاية إنسانية مرهفة لا حيلة لي سوى مجاراتها والانغماس فيها. خدعت وذلك مبعث متعة لو تعلمون كبيرة.ربما فكرت بادئ ذي بدء أن الكاتب استعمل هذه المقدمة كمقلب لمجرد جذب الانتباه، لكن ما لبثت أن أدركت أنه مقلب أحسن توظيفه بحيث يكون الدهليز المظلم الهادئ الذي يتحتم على القارئ قطعه في إثر شعاع بعيد آت من بلاد العجائب. عالم أبطاله اثنان: أولاهما عجوز سبعينية حمّلها الكاتب عبء تعريف القراء بمعاناة فئة من المجتمع الياباني -والبشر عمومًا- قاست التهميش لعقود طويلة من خلال قصتها كمثال حي على تلك المعاناة.كمريضة سابقة بالجذام، تروي توكي يوشي قصة حياتها التي لم تستطع أن تحياها، حيث كان تشخيصها بالمرض إعلانًا مبكرًا عن نهايتها وهي ما تزال في الرابعة عشر، ليحكم عليها بقضاء أربِعَةِ عمرها الباقية في مصح للحجر الصحي. وكغيرها من مئات المصابين، أجبرت يوشي على الانفصال عن عائلتها وكل أمل في عيش الحياة التي رغبتها، ومعها حلم تدريس الأدب الياباني.هنا يركز سوكيغاوا على دور المجتمع في مفاقمة مأساة المرض بالمعضلة الأزلية للنوع البشري: الجهل، حيث يسود اعتقاد بأن الجذام (مرض هانسن) هو مما يدعى في الثقافة اليابانية “غوبيو”، أي أنه تكفير عن ذنوب الإنسان في الحياة السابقة، وهو معتقد يندرج ضمن الاعتقاد بمبدأ تناسخ الأرواح. وبناء على هذه الفكرة؛ لا يقتصر المرض على كونه علة جسدية وإنما يتعداها ليمثل وصمة لروح المريض.في هذا السياق تبدو العزلة المفروضة على هؤلاء المصابين مبررة حتى بالرغم من اكتشاف علاج للمرض ومن كون نسب العدوى به شبه معدومة، ويبدو كذلك أن رفع الحظر القانوني عنهم والسماح لهم بمغادرة المصحات لم يتعدى كونه إجراءً شكليًا ذكرهم بمدى نفور المجتمع منهم، وهو ما جسدته أرملة صاحب متجر الفطائر. هذه الشخصية التي برغم هامشية ظهورها، إلا أنها مثلت مكمن العلة التي وارب الكاتب ذكرها بشكلها في المجتمع الحديث، الجهل كمرض أكثر خطرًا بتفشيه وسطوته.أما الشخصية الثانية فهي: المعلم، وهو لقب لم أستطع عدم ربطه بلقب الشخصية الثانية في رواية نيكوس كازانتزاكيس الشهيرة «زوربا»، فعلى الرغم من ظهوره في مقدمة النص كشخص يمكن بقدر أو بآخر وصفه بالبلادة واللا مبالاة بكل شيء، نفسه والحياة؛ إلا أنه على مسار الحكاية يصاب بالحيرة التي هي جذوة الحياة، والتي ستتولى علاقته بتوكي بشكل غير مباشر تغذيتها وإذكاءها.
ربما تلك الحيرة والتردد هي الرابط الآخر بين سينتارو تسوجي ومعلم زوربا، وما يضفي نوعًا من المنطق على جمعهما ضمن الإطار ذاته في ذهني.مترددًا بين حلمه الأول بالكتابة وبين شعوره بعبء الامتنان لمعلمه المتوفى، قضى سينتارو عدة سنوات في صناعة الفطائر التي لا تستهويه نهارًا وشرب الكحول ليلًا، حاكمًا نفسه بتكرارية سيناريو عبثي لموت بطيء، حتى اللحظة التي تذوق فيها حشوة الفطائر التي تعدها العجوز المخضرمة، في تلك النكهة المفعمة بالحياة والجمال والحب وجد – بغير وعي منه – ما سوف يتضح فيما بعد أنه ذاته التي أخطأ وتعثر وأفنى سنوات شبابه الأولى في بحثه عنها.هكذا يمكن لملعقة تجد طريقها لفم إنسان أن تفتح الباب الخفي لعتمة روحه، وأن تجتر شبكة من الأحداث والكلمات التي تكون سببًا في تغيير مسار حياته برمتها. ربما هو سحر الصدفة أو السطوة اللا متناهية للأقدار التي قادت توكي في نزهتها الأسبوعية عبر الرائحة العابقة للفطائر إلى متجر دوراهارو.
في المسكوت عنه في حواراتهما القصيرة، يخبرنا الراوي بالكثير عنهما، لكنها بقيت مجرد لمحات مما أفاضا في الحديث عنه في الرسائل المتبادلة بينهما والتي كونت الجزء الأهم بالنسبة لي من الفصول الأخيرة في النص، حيث امتلأت بالتفاصيل شديدة الشخصية والحميمية لكلتا الشخصيتين، وصيغت بصدق وعاطفة رائعة اللطف وانسيابية لجمالها لرغبت بقراءة كتاب كامل من هذه المكاتيب التي كانت متنفسًا لمكنوناتهما المستعصية على البوح، ماضي سينتارو الرازح تحت وطأة الندم، وحكاية يوشي المفعمة بحب الحياة وروحها الرقيقة في مصارحتها بمغزى هذا الحب ومبعثه.
بالنظر لهذه الحكاية، نجد أننا الطرف الأضعف فيها، ننخدع بلذة العنوان لنفاجأ بألم هادئ رزين يتسلل لقلوبنا خفية، ألم مترف الجمال. وننغمس في واحدة من الحكايا التي تفارقنا قبل أن نحاول التملص من قبضتها. ورغم ذلك أو بسببه، لا نشعر نحو الكاتب سوى بامتنان لمشاركتنا نصًا بهذا القدر من اللطف الحاني على هزال كل من لم تسعفهم المفردات ولا الجغرافيا ولا البشر في شرح آلامهم.