تقول «ماريا منتسوري»[1]: «التعليم ليس نقل المعرفة، بل ترك الطفل ليتعلم»، فما الفارق بين هذا وذاك؟

«أحمد» يعيش حياته وسط مجموعة متوادة من الجيران، يباركون لبعضهم في المناسبات ويتشاركون الأحزان، ويقفون بجانب بعضهم في الظروف القاسية. ليس جيران المنزل فقط بل سكان الشارع برمته.

«أحمد» رُزق بطفل أسماه «هاني»، وأخبره أن معظم الناس أخيار عدا بعض الاستثناءات القليلة، وعليه أن يعامل الجميع جيدًا.

«محمد» يعيش حياته في منطقة سكنية تمتلئ بالمشاجرات، جيرانه كثيرو المشاكل فيما بينهم، وكل منهم يهتم بمصلحته فقط وليذهب الآخر للجحيم، حتى أن معظمهم عندما كانوا يلتقون مصادفة، يغضون البصر كأنهم لم يروا أحدًا.

«محمد» رزق بطفل سماه «عُمر»، وأخبرَ «عُمر» أن معظم الناس سيئون أنانيون يدافعون عن أنفسهم أولاً، ولا يأتي الآخر في حساباتهم إلا لمصلحة لهم، لذلك عليه أن يحرص من الجميع ويعاملهم بحذر وانتباه.

«هاني» و«عُمر» دخلا المدرسة.. «هاني» تواجد وسط مجموعة من الأصدقاء المتنمّرين المتباهين، أداؤه الطيب المرحب بمبالغة وسطهم حوّله فريسة للسخرية، فهو بالنسبة لهم ساذج أحمق ودائمًا ما أظهروه بهذه الطريقة أمام لجميع.. كابد «هاني» الاتهام الدائم بالحماقة ممن حوله في المدرسة، ونبذه الغالبية مما أثر على نفسيته.

كذلك كان «عُمر»، فصله الدراسي أحد فصول المتفوقين، زملاؤه مجموعة من الأصدقاء الذين انتقلوا معًا من مستوى تعليمي تلو الآخر في نفس الفصل الدراسي سوية، كلهم أصدقاء، العلاقات الاجتماعية التي نشأت بينهم وكونهم من المتفوقين جعلتهم مثل الأسرة الواحدة.. لم يكن فيهم متنمّرٌ أو مشاغبٌ، لكن «عُمر» لم يعرف هذا عندما انضم لهم، رحبوا به بشدة، لكنه بدأ بترسيم حدوده الصارمة في البداية مما لا يسمح لأحدهم بتخطي حدوده معه، خوفًا من أن يناله أيهم بالأذى كما حذره أبوه!

مساحة واسعة من التوتر المستمر أنشأها حرص «عُمر» فلم يتقرب له أيهم، مرت الأيام تلو الأخرى وفوجئ «عُمر» بنفسه في أحد الأيام وحيدًا لا يحادثه أحد ولا يشركونه في شيء، حتى أن معظمهم رفض الجلوس بجواره في الفصل، فلا أحد أحب تحفزه الدائم.

كلاهما تسببت له معرفة الأب في فقد بوصلة التعامل الاجتماعي السليم بسبب أن أبويهما أسقطا تجربتهما الشخصية على طفليهما، وأعطيا الطفلين ما كان عليهما أن يعرفاه بمفردهما.

حتى أن «هاني» أيضًا لم يعانِ المشاكل مع أصدقائه فقط بسبب طيبته الزائدة؛ بل فقد ثقته في أبيه لا شعوريًا، وبدأ في التزام الجانب الآخر من كل مما سبق ونصحه به أبوه سابقًا، فأدى لخسارته مشوار تربيةٍ كاملٍ به من النصائح الجيدة، ما كان سيفيده فعلا. لكن شعور «هاني» بالخداع وأنه بعد كل ذلك الوقت لم يتعلم شيئًا بل عليه البدء من جديد ليتعلم كيف يعامل الناس من حوله، بل والأسوأ أنه ليس في مستوى صفر في التواصل الاجتماعي مثل الذين يبدأون من جديد وفقط، بل هو يبدأ من أسفله، فعليه أيضًا إصلاح الأثر النفسي السيئ الذي تسبب فيه أصدقاؤه بسبب نصائح أبيه.

كذلك كان «عُمر» في فصل المتفوقين مكروهًا بلا سبب يفهمه ولا جريمة ارتكبها، هو فعلا لا يفهم سبب كل هذا، لكنه يدرك أنه التزم بنصائح أبيه، وهو ما سيتأكد ألا يفعله مرة أخرى.. فنصائح أبي لم تصمد في الواقع. كل معرفتي السابقة لا شيء؛ فلماذا علي الاستماع له مرة أخرى؟

صبي حانق سيهدم بناء التربية كاملاً، فهو لا ينتوي أن يلدغ من ذات المكان مرتين.

وأب يتعجب لماذا لم يعد طفله المطيع يسمع كلامه وينتبه له، ولماذا بات متمردًا يعارضه دائمًا في كل صغيرة وكبيرة؟

كل ما فات لم يكن ليحدث لو ترك للطفل حرية التجربة والوقوف على النتائج الخاصة بحياته الشخصية بمفرده، ربما كانا في غنى عن كل ذلك لو تُركا ليكتشفا طبائع الأفراد بمفردهما كل على حدة ويعاملا كل شخص وفقا لصفاته وأسلوب تعامله في المقابل، ويكون كل منهما خبرته الخاصة في طرق التعامل دون سبق اعتقاد.. كل هذا الفشل لم يكن ليكون لو أحاط الأبوان طفليهما بالوسائل المساعدة كي يحصلا المعرفة بأمان دون أن يخشيا شيئًا، لا أن يخبراهما بما لا يجب أن يفعلا.

تقول «ماريا منتسوري»:

أساس التربية غير ما يقدمه المعلم، التربية عملية طبيعية تلقائية يؤديها الطفل ويكتسبها من التجارب في البيئة، علينا نحن الكبار أن نتعاون مع البيئة لإطلاق قوى الأطفال، يجب أن نبدأ طريقا لا يُعلم فيه الأستاذ الطفل، ولا أن نختزل التربية في الاستماع للكلمات.
مهمة المعلم إعداد سلسلة من التفاعلات البيئية حول الطفل، ثم لا يصبح عليه أن يتدخل، فالمعلم البشري يستطيع فقط مساعدة العمل العظيم الذي يحدث من هذا العقل العظيم، وبهذا الدور سيكون شاهدًا على نهوض رجل جديد لن يكون ضحية للأحداث (خبراتك السابقة) لكنه سيمتلك وضوح الرؤية لتوجيه وتشكيل مستقبله[2].

هل معنى هذا أنني لن أعلم طفلي أبدًا؟

لن أقول لطفلي هذه اسمها شمس وذاك قمر، وأن العربة المُسرعة عندما تصدمك ستموت؟ هل أتركه للعربة كي تصدمه حتى يختبر الموت فيتأكد؟!

لا، المعرفة نوعان: (معرفة حسية) و(معرفة عقلية).

المعرفة الحسية ننقلها تفصيليا للطفل كل ما نشاء وكل ما يهتم به، أسماء الموجودات والعلوم والمنطقيات و… و… نستطيع أن نختصر ذلك بكل ما تتعرف عليه الحواس (النظر والسمع واللمس والشم والتذوق) هو ما عليّ نقله لطفلي بأريحية وزخم.. لكن ليست النتائج!

بينما المعرفة العقلية، تلك التي تأتي بالاستنباط والاستنتاج ويتدخل فيها بقوة ويفرق عامل التجربة الشخصية والوعي الذاتي الخاص بكل شخص على حدة، عليك تركها لطفلك كي يختبرها هو بتجربته الخاصة ويصدر حولها قراره الخاص، وفر له البيئة الآمنة للتعلم وقم بتعليمه كيف يفكر، واتركه ليعترك الأمر ويرتكب الأخطاء ويكرر الأفعال فيكتسب الخبرة فيصل للنتيجة النهائية السليمة (بالنسبة له وحياته وشخصيته)، فهذه حياته هو وليست حياتك أنت، لذلك هو في حاجة لخبرة ذاتية ومعرفة خاصة، تلك التي ستعينه في حياته.

وتذكر أن تعلم طفلك كيف عليه أن يفكر بدلا من أن تعطيه النتيجة نهائية.. كتعليم الصيد بدلا من إعطاء السمك..

ولا تقلق فالتجارب تؤكد أن الأطفال أكثر منطقية من الكبار، لذلك لن تعاني كثيرًا، خاصة أن عقولهم لازالت خالية من التعصبات والآراء المسبقة، لذا عليك تعليمه الأدوات وإعطاؤه القضايا وعناصرها، وعلى الطفل ضرب هذه العناصر في خلاطه العقلي ليخرج بتوليفته ونتيجته الخاصة به.

تقول منتسوري:

علينا إحاطة الطفل بالأشياء التي عليه أن يتعامل معها لتوفر له اكتشاف المعرفة اللازمة.

ولا تنس توفير مساحة ارتكاب الأخطاء وتفهم ضرورة ذلك، وأن هذه مرحلة صعودية طبيعية وعادية، فلا تعلم دون ارتكاب أخطاء ومن ثم التكرار ثم الوقوف على النتيجة بمفرده فالخطأ أساس العملية التعليمية..

فلو خفت أن يسقط طفلك عندما يركض فظللت تمنعه عن الركض، فلن يتعلم الركض أبدًا، فتسعة أعشار التعلم ارتكاب الأخطاء.

المراجع
  1. منتسوري، ماريا. التربية من أجل عالم جديد. ترجمه ملك مرسي حماد. راجعه د.سلوى جادو. (القاهرة: مكتبة دار الحكمة، 2002)، 10.
  2. بتصرف: "منتسوري، ماريا. التربية من أجل عالم جديد. ترجمه ملك مرسي حماد. راجعه د.سلوى جادو. (القاهرة: مكتبة دار الحكمة، 2002).10-11-12"