إلى السعودية: لماذا قرر كريم بنزيما التوقف عن القتال؟
بالقرن الثامن عشر، أشاع آدم سميث، الفيلسوف الاسكتلندي ومؤسس النظرية الاقتصادية الحديثة، أن المقايضة كانت مُقدمة للمال، وصف سميث في كتابه «ثروة الأمم» حياة المجتمعات ما قبل اختراع النقود، حيث كانت التعاملات بين البشر عبارة عن سلسلة مستمرة من تبادل الاحتياجات؛ ما تريده أنت، يمتلكه شخص آخر، وما يمتلكه الآخر تريده أنت، في هذه اللحظة تتم المقايضة، ويربح الجميع.
بغض النظر عن أسطورة المقايضة، التي تم التشكيك في مدى دقتها، تظل هذه الفكرة المجرّدة الحاكم الأساس للتعاملات بين البشر حتى في عصرنا الحالي.
لكن في قصتنا، لم يحصل البطل على المال وحده مقابل موهبته، كما أنّه لم يبع موهبته وحدها لمن يريد، قصة معقدة، صحيح؟
البحث عن شريك
في السادس من يونيو/حزيران 2023، أعلن نادي الاتحاد السعودي ضمّه الفرنسي «كريم بنزيما»، نجم ريال مدريد السابق، في صفقة انتقال حر، على أن يتقاضى اللاعب الذي حصد جائزة الكرة الذهبية عام 2022 راتبًا يصل إلى نحو 200 مليون يورو سنويًا.
هذا الرقم الضخم، الذي يساوي نحو 20 ضعف آخر عقد حصل عليه اللاعب مع نادي العاصمة الإسبانية، يجعلنا نتساءل عن حقيقة ما يُمكِن أن يُقدمه اللاعب للنادي السعودي أو لدوري «روشن» بصورة عامة، وحتى نجيب على هذا السؤال علينا أن نعود للخلف قليلًا.
حسب «روري سميث»، صحفي «نيويورك تايمز» الأمريكية، يعد استقطاب السعودية لنجم بحجم كريم بنزيما في هذه اللحظة تحديدًا من عمر المملكة العربية السعودية خطوة توضِّح النية الحقيقية لمشروع الرياضة السعودي.
بجانب اتخاذ وزارة الرياضة السعودية لقرارات جريئة متعلقة بالاستثمار في قطاع الرياضة بآخر عقد، أهمها على الإطلاق كان خصخصة مجموعة من أندية كرة القدم السعودية، تبدو التحرُّكات نحو نخبة لاعبي كرة القدم مثل كريم بنزيما هي الخطوة الأذكى على الإطلاق.
طبقًا لسميث، دون شك لعب الاستثمار الخليجي في كرة القدم العالمية دورًا محوريًا في تغيير النظرة لهذه المنطقة من العالم، تجارب مثل الاستحواذ الإماراتي على «مانشستر سيتي»، أو القطري على «باريس سان جيرمان»، أو حتى السعودي على «نيوكاسل يونايتد»، أتت ثمارها بشكل أو بآخر، لكن بحسب رأيه، ما تسعى إليه المملكة، يتطلّب وجود هذه الأسماء داخل البلاد، بشكلٍ إسبوعي؛ لأن اللاعبين، أو بالأحرى، مجموعة مختارة من اللاعبين، هم الأصول التي يمكن أن تجذب الانتباه، ثم تُعظِّم الأرباح على المدى الطويل.
ما بعد تأثير «رونالدو»
السؤال الآن: لماذا تبدو شراكة «بنزيما» والسعودية مثالية؟ الإجابة المُختصرة هي أن كريستيانو رونالدو لن يأتي بالمعجزات وحده.
أحد الأهداف الرئيسة لمشروع كرة القدم السعودي هو تحويل دوري المحترفين لواحد من أفضل عشر دوريات في كرة القدم العالمية، وزيادة إيرادات الدوري من 120 مليون دولار أمريكي إلى أكثر من 480 مليون دولار سنويًا، وبالطبع لن تنجح هذه الخطة سوى عن طريق لفت انتباه العالم بأسره للدوري السعودي.
عقب انتقال «كريستيانو رونالدو» للنصر السعودي في يناير/كانون الثاني 2023، نشر موقع «ذي أثليتيك» تقريرًا بعنوان: «ما يجب أن يتوقعه كريستيانو رونالدو في دوري المحترفين السعودي».
أهم ما ذُكر على الإطلاق داخل ذلك التقرير، هو حقيقة أنّ الدوري السعودي، طبقًا لوكالة «21st Club»، يحتل المركز الـ58 من حيث جودة المنافسة بين دوريات العالم، ما يضعه في مكانة مشابهة لدوري الدرجة الثالثة الإيطالي.
بغض النظر عن الزخم الذي صاحب انتقال البرتغالي للأراضي السعودية، وسعي الجماهير ومحطات البث العالمية لتتبع لمساته الأولى داخل الأراضي العربية، نقل «كريس ماك هاردي»، مقدّم أحد البرامج الإذاعية الإماراتية، تخوّفه لأحد محرري مجلة «فور فور تو» العالمية، حيث يرى أنّ الزخم المصاحب لوجود رونالدو بالسعودية تضاءل بعد أسبوعين، بمجرّد عودة الدوريات الأوروبية الكُبرى، بالتالي يحتاج الأمر لما هو أكثر من كريستيانو رونالدو.
حقيقة، لا ندّعي أن انتقال كريم بنزيما للدوري السعودي حظي باهتمام إعلامي أكبر من ذلك الذي حظي به رونالدو عند انتقاله لنفس الدوري، لكنّه بلا شَك أضفى الجدّية المطلوبة للمشروع السعودي المزعوم، لكونه نجمًا لريال مدريد الذي لعب لتوه نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، بل ومتوجًا بالكرة الذهبية لأفضل لاعب بالعالم منذ أشهر معدودة.
بنزيما الذي لا نعرفه
هذا الزعم العريض أعلاه، قوبل بموجة منطقية من السخرية؛ بحجة أن اللاعب الفرنسي صاحب الأصول العربية المسلمة، قايض موهبته وصورته الإعلانية بمبلغ ضخم من المال، لكن دعنا نخبرك أن هذه الحجة حتى وإن كانت منطقية، تظل غير دقيقة.
يمتلك كريم بنزيما بالفعل سجلًا كبيرًا من علامات الاستفهام حول حقيقة حياته خارج الملعب، وفي عصر «لاعب الكرة المؤثر»، اختار الفرنسي أن يروّج لنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي كلاعب مُسلم مُتديِّن، وهو الأمر الذي يثير استغراب الكثيرين.
لا يبدو أن كريم بنزيما قرر لحظة إعلانه لاعبًا جديدًا لنادي الاتحاد السعودي تملُّق الجماهير العربية، أو المتاجرة بمعتقده الإسلامي، لكنّنا فقط أمام نسخة أكثر نضوجًا من الشاب المُتهوِّر الذي عرفناه بالسابق.
في مقابلة مع مجلة «The Vogue Man Arabia» تعود لعام 2019، تحدَّث الرجل الذي ارتبط اسمه بالفضائح والقرارات الصبيانية حتى تلك اللحظة عن حياته الشخصية، ونضجه كشخص مع مرور السنوات، بخاصة بعدما أصبح والدًا لطفلين هما «ميليا» و«إبراهيم».
يعتقد كريم أنّه مذْ أصبح أبًا، أراد أن يرى فيه أبناؤه قدوة يُحتذى بها، والأهم أن ينجح في تربيتهم على الأسس والقيم التي نشأ عليها، المرتبطة بشكل وثيق بالمعتقد الإسلامي.
تذكَّر، كانت هذه المقابلة في 2019، قبل أن تُفكِّر المملكة العربية السعودية في ضخ الأموال لكرة القدم، بل حتى قبل أن يتحوَّل كريم نفسه لنجم الشباك الأول بكرة القدم العالمية، هذا ما يجعل تبريره الذهاب للسعودية بحجة التقرُّب لمجتمع يشبهه من حيث المعتقدات منطقيًا على أقل تقدير.
لأنّه كريم
بالنسبة لمعظم لاعبي كرة القدم، لحظة الحصول على جائزة الكرة الذهبية تكون بمثابة انطلاقة لمسيرتهم الرياضية، لكن بالنسبة للفرنسي، كانت النقطة التي اختار عندها التوقُّف عن القتال.
بالنظر لمسيرة بنزيما كاملة، يتضّح أننا أمام لاعب كرة قدم عبقري أُسيء فهمه، بداية من الشَّك في قدراته وقت وصوله لمدريد، مرورًا بالاضطهاد داخل المعسكر الفرنسي بدافع العنصرية، وصولًا إلى التساؤل حول حقيقة قدرته على حمل قيادة هجوم ريال مدريد في عصر ما بعد كريستيانو رونالدو.
كان عام 2022 فاصلًا في مسيرة بنزيما الرياضية، حيث حصل على اعتراف ضمني من العالم بأسره بأنّه أحد أفضل لاعبي كرة القدم بالعالم، بل أفضلهم في هذه السنة تحديدًا، لكنّ الأهم كان حقيقة أن جسده لم يعُد يتحمَّل الاستمرار في هذا المستوى العالي من المنافسة لفترة أطول.
ولأنه يعلم تمامًا كيف يقيِّم نفسه، بمعزلٍ عن الأرقام، التي لطالما تجاهلها طوال مسيرته، قرر أن يبدأ هذه الرحلة الجديدة، التي تبدو مثالية لجميع الأطراف.
رحلة يقايض خلالها كريم موهبته واسمه بعقد خرافي وحياة شخصية يتخيَّل أنّها مثالية لهذه الفترة من حياته، بينما تحصل المملكة العربية السعودية على نجم جديد، يُسهِّل وصوله إقناع أي اسم آخر بالانضمام لدوري عربي ربما لم يسمع عنه من قبل.