إلى من لم يكن قلبه مضخة صدئة: رسائل غسان إلى غادة
يبدو أن عدوى التوثيق انتقلت إليّ بعد قراءة الرسائل، لذا سأميل إلى توثيق قصتي مع هذا الكتاب أيضا، ومنذ أن قرات لغادة أول مرة وما قرأته لها بعد ذلك مثل: الرغيف ينبض كالقلب، البحر يحاكم سمكة، فسيفساء دمشقية، ليلة المليار، ليل الغرباء. لم يفارقني الإعجاب بهذه الكاتبة الكبيرة فقد كانت مؤلفاتها تشتعل موهبة وذكاءً وتمردًا أنثويًا جميلًا،لذلك واظبت على القراءة لها طوال الفترة الماضية.
وللمصادفة أيضًا فقد كان لقائي الأول مع غسان الكاتب المناضل من خلال كتابه «رجال في الشمس»، في فترة قريبة من تعرفي على غادة، لكنني انقطعت فترة طويلة عن مؤلفاته حتى عدت وقرأت له بعد عدة سنوات «عائد إلى حيفا» و«أرض البرتقال الحزين»، «رجال في الشمس»، «القميص المسروق» وعشرات القصص القصيرة. أدركت وقتها ما فاتني طوال فترة قراءتي الماضية وعرفت ماذا يعني اسم غسان وما يثيره في النفس هذا البطل الشهيد المناضل. وعرفت أن كلا الكاتبين من طينة الكبار الذي لا يساوم أبدًا على ما يؤمن به.
مقدمة طويلة أشعرتكم بالملل، أليس كذلك؟
لقد كان ذلك تمهيدًا للوصول إلى الكتاب الذي يشكل حلقة الوصل بيننا نحن الثلاثة، القارئ وغادة وغسان. سمعت عن الكتاب صدفة في إحدى المرات لكنني لم أعره أي انتباه فأنا لست من هواة القراءات الرومانسية. هكذا خيل إليَّ عندما سمعت عن رسائل متبادلة بين الكاتبين، ومع مرور الأيام كنت أقرأ بعض الاقتباسات من هذا الكتاب بين الفينة والأخرى، ولم يخلو ذلك دائمًا من اعتراضات القراء على الكتاب وسخطهم على غادة لنشرها الرسائل، وقد زاد ذلك من فضولي لقراءته، فقمت بتنزيله إلكترونيًا لكنني سرعان ما تخليت عن الفكرة بعد بضع صفحات فهذا حالي مع الكتب التي تسترعي انتباهي وأحس بأنها تستحق عناء البحث عنها وقررت أن أقرأه ورقيًا.
ومرة أخرى وقبل أن أبدأ بقراءة الكتاب الذي استعرته من مكتبة الجامعة وجدته مليئًا بالتعليقات بأقلام رصاص وحبر ملون إذ حاصرتني تعليقات من قرأوا الكتاب قبلي ومعظمهم قد صب سخطه وأنزل اللعنات على غادة، ومنهم من ترك استفسارات طلب ممن يقرؤون الكتاب من بعده الإجابة عليها، لقد قرأت تعليقات يصل عمرها إلى 15 عامًا! ولاحظت أن أغلب المعلقات فتيات يلمن غادة على جفائها ، فتحت أول صفحة وأخذت نفسًا عميقًا قبل القراءة فقد علمت أن عاصفة بانتظاري وليس أدل على ذلك من تعليقات من سبقوني إلى قراءته.
سأبدأ من مقولة غسان – وما أكثر مقولاته التي أصابت كبد الحقيقة في هذه الرسائل:
إن هذه العبارة تختصر الكثير من الجدال والاستفهام عن محاولات غسان العابثة والمتكررة للظفر بقلب غادة، لم ييأس من حبها حتى آخر لحظة فقد كان يعلم هذه الحقيقة ولذلك لم ينفك يرسل الرسائل التي تحمل أشواقه ولوعة قلبها إليها.
الرسائل من بيروت ومن غزة ومن القاهرة كلها تحج إلى مكان واحد محملة بالحب الصادق الذي يفيض منها إلى عنوان غادة في لندن. إنه الحب الصادق، وكما عهدنا غسان بطلا لا يساوم على قضيته الأم فلسطين، فهو لم يساوم على حبه لغادة إطلاقا:
أجل لقد كان شقيًا، ومن يقرأ الرسائل سيدرك شقاوته التي كان سببها ضياع فلسطين وزاد من عمقها رفض غادة له، يقول في إحدى الرسائل:
حتى الأبطال يظلون بشرًا في النهاية، وأبطال من طينة غسان أرهقتهم الحياة مبكرًا وحملوا هموم أمة كاملةعلى كاهلهم، لذلك كان يبحث عن الملجأ الذي يستند إليه ووجده في غادة:
في الرسائل خليط عجيب من المشاعر، حزن غسان لعدم رد غادة على رسالة ما، أو بعدها عنه، غضب وإحباط لصدها المتكرر له، حزن على فراقها، وسعادة غسان برد من كلمتين لغادة وصله ويقول: «شو هالبرد!»، كل شيء في الرسائل متغير وليس ثابتا فيها إلا حبه وعذابه في آن واحد، يضيف غسان في إحدى الرسائل:
غسان الكاتب والرسام، المناضل والشهيد، رحل جريحًا بجرح اعترف هو بنفسه أن لا طاقة له برتقه:
هل أستطيع أن أطلق على ما حدث لغسان: هزيمة؟ لا.. لا أستطيع قول ذلك، لقد كان حبه نقيًا ورائعًا وحكيمًا وشرسًا ومتفجرًا في آن واحد، لقد كان الشهيد يمتلك قلبًا كبيرًا ينبض بالحب الذي لا سبيل له لتزييفه، سبب له هذا الجرح الذي لم يقدر على رتقه أسًى عظيمًا وجعله يقول لغادة: «إن أسعدنا هو أبرعنا في التزوير، أكثرنا قدرة على الغوص في بحر الأقنعة».
وبالرغم من جراحه الثخينة واصل غسان مسيرة الكفاح، وعلّم كل الأجيال اللاحقة ما معنى أن يكون السلاح قلما، وأوفى بعهده الذي قطعه لغادة في رسالة من الرسائل:
استشهد غسان في الثامن من يوليو/تموز عام 1972 في بيروت، وبالرغم من اغتياله فإن نضاله ما زال إلهامًا لكل الأجيال اللاحقة، ويبدو لي أن ما قاله في رسائله لغادة: «ويبدو أن هناك رجالا لا يمكن قتلهم إلا من الداخل» قد كان نبوؤته لنفسه.
أما غادة السمان، فلا يملك أي أقارئ إلا أن يشعر بالحنق ولو قليلا تجاه العذاب الذي تسببت به لغسان دون أن يرفَّ لها جفن لذلك، لكن مهلًا هل حقا ذلك؟ هل صحيح أنها لم تجبه؟ ماذا كان ردها على كل تلك الرسائل؟
للأسف فإن الكتاب لم يتضمن رسائلها ولذلك وصلنا فقط نصف الصورة، فقط تلك التي أرادت غادة إيصالها لنا. لقد قدمت الكتاب ببراعة وبحنكة أدبية أشهد لها بالإتقان، وقد بررت نشر الرسائل بأن ذلك كان وصية غسان بأن تنشر رسائلهما، ولأنها أرادت أن تتحدى وتقطع كل حقول الألغام المزروعة أمام القارئ، وتقدم له بنفسها لونًا نادرًا في أدبنا العربي هو أدب المراسلات، ولأنها كما تقول:
«تريد أن تطلق غسان كرصاصة على ذاكرة النسيان العربية، ولأنها تريد أن تطلع أجيالنا على صورة لحياة شهيد حقيقي بعيدًا عن أقنعة التزوير، لأن ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم صورة المناضل في صورة (السوبر مان) ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة. وفي رسائل غسان صورة المناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية».
كل هذه المقدمات لم تشفع لها أمام جمهور غسان العريض الذي قال بأنها فعلت ذلك دون أدنى مراعاة لمشاعر زوجة وأولاد غسان، وبأن لها من الأسباب أيضًا ما دعاها لذلك، وهي لم تنكر ذلك منذ اللحظة التي نشرت بها الكتاب؛ لم تتبرأ من عامل نرجسي لا يستهان به وهو: «الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه، وأعتقد أن كل أنثى تزهو (ولو سرًّا) بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوي».
لست ناقمًا على غادة بالرغم أنني ألومها بعدم نشرها رسائلها وتسرعها لنشر رسائل غسان قبل أن تتأكد من وجود رسائله أيضا لتنشرهما سويا كما كانت رغبة غسان، لكنني في نفس الوقت أحيي جرأتها التي أتاحت لنا كقراء الاطلاع على جانب آخر من شخصية غسان لم يكن ليقدر لنا أن نراه لولاها، غسان العاشق الذي يتفجر حبا، إنها الصورة الأخرى للبطل الثائر والشهيد المناضل.
لن أحقد على غادة وسأغفر لها/ وسأقتبس للمرة الأخيرة من رسائل غسان لها: