المستشرقون والتصوف الإسلامي في البحرين
كانت محاضرتي في النادي الثقافي بسلطنة عمان، عن المستشرقين والتصوف الإسلامي، وكيف اكتشف من عرّفتُ بهم من المستشرقين الوجه الجمالي للإسلام، وظلّوا يبحثون عنه طيلة حياتهم، بعضهم لاحقًا تحوّل إلى دين الإسلام وظلّ خادمًا كما كان من قبل لهذا الدين، والبعض الآخر اكتفى بالخدمة غير منتمٍ إلى الدّيانة، ضربت مثلاً على ذلك بـ «أنّا ماري شيمل» و«إيفا ميروفيتش». كان الحضور تائقًا للمعرفة، وظلّت الأسئلة والحوارات مستمرة لفترة طويلة، من العراق وسوريا وأغلب الحضور كان من أهل السلطنة، يبدو أن الحديث عن التصوف يندر في هذا المكان، وإن خصصت مجلة الفلق التي يديرها الأستاذ المعتصم البهلاني حوارًا مطوّلاً عن التصوّف في عُمان كان من أمتع الملفات التي قرأتها على صفحاتها.
طلبَ إليّ «عليُّ البزّاز» وهو فنان بحريني ناشط في العمل الثقافي أن ألقي محاضرة في (مشق) وهو مكان يشرف عليه يستضيف بعض الفعاليات الثقافية وورش العمل، كنت قد ألقيت أربع محاضرات عن الرومي والمولوية وشمس تبريزي طيلة أربعة أيام خلت، فبدا لي أن أتحدث عن «فوائح الجمال وفواتح الجلال» أقتطف من ثمار التصوف جزءًا منها وأعرضه متمثلاً بعنوان كتاب «نجم الدّين كُبرى» لكن رغب الناس أكثر في الحديث عن المستشرقين فالتصوف فكان ما طلبوا.
عرفني البزّاز من خلال كتابي «معنى أن تكون صوفيًّا» فقد وفّرت الأستاذة حصّة عددًا من النسخ هناك كما وفّرت نسخًا من كتابي عن الرومي «الرومي شرقًا وغربًا» و «مولانا جلال الدين الرومي في الهند» الذي حضرت حفل توقيعه في القاهرة، وقد تفضلت بتنظيم برنامج المحاضرات في البحرين، ويمكن للقارئ أن يتعرّف من خلال هذا التقرير المفصّل على ما تحدثنا عنه وناقشناه في هذا البرنامج.
تعلّمت من المحاضرات التي ألقيتها أن تكون مساحة الأسئلة والنقاش أكبر من إلقاء كلمات قد لا يهتم الحاضر بها ولا تفيده أكثر، جرى الحديث عن أن المستشرقين أصناف عدّة، وبعيدًا عما يقوله «إدوارد سعيد» عن الاستشراق أو ما قاله «هادي العلوي» أو «سيد حسين نصر» تحدّثت عن المستشرقين من واقع كتاباتهم عن التصوّف. وبطبيعة الحال جرى ذِكرُ المبشّر «صموئيل زويمر» الذي عُرف في مصر والبحرين منذ وقتٍ مبكّر، وسجّلت المجلات والدوريات المصرية جزءًا من أحاديثه حول الإسلام والمسلمين، وقام بعض مشايخ الأزهر بالرد عليه، سواء في سلسلة من المقالات أو الرسائل والكتب.
كنتُ قبل فترة قرأت تقريرًا عن كتاب للمؤلف البحريني «حمد عبد الله»، وقد حرصتُ على اقتناء نسخة من كتابه عن «صمؤيل زويمر [1] لقاء المسيحية بالإسلام» لكن لم يتيسر لي ذلك، شجعني على البحث عنه محاضرة ألقاها المؤلف في جمعية تاريخ وآثار البحرين بدا فيها مُلمًّا بموضوعه إلمامًا جيّدًا، وقد أثنى على كتابه غير واحد من القراء في البحرين، وأثنى على جهده في الكتابة بشكل عام الأستاذ «إبراهيم بشمي» حينما تحدثنا عنه.
يذكّرني زويمر بالشيخ «أبي إسحاق الحويني» في إخلاصه لخطابه، وإن رأيت أن المبشّر أكثر جلدًا وصبرا وحركة من أجل إنجاح مشروعه الدعوي. صورة زويمر في مصر سلبية للغاية، فما أقرؤه عنه منذ بدايات الطلب لا يتعدى الشتم والتحذير، ولعل ما كُتب في الموسوعة الميسرة للأديان والأحزاب المعاصرة الصادرة في السعودية يعود في أغلبه إلى ما كتبته المصادر المصرية القديمة فصلة الدكتور «مانع بن حماد الجهني» المشرف على الموسوعة بالأستاذ «حمدي عبيد المصري» صلة وطيدة وأذكر من حديثي مع الشيخ عبيد في عام 2004 في هيئة الإغاثة بمدينة نصر أنه كتب بعض المواد في هذه الموسوعة التي أصبحت مرجعًا للكثيرين اليوم، وقد خالفته في كثير من آرائه وأذكر منها حديثه عن الدكتور «محمد عمارة» و«محمد سليم العوّا» باعتبارهما من المعتزلة الجدد! لعل الشيخ عبيد اليوم لم يعد يرضى عن كثير مما كتبه في الموسوعة!
اعتمد حمد عبد الله في حديثه عن التبشير و زويمر كامتداد واستمرار لجيل من المبشرين الكبار على الموسوعة السابقة، قد تبدو هذه نقطة ضعف في الكتابة، خاصة إذا قارنّا حديثه عن «ريموند لول» بما كُتب عن هذه الشخصية في الأدبيات المصرية والمغربية، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض المراجع التي تفيد في القراءة عن لول باللغة العربية، فما كتبه الأستاذ القدير «الطّاهر مكّي» في إصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط يمكن أن يعطينا نبذة وافية عنه، وما ترجمته إلى العربية! أنّا ماري شيمل من بحث أستاذها عن لول وتأثره بالتصوف الإسلامي مفيد أيضًا، وما قدّمه الأستاذ «عبد الواحد العسري» في كتابه عن الاستشراق الإسباني مفيد في تتبع تاريخ لول، ولعل ما سجله الأستاذ محمد بلال أشمل في كتابه عن صورة النبي مفيد للغاية في كيفية تصور لول للإسلام، وتفيد كثيرًا المادة المترجمة من قِبل الأستاذ «عبد السلام حيدر» في كتاب «فكّر بنفسك عشرون تطبيقًا للفلسفة» وإن كُتبت في أصلها للأطفال في الخارج.
زويمر طبيب أم قسّ أم مستشرق؟ ربما لم يكن زويمر يعبأ بتوصيفه، الأهم بالنسبة له أن يدخل أهل جزيرة العرب في دين المسيح أفواجًا، وكما هاجرت عائلته من فرنسا إلى هولندا إلى أمريكا، انتقل من جدّة إلى اليمن إلى بغداد إلى بيروت ومصر ومسقط والبحرين، وكما بشر أغلب إخوته بالديانة المسيحية بدأ زويمر رحلته للدعوة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ونطق بلغة القرآن، وكتب عن القرآن، وعن المسيح كما يراه المسلمون، ولعل كتابه المعنون بـ «الغواص واللآلئ» في ترجمة حجة الإسلام الغزالي أقرب مؤلفاته التي تعبّر عن رؤيته للتصوف الإسلامي، إذ أقام تصوف الغزالي على هدي من تعاليم السيد المسيح وأنبياء العهد القديم، وقارن فيه بين ما رواه الغزّالي من أقوال منسوبة للمسيح وما ورد في الكتاب المقدّس بعهديه، ورأى أنه تلميذ أمين لما ورد في الإنجيل وبعض الرسائل، معتمدًا على دراسات الآباء والمستشرقين السابقين من أمثال: «كريستيان سنوك هرخرونيه»، و«دانكن بلاك ماكدونلد»، ومرجليوث، ونولدكه، وغيرهم، متناسيًا ما كتبه الغزالي في نقض المسيحية في كتابه «الرد الجميل بألوهية عيسى بصريح الإنجيل». ورغم حملة الدكتور زكي مبارك على الغزالي في كتابه عن «الأخلاق عند الغزالي» نصّ على عدم اعتبارية آراء زويمر حول تصوفه، قائلا: «ولا عبرة بما كتبه الدكتور زويمر في هذا الموضوع. لأن الدكتور زويمر يريد أن ينسب هداية الغزالي إلى مطالعته للإنجيل، مع أن الغزالي لم يضل إلا حين تعلّق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل!»
آثرت أن ألتقط صورة وأنا في مستشفى الإرسالية الأمريكية في البحرين، فالصور المعلقة على الحائط لزويمر كثيرة، وبأحجام عدّة تدلّ على الحفاوة بعمله هناك، كما تدل عند من ينظر للأمور من خلال الظاهر بالإيمان بالتعددية الدينية والتسامح مع الآخر! وكما قلت تُبرهن على أن صورة زويمر هناك تختلف عن الصورة في مصر، ويبقى بالنسبة لي من الهام جدًّا للمهتم بالتبشير في البحرين ودول الخليج بشكل عام أن يطالع كتاب حمد عبد الله المؤلف في 500 صفحة موثقًا بالصور لدور زويمر في البحرين.
[1] : في كتابه «الخروج من العتمة: خمسون عامًا لاستشراف الأفق»، ينقل عبد الحميد المحادين عن مهدي عبد الله – وهو من أكثر الكتّاب حفاوة بمؤلف حمد عبد الله؛ إذ نشر سيرة زويمر في أربعة مقالات متتالية في جريدة الخليج – أن زويمر وصل إلى البحرين عام 1893م، وبدأ يمارس مع طاقمه التحرك في المنامة بين عامة الناس، ومن البحرين ذهب إلى عُمان، وقد وجد البحرين أنسب موقع ليؤسس فيها مركز الخليج للتبشير، وأسس مدرسة تبشيرية وحانوتًا لبيع الكتب المسيحية، وتمّ بناء مركز للإرسالية عام 1902م وقد تبنّى زويمر عقد مؤتمرات تبشيرية، فعقد مؤتمر القاهرة عام 1906م برئاسته، ومؤتمر انديزج سنة 1910م ومؤتمر لكهنو بالهند عام 1911م برئاسته أيضًا، وهو المحرر الأول لمجلة العالم الإسلامي بالإنجليزية.