أن تكون إنسانا: مقابلة مع طلال أسد
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
طلال أسد 1932 أستاذ ٌجامعيٌّ بارزٌ مُختصٌّ في الأنثروبولوجيا في مركز الدِّراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، كان لأعماله أثر رئيسي في دراسة الإسلام بقدر أثرها في فهم المسلمين الذاتيِّ لماهية الإسلام وما يعنيه كونك مسلمًا.
يُناقش أسد في هذه المُقابلة مفهومي «الإنسانية والحضارة» ضمن المركزية الأوروبية والإسلاموفوبيا المُتنامية في أوروبا وأمريكا إضافة للعنف الذي ترتكبه الدول الغربية دون أيِّ مُسائلة لتفلت من العقوبة، تحديدًا أمريكا وما ارتكبته وما زالت ترتكبه.
تجدُ الإنسانية نفسها على شفا كارثةٍ من صُنعها هي، كما تتزامن مع خطر انهيارٍ بيئي تام و انقراض سادس عظيم (نشر مجموعةٌ من العلماء تقريرًا في حزيران يتوقَّعون فيه انقراض بعض الأنواع المُهددة بالانقراض نظرًا للمُعدَّلات غير المسبوقة لتناقصها؛ إذ يدخل الكوكب هذه المرحلة نتيجة لما يتسبب به الإنسان من كوارث)، نجد الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى أنَّ مفهوم الاختلاف والمُقابلة سواء كان في الطبيعة أو بين البشر يجب أن يتحوَّل لإدراكٍ للوحدة الجوهرية بيننا، فما هو رأيك في هذا؟
بالرجوع لإنجازات العالم الحديث العظيمة تحديدًا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كان الناس يكتبون عن الإنجازات العظيمة «للحضارة الأوروبية»، لقد كان الجميع يتحدَّث في ذلك الوقت على ما أذكر عن الحضارة الغربية وعن «أزمة الحضارة الأوروبية» اللتين عايشهما العالم من خلال هزيمة الفاشيّة الأوروبية، إن تسمياتٍ مثل «الحضارة الأوروبية» و «الحضارة الحديثة» أو ببساطة «الحضارة» التي من الممكن استخدامها واحدة بدل الأخرى، ، قد خلقت تمايزا بين الجزء الأكثر تقدُّمًا من «الإنسانية» والأجزاء الأخرى التي لم تصل لذلك المستوى، إن هذه قضيةٌ قديمةٌ بطبيعة الحال سُردت كثيرًا وانتُقِدت في بعض الأحيان؛ لكنها تحوي تضمينات من قبيل: «نحن قادرون على تحقيق هذه الأمور الرائعة والدِّفاع عن هذه القيم الرائعة، لا أنتم».
كان أحد أصدقائي كلَّما واجهنا شيئًا تقنيًا مُعقَّدًا غالبًا ما يقول مازحًا: «أترى كم أنَّ الرجل الأبيض ذكي!» ومنذ ذلك الحين غالبًا ما استعملت عبارته هذه، وجهة نظري ببساطة: إنَّ هذا الموقف كان يُعدّ موقفًا شائعًا وادِّعاء جادًّا في أواخر القرن التاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين، بل حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، إنَّ قضية التَّفوّق العرقي الأوروبِّي كانت عادةً ما ترتبط بالمطالبة بالإقامة في الحضارة الأوروبية، التي كانت «الأعلى» بطبيعة الحال.
قد تراكمت أزماتٌ عالمية مُختلفة على مدى العقود الأخيرة؛ منها على سبيل المثال: التغيّر المناخي، وخطر نشوب الحرب النَّووية، ومخاطر الطَّاقة النَّووية كذلك، وعدم اتِّزان النِّظام المالي العالمي… وغيرها؛ فأصبحنا نسمع البعض يقول أشياء من قبيل «انظر ما فعلت البشرية»، وقد برز الآن وعلى نحوٍ مُفاجئ موضوع «الإنسانية، بينما كان الأوروبييون الأمريكيون أصلا يطالبون بالالتفات «إلى إنجازات الغرب المُذهلة»؛ لأنك إذا أعدت قراءة الكتابات الأولى فإنَّك ستجد الجميع يتكلمون بلا نهاية إنجازات عن الغرب، أو بشكل أدقّ فإن المُفكرين والسياسيين والقوى الاستعمارية هم الذين كانوا يتحدَّثون عن الإنجازات العظيمة للحضارة الأوروبية الغربية، ويبدو أن هذه الأقوال منطقيةً إلى حدٍّ ما، حتى أن العديد من المُصلحين في العالم الثالث قد تحدثوا بالطريقة ذاتها لأنهم قد تبنوا فكرة كون المعرفة العلمية المُتنامية والقوة العسكرية مؤشرات غنى أخلاقي، وجهة نظري ببساطة أنه حين يتعلق الأمر بكوارث عالمية فإنها حينئذٍ مُرتبطة بالإنسانية جمعاء، لنتفاجأ بإدعاء مسؤولية الإنسانية شاملةً بلا شك، القرويين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وفقراء المناطق الحضرية!
لكن في حقيقة الأمر: أنَّ الغربَ؛ أي: العالم المُتحضِّر خاصَّةً هو المسؤولُ عن ذلك!
نعم، يدَّعي الغربُ تفرُّده من دون الإنسانية جمعاء بامتلاكه لكلِّ الأشياء الرائعة، أو ما يظنُّه الناس رائعًا، لكن هذا الطَّرف من الإنسانية تحديدًا؛ أي: الغرب أو الغرب المسيحي قادرٌ على التَّنصُّل بشكلٍ فريدٍ من المسؤولية الواقعة على عاتقه تجاه ما يلوح في الأفق من كوارث تُعزى إليه، لكن هذه القضية لم تحظَ بالاهتمام ذاته الذي حظيت به قضية الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا، فبالرغم من أنَّ نسبة القتل الجماعي كانت كبيرةً جدًا؛ إلا أنَّ الإبادة لم تُمثِّل نقطة تحوُّل فاصلة في التاريخ البشري؛ إنَّ إبادة يهود أوروبا لا تتعلق بطفرةٍ علمية بل بالحشد القسري لأعدادٍ كبيرةٍ من البشر التي كان من الواجب القضاء عليها لأسبابٍ أيدولوجية. كان الانفجار النووي كارثة أخرى؛ إذ تسبب بقتلٍ جماعيٍّ للأطفال والنِّساء والرجال ممن كانوا يعيشون حياةً عاديةً في مدينةٍ عادية، كما لم تقتصر إبادته على البشر فقد طال الحيوانات أيضًا، دُمِّر هذا كلُّه بضربةٍ واحدة، لكن ذلك السلاح قد كان بدائيًا مُقارنةً بما هو موجود حاليًا، وافتُتِح بذلك عصرٌ جديد أكثر خطورة في تاريخ البشرية، لكن هذا لم يكن إنجازًا للبشرية بل إنجازًا لأشخاصٍ مُعيَّنين مُسلَّحين بأسلحة تكنولوجية وأيدولوجية.
فقد تمَّ ذلك بحجة الحفاظ على حياة ملايين الأمريكيين، وهو ادعاء ما زال قائمًا بالمناسبة، لكن ما تم فعلا حسب اعتراف عددٍ ممن شاركوا في صنع القرار بأنَّ ما حدث لم يكن لسببٍ إنساني بل لسببٍ سياسيٍّ الغرض منه إظهار القوَّة الأمريكية للاتحاد السُّوفيتي، وجهة نظري ببساطة أن من الجيد جدًا الحديث عن إنجازات الغرب في العلم والتكنولوجيا وعن القيم الغربية الأخلاقية الفريدة؛ فالغرب هو المسؤول عن الاكتشافات العلمية واختراع المُحرك البُخاري والمذياع والكهرباء والأدوية الحديثة والحكومة الديموقراطية والكونية، أما حينما يتعلق الأمر بالاحتمالات المُرَوّعة التي تلوح في الأفق فإنَّ الناس يدَّعون حينها أنَّهم ليسوا غربيين فقط بل جزءٌ من الإنسانية في الأساس، وبالتالي فإنَّ الطرف المسؤول عن المستقبل المُظلم قد تغيَّر ببساطة، والأهم من ذلك ربما هو وجود إدراكٍ بسيط بأنَّ العالم الحديث الذي أوجده الغرب الرأسمالي، بغض النظر عن إنجازاته، في حدَّ ذاته مليء باحتمالاتٍ مُرعبة؛ لا أعني هنا التغيُّر المناخي وخطر نشوب الحرب النووية فقط.
قد نظَّم التجمُّع العالمي للإنسانية (الذي تبين لاحقًا أنه لم يكن ناجحًا إلى حدٍ بعيد) عشرين مُظاهرة خارجَ المساجد في جميع أنحاء أمريكا في التاسع والعاشر من تشرين الأول، يُعدّ جون ريتزايمر أحد الشخصيات الرئيسية التي تقف خلف تلك المُظاهرات، جون جندي سابق في المشاة البحرية الأمريكي، والذي قاد «مسابقة رسم محمد» خارج مسجد فينيكس في مايو/أيار. يبدو أنَّ الإسلام والمسلمين أصبحوا يمثلون كلَّ ما هو «لاإنساني» في الغرب، ذلك بالاستناد لعدَّة أحداثٍ؛ منها على سبيل المثال: المظاهرة القويَّة ذات المليوني متظاهر في فرنسا بعد أحداث قتل شارلي أبدو في الثاني من كانون الثاني، التي وصفها عالم الإجتماع «إيمانويل تود» بأنها «إظهارٌ مُشين لهيمنة وتحيّز وإسلاموفوبيا الطبقة الوسطى» والتَّصريح الصَّادم لكاتي هوبكينز في نيسان حين وصفت اللاجئين والمُهاجرين السوريين بأنَّهم »صراصير» يجب محوها، بالإضافة إلى المظاهرات المُعادية للإسلام التي نظَّمتها «استعادة أستراليا» في ميلبورن في تموز.تتبعتَ في مقالك الأخير «تأملات حول العنف والقانون والإنسانية» جينالوجيا مفهوم الإنسانية، أحد الأمور التي أشرت إليها هي الطريقة التي أصبحت بها «الإنسانية» مُرادفًا علمانيا لـ «المسيحية» خلال الحرب العالمية الثانية، كما أشرت أيضًا إلى أنَّ «فكرة الاختلاف قائمةٌ على مفهوم الإنسان»، باعتقادك ما الذي تتوقع أن يتمَّ دمجه تمامًا من الإسلام/المسلمين ضمن مفهوم «الإنسانية» الأوروبي الأمريكي؟ وهل هذا ممكن؟ أو حتى مرغوبٌ فيه؟
إنَّ مفهوم الحضارة الأوروبية باعتبارها أكثر حضارة تقدمًا وبراعةً وإنتاجًا قد عرفها العالم يفترض بالفعل تسلسلا هرميًا، لحدِّ أنَّ العديدَ من الأشخاص في الماضي يدينون بإنجازاتِ هذه الحضارة للمسيحية، وربما ما يزال البعض يعتقد ذلك حاليًا، لكن ما لدينا ليس إلا بناء وهميًا ليس حقيقيًا، لكن هذا هو بالتَّأكيد ما يعتقده الناس بخصوص «الإنسانية» في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ لأنَّ هذا ما قدَّمه الطَّرفُ الأكثر استشرافًا للمُستقبل والأكثر أخلاقية، وهذا يعني ضمنًا وجود علاقةٍ هرميَّة، ربما يكون هناك منطقٌ مُنحرفٌ نوعًا ما في الرغبة في مشاركة الإنسانية جمعاء في الكوارث التي تُهدد العالم بحجة أننا «كلنا واحد»، إن الخطر يُهدد البشر حميعًا بغض النظر عن اختلافاتهم، بل إنَّ الحيوانات أيضًا مُهدَّدةٌ بالإبادة؛ لذا فإنَّ «الإنسانية» ليست التَّصنيف المُناسب في هذه الحالة، ومع ذلك فإنَّ إدراج الحيوانات ككائناتِ مُعرَّضة للإبادة يؤكِّد مدى سخف عدّ «الإنسانية» مُمثلاً للكارثة العالمية.
لست مُتأكدًا من جدوى مفهوم «الإنسانية» أخلاقيًا وسياسيًا؛ لأنَّني غيرُ مُقتنعٍ بالحاجة لوجودِ نظريةٍ أو حتى مفهومٍ مُحدَّدٍ و واضحٍ للإنسانية ليكون المرء قادرًا على التَّصرف بإنسانية؛ لأنَّ التَّصرف الإنساني يعتمد على تعلُّم بعض أشكال السلوك، واكتساب الوعي ضمن أساليب حياة مُتنوعة، أعتقد أنَّ أحد مشاكل الأكاديمين هي أنهَّم بل أننا في كثيرٍ من الأحيان نتوهَّمُ أنَّ التَّفسير النَّظري لمفهومٍ ما هو ضرورةٌ دومًا من أجل السلوك الأخلاقي، لكنني لا أعتقد ذلك؛ لأنَّنا لم ننحج في امتلاك القدرة على التَّحكم والسَّيطرة بالطريقة التي تسير بها الأمور سواء أكان ذلك في الحروب أم في التنمية الطويلة الأجل للحياة الإجتماعية عامةً، وبالتالي فإنَّ المؤرِّخين قد فسَّروا كيف حدثت الحرب العالمية كنتيجةٍ لسلسلةٍ من الحوادث وكيف أنَّ الحرب ذاتها في النهاية قد ساهمت في إيجاد عالمٍ لم يسعَ له أحدٌ في حقيقة الأمر.
لا أعرف سؤالا ليست له إلا إجابةً واحدة، كما هو حال سؤال فيما إذا كان يجب على المسلمين الاندماج بالإنسانية أم لا؟ أعتقد أنَّه من الواضح أنَّ المسلمين في الوقت الراهن في وضعٍ صعبٍ للغاية، أو لنقل إنَّ بعض المسلمين في وضعٍ صعب، لكن لا يُمكنني أن أدَّعي أنَّني في وضعٍ صعب، لا يروقني ما أراه وأسمعه وأقرأه، لكن هذا لا يعني أن أقول إنَّني في مثل وضع مُسلمٍ مُهاجر إلى أوروبا أو أمريكا، الذي لا يملك إلا القليل من الموارد والذي عليه أن يواجه التمييز والعداء والعنف؛ إذ إنَّ الوجود الحاد للإسلاموفوبيا في «الجزء المُتحضر من الإنسانية» هو حقيقةٌ لا مناص منها، كما أنَّ الإسلاموفوبيا أكثر أهمية من معاداة السَّامية في الوقت الحاضر، ربما ما تزال مُعاداةً السَّامية موجودةً، لكنَّني لا أعتقد أنَّها ما زالت تُشكِّل تهديدًا حقيقيًا بعد الآن، كما كانت في أوروبا في العهد النازي أو حتى في أمريكا الشمالية خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، بينما الإسلاموفوبيا تُشكِّل تهديدًا حقيقيًا، فالعنف المُستخدم ضد المُسلمين في الغرب بشكلٍ منهجيٍّ عنفٌ لا يُمكن تصوُّره، وهو لا يتمثَّل فقط بالطَّريقة التي تُعامِل بها المجر اللاجئين السوريين ولا بما يفعله النَّازيُّون الجُدد في الدُّول الأوروبية.
بالعودة لسؤالك: فإنَّني أعتقد أنَّ المسلمين من دولٍ وطبقاتٍ اجتماعيةٍ مُختلفةٍ يواجهون ظروفًا ومشاكلٍ مُختلفة؛ فالشَّخص المُتعلِّم سيوضع في مكانةٍ مُختلفة بالمُقارنة مع غير المُتعلِّم الذي وصل للتو لدولةٍ بالكاد يستطيع أن يتكلَّم لغتها، لا أعتقد أنَّ الجميع يتشاركون الظُّروفَ ذاتها، وبالتالي يبدو من المنطقي أن نتحدَّث عن الإسلاموفوبيا عامةً وتحديدًا بسبب العداء والكراهية الموجَّهان ضدَّ هؤلاء الأجانب المُتخيَّل اندماجُهم ضمن أوروبا.
اعتدت أن أُدرِّس بعضَ المواد في الشَّرق الأوسط حين كنت في إنجلترا، كنت عادةً ما أبدأ بالإشارة إلى أنَّ أوروبا قبل قرونٍ مضت في العصور الوسطى تحديدًا قد كانت تضمُّ شتَّى الناس بما في ذلك أشخاصًا من دياناتٍ مُختلفة قبل أن تُهيمن المسيحية على جُل السكان، وبالتَّالي فإنَّ السُّؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا هو: أين اختفت هذه التَّعددية؟ لقد قضى عليها ظهورُ الدَّولة الحديثة، بينما ما يزال في الشرق الأوسط إلى حدٍ كبير عددٌ من الديانات والأعراق والتقاليد، لكننا منحدرون بنفس الاتجاه الأوروبي أيضًا، لهذا أعتقد أنَّ داعش حركة حديثة لا تُمثِّل نموذجًا للتُّراث الإسلامي بالرغم من استدعائها لمصطلح الخلافة، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ سؤال: إلى أيِّ مدى يُمكن للدولة الحديثة استيعاب ذلك؛ هو سؤالٌ مفتوح.
هذا يستدعي بالمناسبة شيئًا غالبًا ما أثار حفيظتي: يمكن أن يعترف المرء بأن ما تقوم به الدولة الإسلامية وحشيٌ للغاية، تمامًا مثل ما تفعله الحكومة السُّعودية في اليمن وما تفعله الحكومة المصرية في مصر، لكن الإعلام الغربي يخبرنا أو حتى يفترض مجرد افتراضٍ أنَّ ما تقوم به الدولة الإسلامية أسوأ بكثير مما تقوم به أمريكا أو أوروبا؛ إذ لا سبيل لمُقارنة الشر، ولا أعلم إن كنتَ على علمٍ بمصير ذلك الرجل المسكين، ريتشارد جلوسب في أوكلاهوما الذي حُكم عليه بالإعدام نيابةٍ عن شخص آخر، فقد ادَّعى القاتل الحقيقي أنَّه قد حصل على مالٍ ووعدٍ بالعمل من قِبل جلوسب إذا قام بعملية القتل، فجنَّب نفسه بذلك عقوبة القتل، ثم أُدرج جلوسب ضمن قائمة المحكومين بالإعدام الذين ينتظرون تنفيذ الحكم فما زال ينتظر تنفيذ الحكم منذ إدانته أي قبل ما يقارب 20 عامًا، لقد استشهدت بهذ القصة لأبيِّن أنَّ عقوبة الإعدام هنا قاسيةٌ حالها حال قطع الرؤوس أمام العامة في المملكة العربية السعودية؛ إذ إنَّني لا أعدَّ قطع الرؤوس أسوأ من بقائهم معزولين في حالة اللايقين لسنواتٍ لا نهاية لها بانتظار تنفيذ الحكم، ليتم حقنهم أخيرًا بعقاقير مُميتة غالبًا ما تتسبب بمُعاناة شديدةٍ قبل موتهم، هذه القسوة المُفرطة تعتمد على حقيقة كونك تقتل شخصًا مُتعمِّدًا وتُعدّ مراسم ذلك القتل بناءً على أنَّ الدولة قد قررت أن قتلهم يجب أن يكون قانونيًا.
إن إدانة الفظائع التي تحدث في العالم الإسلامي لا تقتضي أنَّ ما يحدث في حالاتٍ مُماثلة في الغرب هو أكثر أخلاقية، بل إنَّها تبدو لي بنفس الفظاعة وربما أسوأ، ويعتقد السعوديون أنَّ القتل أمام العامة هوالطريقة المثلى لمُعاقبة القاتل، فليس لديهم أيُّ تصوُّرٍ عن مدى وحشية وعدم إنسانية ذلك الفعل، الليبراليون في الغرب يقولون إنَّهم يؤمنون بالإنسانية، حتى تجاه المجرمين الواجب معاقبتهم؛ لكن بمجرد تقبُّل فكرة العقاب فإنَّك تضع نفسك على مُنحدرٍ زلق؛ إذ يحقُّ لأقارب المقتول في العديد من الولايات الأمريكية أن يشهدوا إعدام القاتل فيشعرون بالرِّضى لأنهم بذلك قد انتقموا من القاتل. إن مَن يدَّعون الليبرالية غالبًا ما يجهلون ما يؤمنون به أو لا يُدركون على أية حال أنَّ ما يؤمنون به لا ينسجم مع ما يفعلونه أو يُفعل باسمهم؛ يعتقد أنصار الدولة الإسلامية أنَّ من حقِّهم أن يفعلوا تلك الفظائع لأنَّ من الواجب القضاء على غير المسلمين وهذا يشمل حتى مَن يعدّون أنفسهم مسلمين، لكن الغرب أيضًا يرتكب أفعالاً بالفظاعة ذاتها، فلا مجال للمفاضلة بينهما.
قد يكون من الجدير أن نتساءل: فيما إذا كان أولئك الذين يعلنون التزامهم بـ «الإنسانية» بوصفها القيمة التي تميزهم، بينما على النقيض من ذلك يرتكبون الفظائع تجاه البشر باسم الإنسانية يعانون من الفصام؟ فإذا كانوا كذلك فعلى الأقل حينها لن يعتقد الآخرون أن هنالك غرابة بقتل مَن نعتبرهم أبرياء.
أمَّا بالنسبة لسؤالك كيف يجب أن يتصرَّف المسلمون،إن على المسلمون على اختلافهم أن يطوِّروا استراتيجيات مُختلفة كلٌ حسب بلده، وذلك اعتمادًا على وضعهم؛ إذ لا يوجد إجابة واحدة كما أنَّه لا توجد صيغة واحدة لكلِّ المسلمين، وبالتالي فلا ينبغي أن ينعزل المسلمون عن البقية، أعتقد أن على المرء أن يندمج مع الآخرين أينما وُجد ليتصدُّوا معًا للظُّلم، وبعبارة أخرى ليتصدوا للظلم الواقع على غير المسلمين فضلا عن المسلمين؛ إذ يعاني الكثير من غير المسلمين كما هو حال الأفارقة الأميركيين الذين يواجهون شتى أشكال الحرمان والتمييز، أعتقد أنَّ من الواجب وجود حسٍّ بالتَّضامن وبإمكانية العمل سويًا، إمكانية العمل مع الفقراء الذين يعيشون ظروفًا مروّعة ومع العمال والمقهورين العاطلين عن العمل، وبالتالي فإن على المسلمين أن يتضامنوا معهم بقدر ما يستطيعون.
بعبارةٍ أخرى من المهم أن لا نطوِّق أنفسنا ونعزلها ضمن «مخيمات» محاولين بذلك حمايتها، كما فعلت الصهوينية حين اعتبرت ذلك حلا، فلديك دولتك الصغيرة المحمية بغض النظر عن التلكلفة الأخلاقية، وبما أن العالم يقف ضدك فإن من غير المُمكن أن تتجاهله، لكن بطبيعة الحال لن يجدي ذلك نفعًا إلا لو كانت الأطراف المُهمة والقوية في العالم في جانبك يقدمون لك المساعدة والحماية، تخيّل الصهاينة أن اليهود سيكونون بأمان داخل ذلك «المخيم»، أن تكون محميًا بهذه الطريقة أي أن تكون محميًا من قوة عُظمى وأن تعيش بالقرب من شريحة سكانية ثانوية من «غير الآدميين»، طريقة الحماية تلك كانت الطريقة المثالية للعقلية الفاشية، لكن على المرء أن يُدرك أنَّه يعيش مع الآخرين من حوله وأن ما يواجهونه من مشاكل لا يمكن أن تُحل من قبل طرفٍ واحد مُنعزل عن البقية، لكن هذا النَّموذج التَّضامني هو ما لا تستطيع الدولة الحديثة تقديمه.
إنَّ وائل حلاق مُحقٌ في ارتيابه بالدَّولة الحديثة، لكنَّني بالرغم من ذلك لستُ واثقًا من قدرة المواطنين المسلمين على تقديم نقدٍ أخلاقيٍّ فعليٍّ للدَّولة الحديثة مبنيٌّ على أُسس الشريعة، لا أظنُّنا قادرين على فعل ذلك؛ لأنَّني أعتقد أنَّ الدَّولة الحديثة بما هي عليه غيرُ قادرةٍ على الاستجابة لمثل هذا النوع من النَّقد كما قد أشار حلاق في كتابه الدولة المُستحيلة، أعتقد أنَّ الدَّولة الحديثة ما هي إلا وحشٌ مرتبطٌ ارتباطًا لا انفصام له بالنُّخبة الرأسمالية والاقتصاد السياسي العالمي، فالدَّولة الحديثة كيانٌ موجود إلا أنَّه مُتناقض ومُستحيل، لن يختفي في المُستقبل القريب، إنَّنا جميعًا قادرون على تخيُّل دولة رائعة من الناحية النَّظرية، لكن الوصول لتلك اليوتوبيا أو تحديد شكل الممارسة الفعلية لها هو أمرٌ مُختلفٌ تمامًا.
غير أنَّ الانعزال عن الآخرين لا يخدم إلا أولئك المُستفيدين من الكراهية والعدائية، يبدو من الجلي لي أنَّ من السيِّئ أن ينعزلَ المسلمون عن غيرهم، ومن ثمَّ فلا يوجد صيغةٌ واحدةٌ لمواجهة هذا الانعزال، فهذه إشكالية على الأشخاص التفكيرُ بها وتجنُّبها، لكنَّ الأمرَ المُهمَّ أن لا يعدّ المرء قومه أعلى درجةً أو ضحايا أسمى من غيرهم.
كما أنَّني لا أعتقد أنَّ الانصهار الكلي هو الحلُّ، هذا هو ما لم يرقني في كتاب إيمانويل تود الممتاز مَن هو شارلي؟ فهو يعتقد أنَّ انصهار المُسلمين المُهاجرين «بالفرنسية» هو الحلُّ، حسنًا لستُ مُتأكِّدًا من أنَّ الأمر على هذه الحال، وعلى أيَّة حالٍ فلا بدّ من أن نتفاوض حول شروط ذلك الانصهار لكنَّه سيكون من الصَّعب التَّفاوض بشأنها إذا كان أحد الأطراف يتملّك كل السلطة، ومن ثم فلن يكون الانصهارُ أمرًا سهلا أبدًا، ربما يكون أمرًا أكثر فظاعة، كما هو الأمر في حالة انصهار اليهود ضمن المجتمعات الأوروبية العُنصرية خلال النَّصف الأول من القرن العشرين. إنَّ الأمر يتطلَّب أيضًا إصلاحًا هائلا لما يُسمَّى بالمُجتمعات المُستضيفة، من دون ذلك لن يكون هناك جوابًا شافيًا لسؤالك حول الكيفية التي ينبغي بها أن يكون المسلمون مشمولين بـ «الإنسانية»، أمرٌ مُحبطٌ آخر هو الطريقة التي يُعامل بها المُسلمون المُهاجرون من آسيا والشرق الأوسط أو مَن هم من أصولٍ مُهاجرة أو مَن هم من الأقليات المُستبعدة في أمريكا، إنَّ هذه المُعاملة مُشينةٌ للغاية، كما أتصوَّر أن تنتقل طريقة المُعاملة تلك إلى إنجلترا أيضًا.
إنَّ العنصرية التي تعرض لها المسلمون لا تُعقل، حتى إنَّهم يعجزون عن إداركها في بعض الأحيان، عنصريَّةٌ تتجلَّى في مواقف مثل زواج ابنة من رجل أفريقي أمريكي أسود، قد يكون رجلاً تقيًا لكونه مسلمًا لكنه أسود، وهذا شيءٌ مُشين حقيقةً.
أوافقك الرأي، أعتقد أنَّه من الواجب بذل جهودٍ متواصلةٍ لمقاومة هذا السلوك، مقاومة تطال دولنا التي نُنتمي إليها بوصفنا مواطنيها، لكن اللاجئين إضافة لغير المواطنين المُستضعفين كما تُشير الفيلسوفة السياسية هنَّا أرنت يُعدّون استثناء مأساويًّا في عصرنا، يجب علينا أيضًا أن نحاولَ العملَ من خلال ما تقدِّمه اللغة والمؤسسات والعلاقات الموجودة ضمن الدولة التي نعيش فيها؛ إنَّ مفهوم المواطنة يقتضي أن نُفكِّر بموجب مسؤولياتنا تجاه مجتمعاتنا ومن خلال علاقتها بمجتمعاتٍ أخرى؛ أي: أن نفكِّر بوصفنا أفرادًا في مجتمعٍ أكبر مرتبطٍ بحياتنا الجمعية، ليس فقط بوصفنا أفرادًا ضمن مجتمعٍ كبيرٍ داخل دولة قومية بل أفرادًا ضمن دولٍ أخرى كذلك، هذا أمرٌ في غاية الأهمية، فبالرغم من وجود دولة قومية لا يُمكننا تخيّل اضمحلالها إلا أنّ هناك أشكالٌ عديدة من العلاقات التي تتخطَّى وجود تلك الدولة.
أعني أنَّ المفهوم الإسلامي للأمة (المجتمع) ليس بالتَّحديد الشّكل الأكبر للدولة، فهو يُمثِّل شكلا من القومية العالمية تشمل كلَّ المسلمين، هذه دعوةٌ للتَّفكير أخلاقيًا أيضًا، فقد تعدَّدت استخدامات كلمة «أُمّة» في القرآن لكن أيًّا منها لم تشكِّل مفهومًا لفكرة الإقليم أو الدّولة، وهذا أمرٌ يجب أن يدفع المرء للتّفكير أبعد من ذلك، فمن المُمكن هذه الأيّام بالرغم من كلِّ المخاطر التي تحويها التكنولوجيا الحديثة أن تساهم هذه التّكنولوجيا في أشكال التّفاعل سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا وهو ما لم يكن مُتاحًا في الماضي.
بعبارةٍ أخرى فإنَّ من الضَّروري أن يكتشف المسلمون طُرقَ تواصلٍ جديدةٍ بين بعضهم البعض فضلا عن تواصلهم مع غير المسلمين، إحدى تلك الطُّرق تتمثَّل في المفهوم الإسلامي للأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر بوصفه مؤسسةً مُستقلة عن الدولة، الأمرُ بالمعروفِ وسيلةٌ تربط بين أندادٍ متساوين إضافةً لارتباطها بمَن يتولُّون السلطة، فهي تسمح بالمُحاسبة وتقديم المشورة، وبالرغم من أنَّ الأمر بالمعروف موجَّهٌ في المقام الأول للمسلمين، إلا أنَّه ليس هناك ما يمنع استخدامه مع غير المسلمين كذلك، لكن الأمر الأساسي فيما يتعلَّق به هو أن لا يتحوَّل إلى أداة للدولة ووسيلة للحكم.
في الوقت ذاته الذي يتمُّ فيه التَّشكيك بإنسانية الإسلام والمسلمين، قد تمَّ مؤخَّرًا انتخابُ فيصل بن حسن طراد مندوب المملكة العربية السعودية الدَّائم لدى الأمم المتحدة ليكون رئيسا للجنة الخبراء المستقلين في مجلس حقوق الإنسان التَّابع للأمم المتحدة، وبالرغم من أنَّ الانتخابات قد تمت في حزيران إلا أنَّه قد أصبح الخبر السائد في الأسابيع القليلة الماضية؛ إذ وصل الأمر إلى درجةٍ كبيرةٍ من الاستياء الشعبي: كيف يُمكن لدولة تمتلك أسوأ سجِّلٍ في العالم لحقوق الأقلّيات والنساء والمُعارضين أن ترأس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؟ فقد وصف المُعلِّقون الأمر بـ «المهزلة»، كما وصف هليل نوير المدير التنفيذي لمنظمةU.N. Watch الأمر بأنَّه «انتصارٌ للنفط الرخيص على حقوق الإنسان» يبدو لي أنَّ السؤال ليس فيما إذا كانت المملكلة العربية السعودية تقطع الرؤوس (يُشار إلى أن 100 شخص قد تم قطع رؤوسهم في المملكلة العربية السعودية خلال هذه السنة فقط)، بل: فيما إذا كانت تملك الحقَّ بقطع رؤوسهم، إنَّ الدولة كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر تمتلك بالطبع وحدها الحقَّ في ممارسة العنف، الذي اكتسبته من خلال عملية إضفاء الشرعية، وهذا ما يُميِّز بين قطع الرؤوس في المملكة العربية السعودية وجلد المُعارضين وبين قطع الرؤوس الذي تقوم به داعش؛ إذ تمتلك المملكة العربية السعودية الشرعية السياسية التي تفتقدها داعش، هل تهتم بالتعليق على هذا؟
هناك العديد من الأمور التي لا تروقني في المملكة العربية السّعودية، خاصَّة تلك الثَّروات الهائلة التي تراكمت بسبب النفط، لكنَّني أعتقد أنَّه طالما أن السياسة بهذا العالم والسياسة الدولية فلا يوجد من لم تتسخ يداه، وعندما يتحدَّث النَّاس عن فظاعة المملكة العربية السعودية فهم منافقون عندئذ، أعني أنَّ الفظائع التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال مئتي عام إن لم يكن أكثر من ذلك، هي على أقل تقدير بذات وحشية سجل المملكة العربية السعودية، لا أريد الدفاع عن السعودية، لكنني لا أريد إدانتها ليشعر الناس هنا بالرضا.
إنَّنا نعيش في دولة ديموقراطية مواطنوها مسؤولون عما تفعله حكومتهم، لكن السعوديين لا يعيشون في دولةٍ ديموقراطية؛ إنَّهم يعيشون في دولة أوتوقراطية، تُهمين العائلة المالكة على كلِّ شئ فيها، وتسيطر هي لا المواطنون السعوديون على الحياة الوطنية بشكل عام، وبالتالي فإن المواطن السعودي العادي ليس مسؤولا عما تفعله الدولة أو يفعله بعض السعوديين، ما زلنا نسمع ما يرويه معظم الناشطين عن العمل الوحشي الذي استهدف برجي مركز التجارة العالمي والذي قام به سعوديون، فهم يعدّون كلَّ السعوديين كذلك، لكن هل نسمع بالمقابل من يدعي أنَّ الأمريكي المُختل الذي ارتكب مجزرة حين أطلق النار في مدرسة يمثل الأمريكيين كافة؟ عدد كبيرٌ من المواطنين السعوديين لا يتفقون مع ما حدث في الحادي عشر من أيلول، وعلى أية حال فإنَّ أغلبهم لا يستطيعون فعل شيء حيال حكومتهم.
أشعر بالذعر مما تفعله المملكة العربية السعودية بمساندة أمريكا وأوروبا في اليمن، أجد أنَّ هذه قسوة لا تُغتفر، القساوة ليست أمرًا جديدًا في التاريخ، لكن الحرب قد تحولت باستخدام أسلحة الدَّمار الشَّامل الحديثة، مثل الألغام الأرضية والقنابل العنقودية والأسلحة النووية إلى رُعبٍ لا يوصف، إنَّ أولئك الذين يعدّون أنفسهم ليبراليين لن يحظروا استخدام الألغام الأرضية أو القنابل العنقودية أو الأسلحة النووية (التي تم استخدامها مرتين من قبل أكبر الديموقراطيات في العالم)، إنَّ الحكومات الغربية في الحقيقة تشجع تزايد إنتاج أسلحة القتل المُتطورة وتبيعها لغيرها، وإذا نظرت لهذا فقط فإنَّك ستعترف بأننا نعيش في عالمٍ فظيع، لكن ما يزال هنا في هذا العالم ملامح خلاص؛ إذ إنَّ هناك الكثير من الأشخاص الجديرين بالاحترام ممن هم على استعداد للتضحية براحتهم والمُخاطرة بحياتهم في سبيل تحقيق العدالة.
لذا فإنَّ من المناسب إثارة مسألة النفاق فيما يخصّ حصول السعودية على منصب رئاسة مجلس حقوق الإنسان، إنَّ هذا نفاق؛ لكن متى غاب النفاق عن السياسة العالمية؟ ما موقف الولايات المتحدة من إسرائيل التي تنتهك على الدوام القانون الدولي وتضطهد الفلسطينيين بقسوة؟ لمَ كل المُتَّهمين في محكمة الجنايات الدولية هم أفارقة وآسيويون بينما لا يوجد أيّ أوروبي (باستثناء الزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش)؟ لمَ يكون جورج دبليو بوش وديك تشيني ودونالد رامسفيلد وتوني بلير المسؤولين عن قتل مئات الآلاف وتحويل الملايين للاجئين وتدمير بلدٍ بأكمله في مأمنٍ من المُلاحقة القضائية لانتهاكهم لحقوق الإنسان؟ لنتناسى أمر باراك أوباما الذي سمح بالقتل باستخدام طائراتٍ بلا طيار والاغتيال من قبل وحدات العمليات الخاصة واستمرار حبس الأبرياء في غوانتانامو وغضّ الطّرف عن تعرّضهم للتّعذيب، فلن يتم أبدًا اتِّهام أيٍّ من هؤلاء السياسيين، قد قدمت الولايات المتحدة المُساعدة في الانقلاب الذي تم على سلفادور أليندي في التشيلي والذي راح الآلاف ضحيته، كما قد قوضت حكومة محمد مصدق في إيران التي انتُخبت ديموقراطيًا، واستعادت ديكتاتورية الشاه، ومع ذلك لم يُوجِّه أيَّ اتِّهام لها، هذا ليس إلقاء للوم؛ بل مُطالبة بالكف عن التظاهر بأنَّ الولايات المتحدة هي الدولة الفاضلة الحامية للإنسانية وقيمها، والكفّ عن اتِّهام كلِّ مَن يتحدَّى ادِّعاءها التفوّق الأخلاقي وحقها اللامحدود «بقيادة العالم» بالكفر.