فيلم «Titane»: هل نستحق بدايات جديدة؟
في منتصف شهر يوليو من العام الحالي حصل فيلم «تيتانيوم- titane» على جائزة السعفة الذهبية فئة أفضل فيلم. احتفى جمهور السينما العالمية بالمخرجة Julia Ducournau، باعتبارها ثاني امرأة تحصل على جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان.
الانتشار في صالات السينما خلال عرض الفيلم وبعده أنتج حالة من التشوش والالتباس عند الجمهور، بداية من الإعجاب بغرابة فكرة الفيلم، فتاة صغيرة تقع في هوة ظلام عميقة وفراغ جواني مطبق، تقيم علاقة جنسية مع سيارة وتحمل منها، ومن ثم تقع في منعطفات تدفعها إلى مواجهة فراغها الداخلي واختبار حالات إنسانية مركَّبة. آراء أخرى، انتقدت العنف المفرط، والمشاهد الدموية التي يتممها مرح موسيقي، حتى إن بعض المشاهدين تركوا قاعة السينما أثناء عرض الفيلم.
الأفلام التي تقع في مساحة إشكال نقدي، أو حتى يصعب على المشاهد تكوين انطباع واضح وموقف عقلاني عاطفي تجاهها، تكون عادة أرضًا خصبة لقراءة مثمرة. تيتاني فيلم له خصوصية شديدة، على مستوى مركزية الأفكار والأدوات الفرعية لصناعة الفيلم.
يمكننا من خلال طبيعة الفيلم الملتوية حول ذاتها أن نطرح مجموعة من الأسئلة حول إمكانية النفاذ لماورئيات ظاهر شخصية alexia بطلة الفيلم، وحول طبيعة السينما المهمومة بالهوية الجندرية، وثنائية الأنوثة والذكورة. أخيرًا، ثمَّة جدل بشري واسع، حول طبيعة الحياة في دائرة مفرغة، ومدى إمكانياتنا المعاصرة على خلق بدايات/محاولات جديدة، مهما تمثَّل الأمر في أزمات متتابعة، كيف مثَّل تيتاني هذه الفكرة خلال شخصيتين وشعور بالحب؟
فراغ وعمق مظلم
تئن أليكسيا الصغيرة بغضب وبصوتٍ عالٍ دون سبب واضح، وهي جالسة في مقعد السيارة وراء أبيها، كأنَّها تبحث عن فرصة غير مباشرة لإيذاء محيطها، وكأن فعل الإيذاء هو نفسه الغاية، لذلك يحتار الأب في التعامل مع إزعاج ابنته، وحينما يلتفت إليها لتعنيفها حتى تصمت، تنقلب السيارة بهما. تدخل أليكسيا المستشفى بعد الحادثة، ثم تخرج بقطعة تيتانيوم تُغلِّف رأسها من الداخل بعد عدَّة عمليات.
أول ما فعلته أليكسيا بعد الخروج من المستشفى، احتضنت سيارة والدها التي انقلبت بهما منذ أسابيع، قبَّلتها. أصبح اضطراب صدمة الفتاة بعد الحادثة تماهيًا يسكن عمقها المفرَّغ. تصبح أليكسيا «راقصة إغراء – stripper» في معرض جماهيري لعرض السيارات.
في حوار لجوليانا، مخرجة الفيلم، بعد حصولها على الجائزة الكبرى في كان. وضَّحت محاولتها خلق شخصية لا يتم التواصل معها من خلال تفاعل “عقلاني” مشترك، أو حتى من خلال خلق روابط عاطفية قائمة على تقبُّل أو تفهُّم دوافع هذه الشخصية. حسب رؤية جوليانا، أليكسيا منذ طفولتها تسير تجاه الوقوع في عمق مظلم بداخل ذاتها، تتجلى ذروة فراغها الداخلي خلال توهُّج شبابها، لذلك هي لا تبحث في دوافعها عن رد فعل متفهَّم، بقدر ما تستجيب لإملاءات الهروب من مواجهة ذلك الفراغ الداخلي.
الصلة بين المشاهد وبين شخصية الفيلم تقوم بالأساس على التعامل مع أليكسيا مثلما هي، كأنَّ الأساس في الفيلم تفاعل المشاهد مع ما تبدو عليه الآن، دون حمل عناء محاولة فهم حيثيات وصولها إلى هذه الحالة.
المقدمة المبدئية لطفولة أليكسيا وضعت لها إمكانية مسبقة للتطرف العنيف، وقسوتها المفاجئة والمفرطة على كل محيطها، بداية من العنف الجسدي مع زميلتها أثناء الاستحمام بعد عرض رقص، مرورًا بحوادث القتل الفردية، المفاجئة، التي ارتكبتها مع أشخاص معجبين، طلبوا توقيعها صدفة بعد أحد العروض، وحتى مشهد القتل الجماعي الذي قضت فيه على كل مَن في المنزل أثناء سهرة حميمة مع صديقتها. بدت أليكسيا في كل هذه الحالات مثل عنف يسير على قدمين، يتعثر في أشخاص، يتخلَّص منهم ويستمر في المشي.
هروب يخشى مواجهة الذات أولًا، ولجوء بالضرورة إلى القتل لسد أفواه فائض العنف الذي يأكل فيها من الداخل.
أثناء مراحل العمل الأوليَّة على الفيلم انتقت جوليا دوكرانو لبطولة فيلمها شخصية لم تمثِّل من قبل. بالنسبة إلى جوليا بدأ الأمر مثل تحدٍّ كبير، خاصة أن الشخصية السينمائية مفعمة بمتطلبات أدائية مركبة، بحكم أنها تقوم على الهروب والتخفِّي لا المواجهة والظهور.
عملت دوكرانو مع الممثلة Agathe Rousselle لمدة سنة دون أن تسمح لها بقراءة السيناريو، خلقت معها حضورًا موازيًا، حقيقيًّا وفعَّالًا، لتفصيلات شخصية الفيلم، تدريبات مكثَّفة لتعلُّم الملاكمة، وتأسيس جسماني للقدرة على أداء مشاهد القتل، وحتى محاولة تجهيز أغاث كي تبدو بهيئة مقنعة حينما تحوِّل هيئتها الظاهرية إلى ذكر.
تتجلى نتائج تحضيرات جوليانا، وعملها الدءوب حول خلق شخصية غريبة ومتفردة في الفيلم. كل التفصيلات المحيطة بأليكسيا تتناوب خلق انطباعات مبدئية عنها، ليست انطباعات كليَّة للاستيعاب، ربما هي مواد أولية لخلق انفعالات شعورية عند المشاهد، تعكس زخم الصراع الداخلي عند أليكسيا، وتجعل كل محاولة لقراءة الشخصية محاولة متعثِّرة لا تكتمل. نشاط تمثيلي مفعم بالإحالات، الرقص وغرائبية النوم مع سيارة كاديلاك والحمل المفزع منها، وكذلك المشاهد المتكررة في ثلث الفيلم الأول، التي تعكس مدى سطحية وفراغ العلاقة بين أليكسيا وأبيها وأمِّها البيولوجيين.
جاءت فكرة كتابة الفيلم عند جوليانا خلال مراحل العمل الأخيرة على آخر أفلامها raw قبل تيتاني. تذكر جوليانا أنها ظلَّت فترة طويلة تحلم بكابوس الحمل من سيارة، وولادة قطعة غيار ميكانيكية، تحوَّل الكابوس بعد ذلك إلى هاجس سينمائي، ارتبط أثناء كتابة السينارية بقصص الميثولوجيا الإغريقية، التي تحفل بزيجات بين أرباب وربَّات من أجناس مختلفة.
في المرحلة الأخيرة في كتابة الفيلم ربطت جوليانا بين هذه الأسس الحكائية/الدرامية، وبين هاجسها الفنِّي الأثير في كل أفلامها السابقة، وهو القدرة على حضور الحب المتجاوز للذات والتفاعل الجنسي والنسبية بين الخير والشر عند الشخصية، ومدى قدرة ذلك الحب على خلق بداية جديدة، غير مفعمة بأمل ساذج، لكنها بداية مفعمة بزهو الظفر بفردوس بشريٍّ معاصر، وهو أننا يمكننا – رغم الحصار الوجودي الذي يحيط مسيرتنا – أن تنبت أمامنا فرص لبدايات جديدة.
قفزة النجاة إلى الجهة الأخرى
تسحب أليكسيا إيقاع تضاعفات العنف من يده وتصعد به إلى أعلى، ثمَّة تعريفات أولية عن تطورات شخصيتها المفاجئة في الثلث الأول من الفيلم. مثلًا، على المستوى الظاهري، حركة مشيها السريعة دائمًا، تكشيرة وجهها التي لا تغيب، واستعدادها الدائم للهجوم دون مبرر، كلها تحركات لا واعية، تنعكس على العام من خلال الخاص شديد الذاتية المختبئ بداخلها مثل وحش.
واحدة من الأشياء التي اعتمدت عليها مخرجة تيتاني هي اختيار ممثلة يتفاعل جسدها ووجها مع تصدير ردود فعل ثابتة، تشبه ميكانيزم دفاعيًّا ضد أي احتمالات لانفلات انعكاس عاطفي عليها. الغاية الأخرى التي اعتمدت عليها جوليا دوكرانو، هي قبول هيئة الشخصية للتحول الظاهري – في الهيئة الخارجية فقط – إلى ذكر عندما تدفعها الأحداث.
يتحول حصار أليكسيا للآخرين، ورغبتها المستدامة في القتل، إلى حصار عكسي لها. حينما تهرب من المنزل، وتختبئ مؤقتًا في إحدى محطَّات المترو، تقرأ إعلانًا بالعثور على طفل تائه منذ زمن، يبحث عنه أبوه ولم يستطع إيجاده حتى الآن. في مشهد واحد، وخلال تحوُّلات سريعة، تتحول ألكيسيا، مع انتفاخة بطنها بسبب الحمل من سيَّارة، إلى شاب حليق الرأس ونحيف البنية.
التحوُّل الذي يطابق تطرف أليكسيا الملحوظ من الهدوء إلى العاصفة، يتجلى باقتناع ومنطقية مع تحولاتها، خاصة أن تحولها الدفاعي إلى ذكر، لأجل النجاة من الاعتقال، أتى بعد تسلسل من المشاهد الصادمة، التي جعلت فعل التحول إلى ذكر خطوة مقبولة. أليكسيا هنا لا تنتمي إلى العابرين جنسيَّا، هي لم تتخلَّ عن هويتها الجندرية، بل ركَّبت شخصيتها أكثر، وأصبحت أنثى تختبئ في ذكورة آمنة مؤقتًا.
في حوار مع جوليا دوكرانو، حول الأبعاد النسوية لتحول أليكسيا إلى ذكر، تحيل صاحبة تيتاني ذلك التحوُّل في الفيلم إلى فكرة رغبة أليكسيا في الاستمرار في الهروب. التحول هنا ليس اختياريًّا بالكامل، بل ينبت من خلال ضرورة، غير أن فكرة ارتباط العنف بهوية نسائية، بينما ترتبط الذكورة بالأنسنة، باعتبار أن مسار أليكسيا يتحوُّل كليًّا بعدما تعيش مع الأب على أنها الابن الذي يبحث عنه منذ زمن. تخرج جوليانا بصنعة درامية عن نمطية ارتباط نشاطات بعينها على أسس جندرية، تقول بأن الهمَّ النسوي لا يتعلق – في السينما خاصة – بالدفاع الخيري عن المرأة، بل يتعلق من ناحية أخرى بدفعها بعيدًا عن أي أُطر، حتى لو كانت هذه الأُطر ذات ظاهر خيري.
الهوية الجندرية ذات حضور ملحوظ في السينما العالمية، خاصة في السنوات الماضية من القرن الحالي. في فيلم tomboy تبحث المخرجة سيلين سياما حول علاقة الكود المجتمعي الأخلاقي بنوع الإناث اللاتي يشبهن الذكور، تجرِّد سياما فيلمها من التقاطعات الكبرى، المتعلقة بحياة المراهقين/البالغين، وتضع البطولة لطفلة صغيرة، أو طفل صغير.
ثنائية الأنوثة/الذكورة في تيتاني ذات أسلوبية مختلفة، التحولات الحاصلة لا تنطلق من ثنائية ما، بقدر ما تجتمع كل تحولات أليكسيا في صف واحد. خطوات متعثِّرة، رغم اختلافها تظل متأتِّية من دافع الانفلات من مواجهة ذاتها.
هل نستحق بدايات جديدة؟
تتحول أليكسيا إلى أدريان، ويظهر الأب فنسنت، الباحث الدءوب عن ولده الضائع منذ زمن طويل. للوهلة الأولى يبدو فنسنت، الذي استبدل بواقع أبدية ضياع ابنه أملًا جديدًا، رجلًا يستقبل الكهولة، يقاوم الموت مثل باحث عن الأبدية، يتمتع بقوة جسمانية مفرطة، يمتلك محطة إطفاء حرائق، يتعاطى حقنًا عضلية منشطة يوميًّا، وأخيرًا يوهم نفسه بأنه وجد ضالته الكبرى.
عندما يلتقي فينسنت وأدريان تتحول نوعية الفيلم إلى مساحة مغايرة تمامًا، ومن لغة صورية إلى أخرى عكسية. ثمَّة حرفة حاضرة عند جوليانا في القبض على مرونة مدهشة في نوعية الفيلم، القصة بشكل مبدئي قصة واقعية، لكنها ترتكز على حدث فانتازي “الحمل من سيارة”. والفيلم يبدأ بإيقاع حاد، عنيف ومتصاعد وسريع، ومن ثم يستكين مثل طفل، ويتحول إلى قصة حب مختلفة، ليست عن حبيبين، بقدر ما هي عن ماهية الحب المتجاوز للذات، تنشأ العلاقة الأبوية بين فنسنت وأدريان، ومن ناحية أدريان فإنه لا يستطيع أن يستوعب مفهوم الأبوة عند فنسنت.
المفارقة أن أليكسيا بحثت عن ملجأ ما، وكذلك فنسنت، اختبأت الأولى في هيئة ذكورية، واختبأ الثاني في إحالة هذه الهيئة المزيفة إلى ابن عائد بعد عمر طويل.
اقتربت المخرجة جوليا دوكرانو من الممثل فنسنت لندن ذات ليلة أثناء عشاء مع الأصدقاء، أخبرته مباشرة: «فنسنت، أنا أكتب لك سيناريو، هذا يعني أنه يجب عليك أن توافق؛ لأنني بدونك سيكون من الصعب عليَّ إخراج الفيلم».
أفضل مجاملة يمكن أن يحصل عليها ممثل، هكذا يقول فنسنت عن طلب دوكرانو الحميمي. بعدما قرأ فنسنت السيناريو وافق مباشرة، وبدأ في تحضيرات استمرت لمدة سنتين لإتقان الشخصية. تمارين مكثَّفة لعمل «فورمة»، ومحاولة تشرُّب حالة ضياع الأب، ولجوئه الساذج إلى الاقتناع بأن أليكسيا المختبئة في أدريان هي ابنه الضائع فعلًا.
الدفاع البديهي عند أدريان ضد أي عاطفة تتصدر له من أي شخص، يقف قبالة الهياج الأبوي المفرط تجاه عودة الابن، ضدان يسيران في تقاطعات لا نهائية، يضع تعريفات جديدة لسؤال تحقق الأبوة، خاصة أن والدي أليكسيا البيولجيين ظهرا واختفيا سريعًا أول الفيلم، بينما فنسنت، حوَّل أليكسيا المختبئة في أدريان تدريجيًّا إلى شخص يستطيع أن يدرك شعورًا بالحب، أو الخوف، أو حتى الهلاك.
كلما اقتربت مساحة التعاطي العاطفي بين فنسنت وبين أليكسيا، اقتربت الأخيرة من طغيان أنوثتها على هيئتها الخارجية أكثر. تنتفخ بطنها بصورة غريبة، تحكُّ فيها دائمًا وتُحدث بها ثقوبًا تشير إلى عمق داخلي أبيض، كأن أليكسيا كانت تبحث عن حياة أخرى، تتحقق بتجاوزها هي شخصيًّا.
تطور العلاقة بين أليكسيا وفنسنت في الجزء الأخير من الفيلم، تضع كل طرف منهما في مواجهة ذاته، ربما لأنه لم تعد هناك حاجة للاختباء. كل طرف من الاثنين، اكتشف ضالته الذاتية من خلال الآخر، أصبحت أليكسيا – بوضوح لفظي من فنسنت – ابنه العائد، سواء اقتنعت هي بذلك أم لا، وأصبح فنسنت نموذجًا لأبوة فقدتها أليكسيا منذ طفولتها، ونموذجًا آخر لخلاص آتٍ من بعيد، يضعها أمام أزمتها عنوة، ويجبرها، بحب وحميمية متدفقة، على أن تمد يدها إلى أحداث الحياة وتأخذ نصيبها من رفاهية التفاعل الشعوري مع محيطها.
أليكسيا في أول الفيلم تقع في مساحة مجازية، التعريف الأولي، والوحيد غالبًا، أن هذه المساحة هي ضياع كامل. يقول أونجاريتي في قصيدة له عن الضياع «إلى البعيد البعيد.. أخذوني من يدي». ضياع أليكسيا في الفيلم يشبه ضياع أونجاريتي، بسيط ومباشر، حاد وصادم، ليس هناك مفر من «تفنين» هذه الحالة في الفيلم إلا من خلال الانطلاق من تعريفاتها، ومن ثم يمكننا محاولة استعادة الشخص، أو ذواتنا، من جديد.