تيران وصنافير نموذجًا: كيف تأكل السعودية جيرانها؟
منذ بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود في مطلع القرن الماضي، لم تتوقف الحدود السعودية عن التمدد والاتساع في جميع الاتجاهات، حتى مع تغير الظروف والأوضاع، وانتهاء حالة السيولة والفوضى التي اتسم بها المشهد الإقليمي والدولي إبان فترة التأسيس، ففي الفترة التي سبقت إعلان قيام المملكة العربية السعودية عام 1932، لم يدخر عبدالعزيز جهدًا في توسيع إمارته الصغيرة، التي تحولت إلى «سلطنة نجد» عام 1921 بعد إنهائه لحكم أسرة آل الرشيد، وصولًا إلى مرحلة إعلان المملكة، عن طريق شن الغارات والحروب المتواصلة حتى سيطر على معظم مساحة شبه الجزيرة العربية، وأسس الدولة التي مازال جميع الملوك الذين حكموها حتى الآن من أبنائه المباشرين.
سياسة «المناطق المحايدة»
في الوقت الذي لم تستطع فيه أي قوة محلية أن توقف توسعات الأب المؤسس ابتدعت بريطانيا فكرة «المناطق المحايدة» لخلق حواجز جغرافية بين السعوديين والكيانات السياسية المحيطة بهم، في تلك الصحراء الشاسعة التي تفتقر إلى أي معالم يمكن تمييز خط الحدود بها، وفي ظل حياة قبلية قائمة على التنقل والترحال وراء المراعي، لا تعترف بعدُ بفكرة الحدود السياسية، عقد الإنجليز مؤتمر «العقير» عام 1922، الذي اتفقت فيه الأطراف المختلفة على إنشاء منطقتين محايدتين كبيرتين على أطراف سلطنة آل سعود؛ الأولى بينه وبين الكويت، والثانية بينه وبين العراق، يـُترك للقبائل فيها من جانبي الحدود حق التنقل والرعي والاستفادة المشتركة من تلك المنطقة، إلا أن الكويت التي كان يمثلها السير البريطاني برسي كوكس شعرت بالغبن الشديد، بسبب تنازل المندوب البريطاني عن مساحات كبيرة من الأرض لصالح آل سعود، مبررًا ذلك بأنهم كانوا سيأخذون تلك الأراضي، سواء نصت الاتفاقية على ذلك أم لم تنص، وقد اقتنع عبدالعزيز بفكرة إنشاء المناطق المحايدة بشكل مؤقت على أطراف دولته، فترك منطقة أخرى على حدوده الشمالية الغربية مع الأردن.
وبعد أن اطمأن عبدالعزيز على حدوده الشمالية انطلق نحو الجنوب لتوسيع مملكته باتجاه اليمن، الذي كان يمر بحالة ضعف تحت حكم الإمام يحيى ابن حميد الدين، فاستولى عبدالعزيز على نجران وجيزان وعسير واضطر الإمام يحيى للرضوخ للأمر الواقع بعد وساطات عربية، وعقد مع السعوديين معاهدة الطائف في مايو/آيار 1934، التي يقر فيها بسيادتهم على المنطقة محل النزاع، وإنشاء منطقة محايدة بين البلدين يُتاح للقبائل فيها من الجانبين حرية الحركة، ورغم الاتفاق على تجديد المعاهدة كل 20 عامًا فإنها لم تـُجدد بسبب دخول اليمن في دوامات من العنف والفوضى، واستغل السعوديون تلك الفترة في توسيع حدودهم مع اليمن في مناطق لم تشملها المعاهدة، التي اقتصرت على رسم الحدود الشمالية الغربية لليمن، فيما لم تتعرض للحدود الشمالية الشرقية في صحراء الربع الخالي.
النفط: كلمة السر
لم تكن هناك حاجة ملحة للاتفاق على نظام محدد لإدارة المناطق المحايدة غير المأهولة بالسكان، لكن بعد الاكتشافات النفطية عام 1938 أصبحت تلك المناطق الهامشية محل تنافس محموم بين الدول، فوقع الأردن في عام 1965 اتفاقية تقضي بتقاسم الثروات الموجودة بالمنطقة الحدودية بين بلاده والمملكة، وحصلت السعودية بموجبها على أراضي وادي سرحان، بينما حصل الأردن على مساحة أقل من الأراضي على خليج العقبة.
في حين نشب نزاع بين السعودية والبحرين على منطقة أبوسعفة بعد ظهور النفط فيها، أنهت الرياض الخلاف باتفاق عام 1958 لتقاسم عوائد النفط بالتساوي، وتنازلت البحرين عن مطلبها الخاص بالسيادة على فيشت أبو سعفة، وحصلت السعودية بموجب الاتفاق على جزيرة لبينة الكبرى.
لكن بالنسبة إلى قطر لم يمض الأمر بهذه البساطة؛ فقد تسببت الخلافات الحدودية في تعكير الأجواء بين الجارتين لعقود طويلة، وبالرغم من إبرام اتفاق حدودي بين البلدين في الرابع من ديسمبر/كانون الثاني عام 1965، فإن ذلك لم يمنع من تفاقم الخلافات الحدودية بين البلدين، مما أدى عام 1992 إلى وقوع مناوشات مسلحة محدودة سقط خلالها عدد من القتلى فيما عرف بـ «حادثة الخفوس»، وتوصل الطرفان في النهاية في عام 2000 إلى اتفاق ترسيم للحدود المشتركة بينهما، وفي ديسمبر/كانون الثاني 2008 وقع البلدان سلسلة أخرى من الاتفاقيات، أهمها اتفاق تسوية الحدود البرية والبحرية بينهما، ووثق ممثلون عن البلدين الاتفاق في مارس/آذار 2009، في مقر الأمم المتحدة.
أما المنطقة المحايدة مع العراق، فقد وقع الجانبان اتفاقًا سريًا في يوليو/تموز 1975 قُسِّمت بموجبه إلى قسمين متساويين تقريبًا، ولم يتم الكشف عن تلك الاتفاقية إلا بعدما ألغاها الرئيس العراقي صدام حسين، هي وجميع اتفاقياته الأخرى مع الرياض إبان أزمة حرب الخليج الأولى، فكشف السعوديون عن الاتفاقية ووثقوها بالأمم المتحدة.
خريطة توضح موقع جزيرتي أم المراديم
وفيما يتعلق بالمنطقة المحايدة الكويتية فقد توصل الجانبان إلى اتفاقية فى يوليو/تموز 1965، نصت على تقسيمها إداريًا إلى جزأين متساويين، فأخذت الكويت الجزء الشمالي، وأخذت السعودية الجنوب، وتُقُوسِم ريع الثروة النفطية في المنطقة مناصفةً، وفي مطلع شهر يوليو/تموز 2000 وقعت المملكة العربية السعودية والكويت اتفاقية لترسيم الحدود البحرية وإنهاء تقسيم المنطقة المحايدة، لكن مشكلة الجزر الجنوبية الغنية بالنفط (جزيرتي أم المراديم وقاروة) لم تُحَل إلى الآن، حيث تقعان ضمن السيادة الكويتية، وتطالب السعودية بتطبيق أحكام المنطقة المشتركة عليهما لتتقاسم أرباح النفط مع الكويت، وتعد هذه المسألة أبرز مسائل الخلاف بين الدولتين الجارتين، كما توقف إنتاج البترول والغاز في الحقول الثلاثة بالمنطقة «الخفجي والوفرة ودرة» منذ حوالي سنتين بسبب خلافات إدارية بين الجانبين، وتحدثت تقارير إعلامية عن إمكانية لجوء الكويت للتحكيم الدولي، إلا أن اتصالات بين الجانبين منعت من تصاعد الأمر، لكنها لم تنجح في حل الأزمة حتى الآن.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة، فمنذ استقلالها عام 1971 دخلت في نزاع مع الرياض حول ملكية ساحل خور العديد، وهي منطقة نفطية بامتياز، واضطر الشيخ زايد عام 1974 لتوقيع اتفاقية مع السعودية تقضي بمنح الساحل السعودية في مقابل اعترافها بدولة الإمارات والتنازل عن مطالباتها بضم واحة البريمي.
وفي عام 2004 توفي الشيخ زايد وتولي ابنه خليفة، الذي توجه إلى الرياض وطالب باستعادة الساحل، على اعتبار أن الاتفاقية تم توقيعها تحت ضغوط سياسية، لكن طلبه لم يلق تفهمًا سعوديًا، وفي عام 2006 أصدرت الإمارات في كتابها السنوي خرائط تظهر فيها خور العديد تابعة للمياه الإقليمية الإماراتية، مما تسبب في توتير العلاقات الثنائية، حتى أن السعودية ألغت عام 2009 دخول المواطنين الإماراتيين إليها ببطاقات الهوية، احتجاجًا على احتواء البطاقات على خارطة تضم أراضي سعودية، وفي عام 2010 كادت العلاقات تنقطع بين البلدين عندما أطلق زورقان تابعان للإمارات النار على زورق سعودي في خور العديد، واحتُجِز اثنان من حرس الحدود السعودي، إلا أن جهودا دبلوماسية ساهمت في احتواء الأمر، وما تزال الحدود البحرية بين البلدين حتى الآن غير محددة، إذ تطالب الإمارات بملكية حقل وزرارة، الذي يطلق عليه في السعودية حقل الشيبة.
وفي حين رفضت جميع الحكومات اليمنية المتعاقبة ترسيم الحدود طبقًا لمعاهدة الطائف التي أبرمها الملك عبدالعزيز مع الإمام يحيى، نجح السعوديون في يونيو/حزيران 2000 في إقناع الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، بتوقيع اتفاق اُعْتُرِف فيه بمعاهدة الطائف وتثبيت خط الحدود بين البلدين، واتُفِق على تقاسم الثروات على طول المنطقة المحايدة بين البلدين، والمقدرة بعشرين كيلومترًا من الجانبين.
ومنذ توقيع صالح للاتفاقية تعرض لانتقادات حادة واتهامات بتلقي مليارات الدولارات كرشاوى من الرياض من أجل بيع نجران وجيزان وعسير، ومطالبات باستعادة الأراضي التي قيل إنها تحوي احتياطات هائلة من النفط والغاز.
وفي الوقت الذي تقود فيه القوات السعودية تحالفًا عسكريًا ضد الحوثيين باليمن، تروج وسائل الإعلام الحوثية لمقولة «الجنوب اليمني مقابل الجنوب السعودي»، ردًا على هزيمتهم وطردهم من جنوب البلاد، وكلما حقق الجيش السعودي مكاسب عسكرية لجأ الحوثيون لمهاجمة الجنوب السعودي والتهديد بإنشاء حزام شيعي بالمنطقة التي تضم أغلبية شيعية من الطائفة الإسماعيلية، لا سيما في مدينة نجران، مستغلين وجود تداخل قبلي، وتراث ثقافي مشترك بين جانبي الحدود.
ولم يقف الأمر عند شمال اليمن، بل امتدت المطالبات لتشمل محافظة حضرموت شرق اليمن، ولكن هذه المرة على لسان مشايخ قبائل بالمحافظة، حيث وقع 95 شيخًا من القبائل الحضرمية عريضة يطالبون فيها السعودية بضمّ المحافظة إلى المملكة منذ حوالي عامين، على اعتبار أن محافظة حضرموت والمهرة وأجزاء من شبوة تعود تاريخيًا إلى المملكة العربية السعودية، وليس اليمن، ورغم الوجود السعودي باليمن فإن الرياض لم تبد تجاوبًا صريحًا مع تلك المطالبات.
تيران وصنافير
وتأتي مطالبة الرياض بجزيرتي تيران وصنافير لتمثل الحلقة الأحدث في مسلسل التوسعات السعودية في المنطقة، باقتطاع هذا الجزء المهم من الأراضي التابعة للسيادة المصرية، عبر توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع النظام المصري، والتي أقرها مجلس النواب المصري قبل يومين.
وبالإضافة للأهمية الاستراتيجية للجزيرتين، تتحدث تقارير عن وجود مخزون من النفط والغاز في محيط الجزيرتين، بالإضافة إلى إمكانية مد خطوط الأنابيب عبرهما لتصدير النفط السعودي إلى الغرب.