تيران وصنافير: القصة الطويلة لإعادة تشكيل جعرافيا المال
د.جمال حمدان (1928-1993)، الفصل العاشر من الجزء الأول من موسوعة شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان، طبعة دار الهلال.
نُشرت موسوعة شخصية مصر للراحل جمال حمدان لأول مرة عام 1976م بعد هزيمة مصر في 5 يونيو. يبدو هذا العمل الكبير عملًا موسوعيًا شاملًا يبدأ من الجغرافيا وطبيعة التضاريس والمناخ والطقس، ومستقصيًا عن الصحراوات المصرية ووادي نيل مصر وشخصية مصر الطبيعية. منتقلًا إلى البحث عن شخصية مصر البشرية، مؤكدًا على صفة «التجانس» التى تتمتع به مصر طبيعيًا وماديًا وعمرانيًا وحضاريًا وبشريًا، وما ترتب على ذلك من إمكانية قيام الوحدة والحضارة على تلك الأرض.
ثم التروي والصبر الشغوف بالحقيقة والمؤمن بالعمل والفهم كطريق للتحرر من الوهم فى مناقشته لما سماه «شخصية مصر التكاملية»، من خلال النظر لطبيعة الاجتماع المصري وشخصية مصر الاقتصادية وآفاق الزمان وأبعاد المكان، ثم البحث أخيرًا عن مصر بين العرب ومع العرب وفي عالم متغير وبين الوطنية المصرية والقومية العربية، حيث كان في القلب من هذا الاهتمام؛ علاقة مصر بالكيان الاستعماريّ الصهيونى الرابض كالطاعون في جغرافيا الشرق العربي الذي يتحيّن كل فرصة للانتشار في الاجتماع والاقتصاد والسياسة – حتى الأنثروبولوجيا – من خلال عملية التطبيع التي تستمر حتى ما سُميّ بـ«موجة التصهين العربيً» الأخيرة [1] .
كانت الجغرافيا بالنسبة لجمال حمدان كاللجام يطوق الفرس الأصيل، حتى إذا ما خرج منه ربقته، رأيناه يصنع الأمل فى تفكير استراتيجيّ دقيق ينطلق من الجغرافيا إلى التاريخ والاقتصاد والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.
يبدو مشروع جمال حمدان مُهمًا للغاية في قضية تطغى فيها الأبعاد الجغرافية – السياسية Geopolitical Features مثل تيران وصنافير. ونشرت بعض الصحف [2] ما ادعت أنه وثيقة منسوبة إلى الأستاذ جمال حمدان تؤكد سعودية جزيرتيّ تيران وصنافير . اتضح بعد ذلك أنها مُجرد جُزء من كتاب في القانون البحري الدوليّ للدكتور عمرو عبد الفتاح خليل نشر عام 1981 [3]، يستعرض خلاله الآراء القانونية الواردة فى تبعية جزيرتيّ تيران وصنافير.
وليس حقيقيًا أنه مقتبس من «موسوعة شخصية مصر»، أو من كتاب «سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا[4]».
أين تيران وصنافير في مشروع جمال حمدان؟
ترتبط الجزيرتان بكل من الصحراء الشرقية وشبه جزيرة سيناء سواء من الناحية الجغرافية أو الجيولوجية. وفي الفصل الثامن من الجزء الأول من موسوعة شخصية مصر: «صورة الصحراء الشرقية» يتناول حمدان بالشرح شكل الصحراء الشرقية وامتداده قائلًا:
يعاود حمدان التأكيد على نفس المعنى في الفصل التالي الذي يتناول فيه جغرافيا سيناء بالوصف قائلًا:
إذن أين موقع الجزيرتين من خط الطول 35 شرقًا الذي يُمثل أقصى نقطة متطرفة من سيناء نحو الشرق؟ نبدأ من جزيرة تيران الأقرب لسيناء وصحراء مصر الشرقية. فكما تُبين إحصاءات ومقاييس موقع Wikimedia Tool Labs فإن الجزيرة تقع عند التقاء خط عرض 27.9519 شمالًا مع خط طول 34.5661 شرقًا.
أما جزيرة صنافير الأصغر حجمًا والأبعد عن الساحل المصري سواء في جنوب سيناء أو البحر الأحمر فإنما تقع عند التقاء خط عرض 27.93 شمالًا مع خط طول 34.71 درجة شرقًا. أي أن الجزيرتين لما تتجاوزا خط طول 35 درجة شرقًا، الذي أوضح جمال حمدان أنها أكثر نقطة متطرفة من سيناء عند رأس خليج العقبة.
وليس معنى تطرف نقطة من نقاط الجغرافيا المصرية أو ابتعادها عن النطاق الديمغرافى والسكانى والثقافى للاجتماع المصري فى الوادي والدلتا؛ أنه يُمكن اعتبارها جزءًا غير موجود يُمكن التنازل عنه فى إتفاقية دولية.
كيف تصنع إسرائيل العزلة وتكافحها فى الوقت نفسه؟
يقول جمال حمدان :«لا تكتمل لنا صورة سيناء بغير ذكر الخليجين (العقبة و السويس)[6]» موضحًا أن الاختلاف بين الخليجين اختلاف جذري واضح، لا يتشابها إلا فى «غياب الجزر بصورة لافتة»، ثم يذكر جزيرة فرعون عند رأس خليج العقبة وجزر مضيق تيران فى جنوبه.
يتحدث حمدان عن عُزلة خليج العقبة وعمقه الكبير وحداثته وقلة بتروله أمام خليج السويس الأكثر انفتاحًا والأقل عمقًا والأقدم والأفر نفطًا من نظيره. يحوز «مدخل خليج العقبة المخنوق» من ناحية الجنوب حيث تيران وصنافير على اهتمام حمدان، بكثير من الشرح والتفصيل عن عُزلة سيناء – خاصة الجزء الجنوبي منها – المتسم بطبيعته الجبلية واحتوائه على الأماكن التى عُرفت بها سيناء التاريخية التى كانت:
تمتد سلسلة جبال جنوب سيناء بشكل واضح إلى الشرق حيث خليج العقبة المنعزل التي من المُلاحظ أنها تسببت في عُزلته بالمقارنة بخليج السويس المنبسط. يتحدث كثيرًا عن العُزلة في خضم الحديث عن سيناء وواحات الصحراء الغربية والصحراء الشرقية.
مفهوم العُزلة مفهوم حاضر بقوة في أفكار حمدان أيضًا حين تحدث عن دولة إسرائيل باعتبارها «جيتو سياسي Political Ghetto» منعزل في شكل دولة تحاول الاندماج والتطبيع بما يتوافق مع مصالحها [8]، بالضبط كما كان يعيش اليهود في جيتوهات وحارات اليهود في أوروبا، الظاهر كما الصورة النمطية عن اليهود في شخصية «شيلوك» اليهوديّ الذي يُقرض الناس بالربا في مسرحية شكسبير الشهيرة «تاجر البندقية».
تلك العزلة الاسرائيلية المستمرة من حارات أوروبا إلى جيتو إسرائيل نفهم منها المنطق السديد لكل الدعوات الأخلاقية حول العالم لمقاطعة إسرائيل، ورفض التطبيع معها فيما تتكالب كثير من الحكومات العربية فيا سُمي «موجة التصهين العربي [9]». إسرائيل تخاف العُزلة وهذا شيء واضح في الدعاية لنفسها بأنها واحة الديمقراطية أو تصديرها لفكرة معاداة السامية ومظلومية الهولوكوست التاريخية، في الوقت الذي تقصف فيه المدنيين وتمارس أكثر الاغتيالات خسة.
جمال حمدان أيضًا يخاف العزلة؛ عزلة سيناء عن الوادي والدلتا، ومن هُنا يُمكن أن نفهم دعوته لتنمية عزلتها وربطها، لكنه يعاود التأكيد أنها «أقل صحارينا عُزلة [10]» ومخزن استراتيجى للحياة على تلك الأرض، فبينما خليج السويس خليج مصري بالأصالة، إلا أن خليج العقبة خليج نصف مصري ونصف سعودي [11]؛ نظرًا لاشتراك مصر والسعودية في الإطلال على ساحليه الغربي والشرقي على الترتيب.
ما حكاية خليج العقبة؟
فى تسريب صوتي لمبارك عن مفاوضات طابا، لا يعترف مبارك بمصرية طابا فقط، لكن بمصرية أم الرشراش (إيلات)، يحكي في الوقت الذي رفض الإسرائيليون قرار التحكيم الدولي بالخروج من طابا، وجه مبارك حديثه إلى شامير رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت
وفي لقاء مع لواء أركان حرب أحمد إبراهيم محمد قائد قوات حرس الحدود المصرية مع رولا خرسا في 6 أكتوبر 2013م تسأله عن أم الرشراش يقول:
ثم المفارقة التى ظهرت في تقرير مجلس الوزراء حاول فيها التأكيد على سعودية تيران وصنافير فأكد مصرية أم الرشراش. لا تكتمل القصة إذن سوى بالحديث عن طابا المصرية التي رفع عليها مبارك العلم المصري في يوم مُبتسمًا للكاميرات كفارس مُنتصر عادت أرضه. كانت في الحقيقة عودة بطعم الهزيمة.
تقع طابا عند خط عرض 34.53 درجة شرقًا. أما إيلات فتقع عند خط طول 34.57 شرقًا حيث تبتعد طابا مسافة 22 دقيقة فقط بالسيارة حسب خرائط جوجل. أما نقطة 35 درجة شرقًا التى تحدث عنها الراحل جمال حمدان، باعتبارها أكثر النقاط انحرافًا نحو الشرق في سيناء فهى نقطة التقاء ميناء إيلات مع ميناء العقبة في الأردن.
ويطل الآن السؤال: لماذا فرح أبطال فيلم «الطريق إلى إيلات» حين سمعوا صوت مكبر الصوت الداخلى للطائرة يُخبرهم بعودتهم إلى القاهرة؟!
يبدو الآن المشهد أكثر وضوحًا مع كثرة الحديث عن مشروع إسرائيل للتخلص من عزلتها: عزلة شمالها عن جنوبها حيث إيلات، وعزلتها وسط العالم العربي، ومن هُنا يأتي المشروع الكبير للسكك الحديدية للربط بين موانئ البحر المتوسط وميناء إيلات الذي سيجعل إسرائيل «حلقة وصل بين الشرق والغرب»، تلك الجملة التي طالما سمعناها في كتبنا المدرسية القديمة تصف جغرافيا مصر.
الحزام الاقتصادي: مشروع إسرائيل لكسر العزل الجغرافي
«نحن نبني عالمًا مُتصلًا [12]» هذا هو شعار «شركة اتصالات الصين المحدودة للإنشاء والتشييد – China Communications Construction»، وهي الشركة الأم تتبعها «شركة موانئ الصين المحدودة للهندسة – China Harbour Engineering Co Ltd»، التي تعمل بالفعل في تشييد مطار أشدود الجديد بعد توقيع عقد بقيمة 930 مليون دولار في سبتمبر 2014.
ويرصد موقع الشركة الأم زيارة استطلاعية لرئيسها لموقع العمل. يعتبر الميناء الجديد المرحلة الأولى، يعقبه ميناء جديد في حيفا و خطط سكك حديد يتجمع في Nahal Tzin رابطًا بين الميناءين وميناء تل أبيب حتى ميناء إيلات جنوبًا.
يُعرف هذا المشروع بـ«مُبادرة الحزام والطريق– Belt& Road Initiative» أو «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير- Silk Road Economic Belt» تتبناها الصين لبناء شبكات ملاحة برية وبحرية معقدة حول الشرق الأوسط.
الغريب أن تلك الشركة تم وضعها في القائمة السوداء للبنك الدولي لمدة ثماني سنوات من 12 يناير 2009 حتى 12 يناير 2017، بسبب قيامها بالاحتيال في بناء طرق بالفلبين غير مطابقة للمواصفات. ومع تتبع المساهمين الكبار في تلك الشركة؛ وُجد أن الملياردير السعودي الوليد بن طلال هو أحد أكبر حاملي الأسهم فيها، كما أنه أسند للشركة مهام القيام ببناء 20 صومعة للغلال للحفاظ على احتياطي استراتيجي للغلال، بجانب ميناء الفجيرة الإماراتي تم الانتهاء منها في أواخر 2016 أيضًا، أي في نهاية فترة الحظر الذي فرضه البنك الدولي على الشركة.
وفي نفس الفترة أيضًا أُسند أيضًا إليها مشروع أساس ميناء حمد ومصدات للرياح جنوب الدوحة بقيمة 880 مليون دولار، رغم أن المشروع بأكمله أُسند إلى شركة AECOM وهي شركة أمريكية كبرى متعددة الجنسيات تحظى بدعم دونالد ترامب الآن، للحصول على مشروعات إنفاق حكومي ضخم يخص البنية التحتية في خضم الحديث الجاد عن مشروع بناء السور العازل بين المكسيك والولايات المتحدة يُمكن أن يتم إسناده لنفس الشركة.
هل يكون العزل الأمريكي للمهاجرين المكسيكيين عبر الحدود الأمريكية يقابله كسر للعزل الجغرافي عن إسرائيل؟ وما هو شكل الهندسة الجديدة التي ستبني بها تلك الشركات عالمًا مُتصلًا؟!
إعادة إنتاج جغرافيا المال
جزء من تقرير «موردخاي شيزا» المحاضر في العلوم السياسية بجامعة أشكيلون الإسرائيلية ومتخصص في العلاقات الخارجية والاستراتيجية الصينية.
إن مضيق تيران هو مضيق تم تدويله بحُكم إتفاقية كامب ديفيد ومن ثم لا تملك مصر ولا السعودية إغلاقه، إضافة إلى أننا لسنا في زمن الحروب من أجل تصفية الاستعمار أو المؤازرة القومية أو دعم القضية الفلسطينية بعد. السياسة الآن تجارة ومصالح وأعمال سمسرة ومقاولات. ومن هُنا نحاول التقاط خيوط متشابكة.
أولًا: ماذا عن التوقيت؟
وبغض النظر عن قانونية انتماء الجزر إلا أن إثارة القضية في ذلك الوقت وبتلك الطريقة شيء يبدو مُربكًا بطبيعة الحال، في ظل عالم متغير تمامًا يُعيد تشكيل خرائطه لأول مرة بتلك القوة منذ سقوط المعسكر الشرقي وما يشهده العالم من تصاعد موجات شعبوية.
ثانيًا: لماذا تيران وصنافير في ذلك الوقت؟
مع الوضع المتأزم في الشرق الأوسط، يبدو أن خرائطه لن تظل كما هي أيضًا في ظل الاتفاق السعودي الأمريكي للتسليح والصراع السوري والتهديد بإلغاء الاتفاق النووي الأمريكي من إيران على جانب، وعلى جانب آخر مع الانسحاب الأمريكي من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي والتقارب الصيني الإسرائيلي بالتعاون المشترك في الداخل الأفريقي.
هذا إلى جانب مشروع خط سكك حديد إيلات و تصاعد الاستثمارات الصينية في إسرائيل وسيطرة الصين نفسها على مضيق باب المندب [13]، وقضية حوض مياه النيل وتصاعد العنف في سيناء وحركة التهجير لأهالي سيناء من المناطق الحدودية.
ثالثًا: هل لدونالد ترامب علاقة بما يحدث في قضية تيران وصنافير؟
يبدو السؤال هزليًا للوهلة الأولى، لأننا نتحدث عن ملياردير ورجل أعمال كبير وتاجر ومقاول صاحب نفوذ قبل أن يكون رئيس أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم.
تتحدث صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن دعوة لزيارة إسرائيل لدونالد ترامب، قدمها كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير (هو نفس رئيس الوزراء الذي رفض تسليم طابا بينما سلمه مبارك إيلات) ونائبه في ذلك الوقت شيمون بيريز عام 1989، باسم دونالد ترامب وشركته. خلال الزيارة أبدى ترامب اهتمامه ببناء كازينو في إيلات.
أما جريدة Ynetnews الإسرائيلية فتسرد تفاصيل زيارة المدير التنفيذي لمجموعة ترامب إيفانيكا ترامب لإسرائيل في مايو 2007، وإبداء نفس الرغبة التى أبداها والدها بعد 18 عامًا ببناء مبان سكنية ضخمة في تل أبيب وإيلات، تشاورت خلالها عن فرص الاستثمار وعُمدة المدينة في ذلك الوقت إيلى لانكري.
بعدها في 2008 –تقول صحيفة جلوبز الإسرائيلية– أرسل دونالد ترامب إلى بلدية إيلات متسائلًا عن فرص الاستثمار في المدينة، تتضمن تلك الاستثمارات ثلاثة أنواع: الأول يتمثل في بناء فنادق على البحيرة الشرقية والثاني بناء قاعة مؤتمرات، أما الثالث، فكان الأخطر وهو «المشاركة فى مشروع البوابة الجنوبية المخطط لها»؛ يقصد بالتأكيد مشروع بوابة إسرائيل الجنوبية إيلات وخاصة المشروع السياحي المُزعم إقامته في المدينة بعد توسعة الميناء.
ولأن ترامب مستثمر عقاري ماهر، فإنه في عام 2007 تم إيقاف مشروع برج ترامب Trump Plaza Tower، و بيع أرضه بمبلغ 80 مليون دولار بعد أن تم شراؤها بمبلغ 44 مليون دولار في العام السابق، وذلك في تلك الفترة التي كان فيها التوتر على أشده في حرب صيف لبنان 2006. وبعد عام 2009 تزوجت إيفانيكا ترامب من المستثمر الأمريكي ومستشار ترامب في البيت الأبيض جارد كشنر، وهو يهودي ابتدأ حياته ديمقراطيًا إلى أن انضم إلى حملة ترامب الانتخابية.
وفي تقرير هآرتس الصادر عن دونالد ترامب إبان الانتخابات الأمريكية منتقدة سياسات شركته الاقتصادية وقلة استثماراتها في إسرائيل، يقول التقرير على لسان عمدة تل أبيب إن ميشيل ديزر الأمريكي الإسرائيلي وشريك دونالد ترامب زار تل أبيب ثلاث مرات في طائرته الخاصة، وخطط لبناء بعض الفنادق على مساحة 38 فدانا بجانب البحر.
لذلك لا يُمكن الحديث عن ترامب كرئيس للولايات المتحدة فقط، لكن من حيث كونه مستثمرًا له مصلحة مباشرة في إعادة تشكيل والاستفادة من خرائط المال في الشرق الأوسط. إن حكاية التاجر اليهودي المُرابي «شيلوك» في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية The Merchant of Venice» الذي أقرض «أنطونيو» على أن يقطع من لحمه إن لم يسدد ديونه في الموعد شبح يُطل على العالم بأسره.. الآن أصبح شيلوك رجلاً أمريكيًّا أشقر يُدعى دونالد ترامب!
رابعًا: أين شبكة المصالح وكيف يتحرك المال في الجغرافيا؟
في 20 يناير 2017 نشر المحامي خالد علي على صفحته على فيس بوك وثيقة منسوبة للخارجية السعودية، يرد على استفسار سفارة اليابان في السعودية عن تبعية مضيق تيران، بتاريخ 23 نوفمبر 2012، موضحة أن المعلومات الفنية عن المضيق يُمكن الحصول عليها من الأمم المتحدة والشبكة العنكبوتية، مضيفة أنه «يبدو أن الغرض من ذلك يتجاوز المعرفة وقد يكون لأغراض أخرى».
ما هي الأغراض الأخرى يا ترى؟ تبعًا لما يُسمى الآن «رؤية السعودية 2030» بتعزيز الاتجاه شرقًا نحو آسيا و تنويع الإقتصاد بعيدًا عن النفط. زار الملك سلمان كلاً من ماليزيا وأندونيسيا وسلطنة بروناي واليابان والصين في الفترة بين 26 فبراير و18 مارس 2017، وقع خلالها اتفاقيات وشراكات خاصة مع اليابان والتعاون مع الصين لدفع التكامل بين رؤية السعودية 2030 ومبادرة الحزام والطريق – حسب قناة العربية السعودية – تلك المبادرة التي تدل على أولوية اهتمامها بالممر الملاحي المار من خليج العقبة كرابط لحركة التجارة .
تلك المبادرة التى اعتبرها مركز السادات – بيجين للدراسات الاستراتيجية الإسرائيلي خطوة على طريق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. وبعد التنازل عن الجزيرتين تصبح الفرصة متاحة للسعودية لاقتناص نصيب بإطلالها على ممر ملاحي مهم الذي تخطط له الصين وإسرائيل.
خامسًا: أين مصر من مبادرة الحزام والطريق؟
إن أمر الجزيرتين ليس سياسيًا ولا عسكريًا بل عملية منظمة لإعادة تشكيل وهندسة جغرافيا الشرق الأوسط، بإحياء مناطق جديدة وعزل مناطق أخرى بحيث يتحقق «السلام الدائم والشامل» من خلال علاقات اقتصادية يستطيع كل طرف فيها أن يضمن لنفسه حقوقًا استراتيجية، فيما سيتم توزيعه. وبرغم أن مصر ما زالت تطل على المضيق من الجهة الأخرى فى سيناء، إلا أن المشروع بأكلمه أبعد عن مصلحتها الاقتصادية لأنه يقلل من الأهمية الاستراتيجية لقناة السويس وخليجها.
إن قناة السويس وخليجها هما روح سيناء. والعزلة التي خافها جمال حمدان أن تصيب سيناء أصبحت الآن شبحًا جاثمًا على قلبها سواء من الداخل أو الخارج؛ في الداخل بعزلتها عن الوادي والدلتا وانحصار قبائل سيناء في دائرتهم المحلية والصورة النمطية عن أهالي سيناء في الإعلام المصري باعتبارهم تجار مخدرات وخارجين على القانون.
وفي الخارج بتحول العمق الاستراتيجي والجغرافي إلى خليج العقبة الذي وصفه جمال حمدان أنه «زقاق مغلق شبه مهجور». هذا الزقاق المغلق شبه المهجور سيُصبح – كما يقول نتنياهو –بوابة العالم الجديدة تصبح معه إسرائيل أكبر قوة بحرية إقليمية، ستفقد معه سيناء امتدادها الاستراتيجي الأصيل في الوادي والدلتا مرة بفصلها من خلال قناة السويس ومرة بفصلها عن حركة التجارة العالمية بتحويلها نحو خليج العقبة، لتتأكد هنا مقولة جمال حمدان عن عُزلة سيناء.
سادسًا: كيف تحول إسرائيل العزلة لفلسطين؟
بالنسبة لإسرائيل فإن الاتفاق الحالي سيقضي على العزلة الإسرائيلية في مقابل عزل الفلسطينيين في الضفة وغزة وتأمين مسار التنمية الإسرائيلية في الداخل، والتوغل في الصحراء المتاخمة للحدود المصرية.
وقد يفتح الطريق أيضًا أمام المشروع القديم لتحويل نهر الأردن لتخضير صحراء النقب، وإيلات كمنطقة اقتصادية حُرة ومشروع سياحي الذي حلم به بنجوريون ذات يوم. يبدو الحلم حقيقيًا الآن في ظل المراهنة الإسرائيلية على تمادي العنف في المنطقة، بما يُتيح استبدال قناة السويس بممر جديد للتجارة العالمية عن طريق خليج العقبة الذي يُعطي عمقه ميزة نسبية للملاحة أمام خليج السويس الأقل عمقًا.
كما يُعطي إسرائيل إمكانية تنافسية لضخ الغاز الطبيعي المستخرج من منطقة أشدود فاتحًا أمامها الأسواق الآسيوية الواعدة عبر بوابة البحر الأحمر. إسرائيل الآن هي الشرق الجديد وإيلات نقطة التقاء العالم بالعالم، وليس كما وصفتها مجلة هآرتس الإسرائيلية قبلا بأنها «القرية الميتة فى المياه».
جاء التعليق على تلك الصورة في إحدى الصحف الإسرائيلية كالآتي: «اللون الأزرق يوضح طريق الحرير التاريخي للتجارة القديمة. الأحمر يوضح التجارة القارية بين أوروبا والصين عبر بومباي. بينما اللون الأزرق السماوي يوضح طريق التجارة بعد تأسيس قناة السويس. أما الخريطة الصغيرة فتوضح مشاركتنا المستقبلة في كل ذلك».
البحث عن الاستعمار
إن الموقع الجغرافي والثروة الجيولوجية والطبيعية الضخمة، حتى صورة الشرق الفريد في مخيلات الاستشراقيين جعلت الشرق الأوسط منطقة جاذبة للاستعمار بالأصالة، نظرًا للتلامس الشرقي الأوروبي عبر المتوسط أو الحملات الصليبية أو حركة التجارة في عصور النهضة الإسلامية، ثم الاستعمار الحديث بموجاته الثلاث: الأوروبية وما أنتجه من شركات تجارية كونت إمبراطوريات إقتصادية مدعومة من القوة الرأسمالية في أوروبا، بل وحكمت مناطق حُكم فعلي [14].
ثم الموجة الصهيونية على الشرق العربي بالقوة العسكرية ثم بالتنازل السياسي وأخيرًا التطبيع السياسي، ثم الموجة الأمريكية التى ابتدأت بالقوة العسكرية وبدعم إسرائيل وانتهت بشركات متعددة الجنسيات، تُعيد الآن تشكيل جغرافيا الشرق تبعًا لحركة اقتصادها ومواضع مصلحتها يُساندها في ذلك تجار وإمبراطوريات مال وشيوخ نفط ورواد أعمال ومستثمرين عقاريين ومحاربين بالوكالة، وأصحاب شبكات بث تليفزيونية في الخليج والولايات المتحدة وإسرائيل ومصر وشمال أفريقيا.
لا ترتبط قضية تيران وصنافير بحدود بين دولتين بل بقضية الاستعمار أو كما يصفها جمال حمدان بـ«استراتيجية الاستعمار والتحرير». لقد اعتادت الدول الاستعمارية أن تقسم الحدود تبعًا لمناطق النفوذ السياسي، أما الجغرافيا اليوم فتتم إعادة هيكلتها لتُمهد الطريق أمام الشركات متعددة الجنسيات وإمبراطوريات المال.
وأمام كل هذا الكم من التشابكات في العلاقات بين الشخصيات والشركات وتدفقات الأموال عبر الحدود. وفي ظل تراجع دور الدولة ورفض السياقات المحلية المتمايزة (decontextualization) في ظل العولمة، يتحول المال إلى قيمة في نفسه، ورؤساء الدول إلى مُدراء لشركات ورواد أعمال يبحثون عن جذب للاستثمار والعسكريين إلى حماة لجغرافيا المال والعلماء إلى باحثين في فرص للوجود في هذا السوق الكبير.
ومن هُنا يأتي التأكيد الأمريكي الصهيوني على عملية السلام في الشرق الأوسط بالبدء من التعاون الاقتصادي الذي يجلب تصالحًا أو على الأقل تطبيعًا طويل المدى بين العرب وإسرائيل، لا يُمكن إلا أن ينتهي بسلام دائم. فمن هو الذي يتجرأ ويُحارب الرجل الكبير في المزرعة الذي يوزع عليه قوت يومه؟!
ارتبطت تلك السياسيات بالنيوليبرالية كسياسة اقتصادية نموذجها الأمثل أنتجها سلام فياض رئيس وزراء السُلطة الفلسطينية الأسبق، التي اعتبرت الموجة الثالثة من القومية الفلسطينة بعد المقاومة المسلحة الأولى، ثم اتفاقية أوسلو ثم جاءت الفياضية Fayyadism بتعاونها الاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي. والكاشف للأمر أن كل الوطنيات في الدول العربية بعد الاستعمار تمر بتلك المراحل لكن بمراحل متفاوتةـ لدرجة أن الجغرافيا والأرض التي ادعت كل تلك الدول القومية رعايتها أكثر حتى من البشر باتت تتهدد الآن ببساطة فتتنازل دولة عن أرض تعبيرًا عن الشكر أو بيعها.
إننا لا نتمسك بالأمس بقدر ما نتمسك بتاريخنا وثقتنا في رفض التبعية للاستعمار بأنواعه وأقنعته القديمة والجديدة. وإن فهم قضية تيران وصنافير في إطار من الوطنية الضيقة باعتبارها مجرد أرض يُمكن الحفاظ عليها أو التنازل عنها، أو وضعها في الإطار القومي العروبي القائل بأنه لا فرق بين مصريتها أو سعوديتها وأننا تنازلنا عنها لدولة شقيقة، أو التقليل منها بالنظر إليها في إطار رؤية الإسلام السياسي المتخيلة عن الحدود غير المعتبرة بين الدول الإسلامية دون اعتبار أننا نعيش في عصر حداثيّ تتحكم فيه ثلاثية متسلطة: الدولة القومية والقوة العسكرية وآلة الإعلام.
كل ذلك تقليل أكيد من دور تلك القضية في تحديد مستقبلنا القريب ومستقبل الأجيال القادمة، لكن من الواجب وضعها في موضعها الدقيق في جغرافيا المقاومة لـ«قوى الاستكبار العالمي» كما وصفتها أستاذة العلوم السياسية هبة رءوف.
تيران وصنافير معركة ضد الاستعمار والاستيطان والتهويد والتطبيع وكامب ديفيد والاستبداد والدعاية السوداء. تيران وصنافير معركة لصالح حقنا في المعرفة وقدرتنا الدائمة على الشرح والتفسير والبحث في ظل مناخ يكره التفكير. تيران وصنافير هي معركتنا من أجل العدالة والحكم الرشيد وحق الأجيال في المعرفة والانتماء. تيران وصنافير مصريتان.
[1] وائل عواد، موجة التصهين العربيّ.[2] صحيفة مصر فايف الإلكترونية على الرابط التالى: https://goo.gl/zs4m3j ، ثم مجلة النبأ الكويتية هُنا: https://goo.gl/87UtpX ، وتم تصحيح المعلومة في مجلة نبأ الإلكترونية: https://goo.gl/ORPaaD الغريب أنه تم نقل ذلك الإدعاء الكاذب على جمال حمدان الذي ادعته تلك المواقع الصحافية من قبل دكتور عادل عمار الذي تم تعريفه على موقع المركز الديمقراطي العربي بأنه«دكتور في الحقوق وخبير القانون العام مستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم امن المعلومات»: https://goo.gl/hd3bEp والأدهى من ذلك أن النص بأكمله تمت سرقته من الدكتور عصام أحمد غريب في بحثه «مضيق تيران في ضوء أحكام القانون الدولي ومبادئ معاهدة السلام» منشور على شبكة المعلومات القانونية العربية يُمكن الإطلاع عليه على هذا الرابط : https://goo.gl/wkd2lI[3] مضيق تيران في ضوء أحكام القانون الدولي ومبادئ معاهدة السلام، عمرو عبد الفتاح خليل، الهيئة المصرية العامة للكتاب،الطبعة الأولى، 1980،عدد الصفحات:234.الكتاب يوجد نُسخ منه فى مكتبة الملك فهد الوطنية. [4] نُشر هذا الكتاب بعد يونيه 1993 بعد شهرين من وفاة جمال حمدان عن كل من دار الهلال ومكتبة مدبولى، والذي يُعتبر طبعة منفصلة الفصل العاشر من الباب الثانى الذي يتحدث عن صحراوات مصر المُعنّون باسم «سيناء» في الجزء الأول من الموسوعة بحيث يُمكن اعتبارهما مصدرًا واحدًا للبحث عن تيران وصنافير في مشروع جمال حمدان.[5] جمال حمدان، شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان، الجزء الأول، صفحة 454، الطبعة الأولى، دار الهلال [6] 608 [7] 544 [8] جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير، الطبعة الأولى، دار الشروق ، القاهرة، 1983 [9] مقال وائل عواد [10] 541 [11] شخصية مصر،ص612 [12] We are building a connected World [13] يعتبر مضيق باب المندب البوابة الجنوبية للسفن العابرة من قناة السويس نحو المحيط الهندي.[14] يُقصد هنا الشركات التي أنشأتها الحركة الاستعمارية الأولى نحو الشرق بغرض التجارة منذ بدايات القرن الخامس عشر والتي تحولت إلى حكومات في بعض صورها مثل: شركات الهند الشرقية لهولندا والدنمارك والبرتغال وفرنسا والسويد، وشركات الهند الغربية لهولندا وفرنسا والدنمارك، وشركة لندن خليج هيدسون الكندية.