السفر عبر الزمن بين الأدب والسينما
28 يونيو/حزيران من عام 2009م.
شهد هذا التاريخ حفلة فريدة من نوعها، حفلة بدون كروت دعوة إعلان مسبق عن الموعد، صاحب الفكرة هو الفيزيائي الأشهر «ستيفن هوكنيج» وأقامها خصيصًا لمسافري الزمن القادمين من المستقبل.
قال (هوكينج) أنه قد مكث الليلة بكاملها منتظرًا ضيوفه، لكن أحدًا لم يأت على الإطلاق، وبناءً عليه، استنتج أنهم غير موجودين أصلًا، ولا إمكانية للسفر عبر الزمن إلى الماضي.
منذ بدء الخليقة بدأ تحدي الإنسان لقوى الطبيعة، ونستطيع القول –مجملًا- إن التوفيق حالفه ضد حواجز المكان، فرأينا كيف تسلح بالخيال قبل العلم؛ ليتمكن من الصعود إلى القمر، وبلوغ أعمق الأعماق. تبقّى -فقط- الحاجز الرابع العنيد، والذي يمكن القول إنه لا يقهر؛ إنه الزمن.
ويبدو أنه على قدر استعصاء الخصم، بقدر زيادة ما يُحاك من هالة قصص وروايات وأفلام.
فيعد (السفر عبر الزمن) الفكرة الأكثر شيوعًا، والتي يتعذر على أي كاتب خيال علمي الإفلات من شباكها.
إذا نزلت أي مكتبة عامة، وسألت روادها عن أقدم عمل يعرفونه حول (سفر الزمن)، ستنحصر الإجابات غالبًا في رائعة «هربرت جورج ويلز»؛ (آلة الزمن).
في حين سبقتها تجارب ليست بالقليلة، أقدمها يعود 400 عامًا قبل الميلاد؛ حيث ورد التيمة كأحد خيوط الملحمة الهندية (المهبهارتا)، تلاها في العصر الحديث؛ كتاب (مذكرات القرن العشرين) عام 1733م، بقلم القس «صمويل مادون» الملقب بـ«The Premium». تخيل مادون أن الترحال عبر الزمن مهمة أطهر من أن يقوم بها بشر، فجعل من بطل قصته ملاكًا يرجع إلى الماضي ليسلم السفراء البريطانيين أوراق تصف أوضاع الغد، بالتحديد، سنتا 1997-1998.
حتى الإنجليزى الشهير «تشاليز ديكنز» أدلى بدلوه في عام 1843م، فكتب «أغنية عيد الميلاد»، ثم سار في ركابه الأمريكي الشهير أيضًا «مارك توين»، برواية تحمل اسم «يانكي من كوناكيتيكت في حاشية الملك آرثر»، ربما يلخص العنوان موضوع القصة في حد ذاته.
جميع الأعمال السابقة تناولت سفر الزمن بشكل أسطوري أو خوارقي، فلم يأخذ الموضوع شكلًا علميًا جادًا إلا عام 1881م بظهور شيخ المستبصرين «بيج ميتشيل»، وقصته «الساعة التي تعود إلى الوراء».
انتقلت عدوى الجدية إلى فرنسا عام 1883م، ليلتزم بها «أوجين موتون» في قصته L’historioscope ، ثم جاء العام المميز 1895م، الذي اختلفت بسببه شهرة (سفر الزمن) قبله، عما بعده، ففي ذاك التاريخ صدرت الرواية الفارقة «آلة الزمن».
من منا لم يحجز تذكرة على تلك الرحلة، من منا لم تُكئبه رؤية (ويلز) المقبضة لمستقبل البشر، حيث ينقسمون إلى:
الإيلوى؛ الجنس المرفه الناعم الذي يمرح تحت الشمس، ويحيا حياة الأطفال، أبرز من يمثله (وينا)، الفتاة الرقيقة الواهنة التي تتعلق بعنق مسافر الزمن، وتدس الورود في جيبه أغلب الوقت.
والمورلوك؛ طبقة العمال الذين تشوهت إنسانيتهم، فيعيشون تحت الأرض، ولا يخرجون منها إلا لصيد طعامهم، طعامهم المتجسد في لحم نظرائهم (الإيلوى).
لا زلت حتى الآن عاجزًا عن التحديد؛ من منهما أولى بالتعاطف، ومن يجدر بنا كرهه.
هل أشمئز من الإيلوى باعتباره جنسًا تافهًا فارغ العقل، أم أتعاطف معه لأنه الفريسة؟!
والمرلوك؟، الطبقة الكادحة التي طالما تم استعبادها، فهل هذا مبرر كاف للتشوه، والاقتيات من أجساد أسيادهم السابقين؟
اتخذت القصة طريقها إلى الشاشة بأكثر من معالجة؛ أولهم عام 1960م من إخراج (جورج بول)، بينما آخرهم عام 2002م والذي جاء بنكهة إخراج عائلية هذه المرة، حيث قاد العمل (سيمون ويلز)، حفيد الكاتب العظيم.
ما لا يعرفه كثيرون، أنه بعد قرن كامل من صدور (آلة الزمن)، حصل «ستيفن باكسر» على إذن من ورثة (ويلز)، وأصدر جزءًا تاليًا من الرواية بعنوان (سفن الزمن Time Ships).
مثل هذه الخطوة تثير التوجس لدى أغلبنا، خشية تشويه الملحمة الأصلية، فهل نطمئن قليلًا لو علمنا مدى الإشادة بجرأة (باكسر)؟، بدليل حصول روايته اثنين من أرفع التكريمات في عالم الخيال العلمي؛ جائزتي «جون كامبل» و«فيليب ديك».
يوجد أيضًا نقطة تحول هامة لا يمكن أن نغفلها، فالعظيم «إيزاك أزيموف»، لم يرد أن تمر المسألة دون أن يدلي بدلوه عام 1955م، فمنحنا درته الخلابة «نهاية الأبد»، التي تحكي عن منظمة لمسافري الزمن، تستهدف الضبط والتغيير المستمر للتاريخ إلى الأفضل.
بطل الرواية هو عضو المنظمة «أندرو هارلان»، الذي انتهك قانونهم الداخلي، بأن وقع في الحب.
تجليات السفر عبر الزمن في الفن السابع
ملأ مسافرو الزمن أعينهم بالمنظر من حولهم؛ أرض ممتدة، أشجار، ديناصورات، راودهم فضول عارم للتقدم، لكن القوانين واضحة، يجب ألا يحتكوا ببيئة الماضي قدر الإمكان. فجأة وقع المحظور، وهوت قدم أحدهم دون أن ينتبه، لتسحق، فراشة، مجرد فراشة صغيرة!
بعد العودة، اكتشف الفريق أن عالمهم بأكمله تغير، طريقة نطق الكلام، طابع المباني، نتائج الانتخابات، لقد تسبب موت الفراشة في متسلسلة طويلة من التغييرات الصغيرة، وهذه هي النتيجة.
هذا هو ملخص قصة «صوت الرعد» لـ «راد برادبوري»، التي نشرها مطلع الخمسينيات. نسي العالم اسم القصة، بينما حفر في الذاكرة مصطلح «تأثير الفراشة»، ليظل حيًا حتى الآن، كأحد المعضلات التي شغلت فلاسفة السفر عبر الزمن.
من أشهر الأفلام التي تعرضت لهذه النقطة؛ ثلاثية «العودة إلى المستقبل».
تعرض الجزء الأول عام 1985م، لقصة «مارت مكفلاي»، الصبي الذي يعاني المشاكل في كل مكان؛ في المدرسة مع مديرته الصارمة، وفي المنزل مع أبويه المتشاكسين، فلا يجد السلام سوى مع الباحث اللطيف «ايميت بروان»، ونتيجة خطأ، يستقل الفتى سيارة مضيفه (الديلورين Delorean)، فيكتشف قدرتها على نقل قائدها إلى الماضي، تحديدًا إلى 15 عامًا للخلف.
التقى (مارت) بأبويه إبان فترة مراهقتهما، غير أن تطورًا دراميًا طرأ، بأن وقعت الأم في حب الابن، وهو ما يفتح الطريق أمام احتمالات كارثية، ماذا لو لم تتزوج والدته بالأب؟، هذا يعني أن (مارت) لن يوجد في المستقبل، وبالتالي لن تحدث الرحلة، وهكذا لن يلتقي والدته؛ مما يجعل الزمن يعود لسيره الأول، فتتزوج والده، وهكذا.
ثلاثية أخرى تتحدث عن المستقبل البعيد، عندما تسيطر الآلات على العالم، وكاد أن يستتب لها الأمر تمامًا، لولا مقاومة شرسة من القائد «جون كونر» ورجاله.
فأرسلت الروبوتات قاتلًا آليًا كلنا نعرفه، بل وترنّ عبارته الشهيرة في أذني الآن، على غرار (hasta (la vista baby و (I’m back).
نعني بالتأكيد عمدة كالفورنيا (أرنولد شوارزنجر)، في أحد أروع أدواره.
استمر تأثيرات الفراشة حتى عام 2004م عندما قدم «إيرك بريس» فيلمًا حول نفس الفكرة، وبنفس الاسم، تشارك في كتابته وإخراجه مع «جي ميكي جروبر»، بينما أسندت البطولة إلى وجه وأداء النجم الذي ارتاح إليه كثيرًا؛ «أشتون كوشنر».
يقوم كوشنر بدور الطفل «إيفان تريبورن» الذي أصيب باضطرابات نفسية نتيجة طفولته المعقدة.
كبر إيفان، وبطريقة عجيبة اكتشف تحول دفاتره القديمة إلى ما يشبه آلة زمن، نقلته إلى الماضي. لقد حل عقل (إيفان) الكبير في جسد نظيره أيام الطفولة، سعى الشاب إلى محاولة تغيير الأحداث التي دمرت صباه، فيتضح له أن كل تغيير مهما كان بسيطًا، يؤدي لتحول غير متوقع في الحاضر كذلك.
نترك الفراشات لحالها، وننتقل إلى أشكال أخرى طرحتها السينما من السفر عبر الزمن. يفترض أن الزمن يسير عادة إلى الأمام في خط مستقيم؛ بالتالي، عندما يتحرك في دائرة تعيد نفسها، نعتقد أن هذا شكل مختلف جدير بالملاحظة.
هذه هي الفكرة التي طرحها فيلم Groundhog Day عام 1993م، الإذاعي المغرور (فيل) كاد أن يجن، فتفاصيل اليوم تتكرر نفسها مرة بعد مرة، ليتم تناول هذه المعضلة بشكل كوميدي.
تجربة أخرى شدتني شخصيًا، تحمل اسم «شفرة المصدر». الموضوع هنا يتعلق بالجندي (كولتير) الذي يستيقظ ليجد نفسه في عالم برزخي، أو –للدقة- مكان مظلم ومغلق إلا من شاشة، يلقنه العسكريون من خلالها تفاصيل مهمة غريبة؛ سنزرع وعيك في جسد راكب قطار، ومطلوب منك اكتشاف الإرهابي الذي قام بتفجير الجميع هناك، أمامك 8 دقائق بالضبط، ولا يهم إن فشلت، سنعيد التجربة مجددًا مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، …إلخ، ومن ثم تستطيع تقصي الركاب فردًا فردًا.
من خلال التكرار، تمكن (كولتير) من تذكر ماضيه الشخصي أيضًا، إنه «كولتير ستيفينس»، قائد مروحية أصيب في أفغانستان، ويغرق حاليًا في غيبوبة عميقة بجسد نصف ممزق، فاستغله الباحثون في برنامج أمني يدعى (شفرة المصدر)، يمنح العقول نوعًا مقيدًا من السفر إلى الماضي.
أعجبتني معالجة الفيلم، نجح بالنسبة لي في اكتساب طعم مختلف، كما لفت نظري بشكل خاص أداء الممثل (جيفري رايت) في دور مصمم البرنامج البروفسر (رتليدج)، وفي نفس الوقت، أستغرب -في العموم- من عدم نيل (جيك جلينهال) -بطل الفيلم- المكانة التي تناسبه، وكونه أقل حظًا من نظرائه، كبار وسيمي هوليود.
كل ما سبق في كفة، وفيلم إنترستيلر في كفلة أخرى. انتظر كثيرون فيلم كريستوفر نولان الجديد، وتوقعوا –كالعادة- صورة بصرية مميزة، بالإضافة إلى حبكة متقنة؛ لدينا مجموعة مستكشفين، وثقب دودي، يستقلونه ضمن رحلة بحث عن كوكب آخر صالح للحياة.
وصدق أو لا تصدق: ساهم فيلم (إنترستيلر) في إهداء سبق علمي جديد!
فقد استعان (كريستوفر نولان) بالفيزيائي «كيب ثورن» –هل تذكرونه؟ تم الحديث عنه بالتفصيل أعلاه، وطلب منه التعاون مع فريق المؤثرات، فهو الأقدر على إنتاج صورة واقعية لما تكون عليه الثقوب السوداء، نلاحظ أن (ثورن) نفسه –أيضًا- لم يتعامل مع الثقوب إلا من منظور رياضي، لذا تشوق هو الآخر لمشاهدة النتائج بعينيه، لا بالأرقام.
بعد معالجة الحاسب لـ 800 تيرابايت من البيانات، أثمر المجهود عن الشكل النهائي الذي رأيناه في الفيلم، كان الظن السائد –سابقًا- أن الثقب يأخد شكل قرص أسود حوله هالة، للمفاجأة، أثبت الفيلم وجود أخطاء بذاك التصور؛ مما جعل الفيزيائيين يصححون معلوماتهم.
للمرة الألف، لا يكف الفنانون والأدباء عن استباق العلماء!