الوقت والزمان في التصور الإسلامي: هل يمكن إدارة أوقاتنا؟!
لا يزالُ المسلمُ يلتمس معاني الحياة في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وفي قصص الماضين والمعاصرين علّه يجد سلوته، ويلتمسُ ضالته، ويهتدي إلى ما يبحث عنه، وموضوع مثل «إدارة الوقت» مهم في هذا العالم السريع المتقلب؛ ذلك أن عمر الإنسان يفنى في غمضة عين وهو لا يزال يُؤمّل من الحياة ما ينفع به دنياه فضلا عن أخراه، فلا يبقى أمامه إلا النظر في استثمار عمره فيما ينفعه ويفيده، وقليل من يروم ذلك ويراه من هذا المنظور!
الوقت في تراثنا
ولأجل هذا المعنى العظيم، أقسم ربنا في كتابه العزيز بالزمن في مواضع عديدة منها قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1، 2]، وقوله ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 – 4]، وقوله ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل: 1، 2]، وقوله ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضحى: 1، 2]، وهي في جُلّها قَسَم، فلولا أنها عظيمة في ذاتها، مهمة في شأنها ما أقسم ربنا بها، فهي آيات من آياته البيّنات.
إن الزمان ممتد والإنسان فانٍ، حقيقة مؤكدة لا تحتاج إلى دليل، بيد أن أولئك الذين نحملهم على أعناقنا كل يوم فنواريهم الثرى، وهم الأحباب والأقرباء والأصدقاء والأخلاء تؤكد أننا كلنا راحلون، وأن ساعة الفناء قادمة لا محالة، ففي القبر يغيب الزمان، ويرجع الأبناء والإخوان والمال العزيز، ويبقى العمل.
والعمل كان ميدانه الزمان المنقضي، والزمان نسبي سريع فاتك، كأنه الوقود الذي يتكئ الإنسان من خلاله على سيارته الأنيقة ليصل به إلى مبتغاه، فإذا فني الوقود في سلوك مسالك الخطيئة والذنوب والمعاصي، وفي النوم والكسل وأمراض النفوس؛ لم ينجُ الإنسان في صحراء الحقيقة، وبيداء التنافس للآخرة، ولم يجد ماء زلالاً يبقيه ليكمل طريقه ولو لهثًا!
لقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الأمل أقوى من الزمان، وأن هذا الأمل الذي يأخذ الإنسان من الواقع إلى الخيال ضرب من ضروب الخطر، ومسلك وعر لا يقدر أحد على النفاذ فيه، ذلك أن الأجل أسرع من الأمل!.
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه: «خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخطّ خطا في الوسط خارجا منه، وخطّ خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الإنسانُ وهذا أجلُه محيطٌ به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارجٌ أملُه وهذه الخُطط الصغار الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشَهُ هذا، وإن أخْطَأه هذا نَهَشَهُ هذا»[1] ، وفي رواية أنس – رضي الله عنه – فيما أخرجه البخاري أيضًا في ذات الباب قال: «خَطَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأقْرَبُ)».
لقد مثّل «النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) أملَ ابن آدم وأجله وأعراض وحظوظ الدنيا التي لا تفارقه بالخطوط، فجعلَ أجله الخط المحيط، وجعل أمله وأعراضه وحظوظه خارجة من ذلك الخط، ومعلوم في العقول أن ذلك الخط المحيط به الذي هو أجله؛ أقرب إليه من الخطوط الخارجة منه.
ألا ترى قوله: (صلى الله عليه وسلم) في حديث أنس: (فبينا هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ) . يريد أجله؟! وفى هذا تنبيه من النبي (صلى الله عليه وسلم) لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غُيّب عنه أجله فهو حري بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمنُ نفسه على استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك، فإن ابن آدم مجبول على الأمل كما قال (صلى الله عليه وسلم) في الباب بعد هذا: (لا يزال قلبُ الكبير شابًا في حبِّ الدنيا وطول الأمل)»[2].
بل كشف النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث نبوي شريف أن سؤالاً من الأسئلة الأربعة الكبرى التي سيُسأل عنها العبد يوم القيامة تتمثل في عمره وكيف استغله أو أضاعه، قال (صلى الله عليه وسلم): «لا تزول قدما العبدِ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمرِه فيما أفناهُ، وعن عِلْمِه ما عَمِل فيه، وعن ماله من أين اكتسبَه وفيما أنفَقَه، وعن جَسَدِه فيما أبلاه»[3].
ومن هنا كان الاستثمار في الوقت أنفع للإنسان العاقل اللبيب الذي يرى هذه الحقيقة ويفهمها، يعلم أنه راحل عما قريب، مهما طال به الأمد والأمل، فلا يجد أمامه إلا استثمار عمره فيما ينفعه، يمتثل أمامه قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] فيعلم أن التقوى زاد القلوب والأرواح، منه تقتات، وبه تتقوى وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، وأولو الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد!
وإن أنت أنعمتَ النظر، وتأملت في حديث النبي وسيرته؛ رأيته ينصح أصحابه بالظفر بأعمارهم، وأوقاتهم، لقد نصحr ابن عمر – رضي الله عنه- فيما يحكيه لتلميذه مجاهد، قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ، وعد نفسك في أهل القبور.
فقال لي (أي لمجاهد) ابن عمر: إذا أصبحتَ فلا تُحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسك بالصباح، وخُذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا !»[4].
وهو ذات المعنى الذي نصح به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحابي آخر من أصحابه، قائلاً: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[5]، ففي هذا الحديث ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) العُمر مرتين، مرة في الشباب وهي قمة منحنى العمر في الطاقة والقوة والقريحة والنشاط، وفي الفراغ، وهو ضياع الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد!
ومن ثم، لم تكن إدارة الوقت والعمر في التصور الإسلامي تعني أن يخلد الإنسان إلى الجبر منتظرًا المنية بلا عمل، وأن يغلق على نفسه بابه متعبدًا لله، كأنه من أولئك العبّاد الأولين، والرهبان الأقدمين الذين كانوا يُغلقون على أنفسهم صومعاتهم فلا يكاد يعرفهم أحدًا، فالوسطية التي امتازت بها هذه الأمة الأخيرة تعني التوازن، ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده ورواه من طريق أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: «إن قامت الساعةُ وبيد أحدكم فسيلةً فإن استطاعَ أن لا يقومَ حتى يغرسها فليفعل»[6].
إدارة الزمان
ومن هنا كان لزامًا علينا أن نغوص أكثر لنعرف ما هو الوقت؟ وكيف يمكن إدارته؟ وهل يمكن حقًا أن يتحكم الإنسان في وقته؟!
لقد ذكر فيلسوف ألماني عاش في القرن الثامن عشر الميلادي أن «الوقت ليس سوى توالي الحوادث، لا وجود له بنفسه، بعبارة أخرى ليس الوقت مادة كائنة بذاتها لها أي قيمة لوحدها، وإنما هو ماذا يحدث من خلاله، وماذا حدث وسيحدث في المستقبل؟ هذه هي النظرة الواقعية للوقت»[7]. أما ما اعتمده كثير من الباحثين في إدارة الوقت من معنى؛ فهو ما جاء في القاموس الأميركي المشهور وابستر الذي يقول بأن «الوقت هو سلسلة متصلة من أحداث يتبع أحدها الآخر في الماضي مرورًا بالحاضر إلى المستقبل».
إذن، الوقت هو مادة الحياة، ولا يمكن ادّخاره، ولا يمكن توقيف مروره على أحد، ولا يمكن تعويض الضائع منه، ويُصرف بأنصبة متساوية بين البشر: 24 ساعة في اليوم لكل فرد، فإذا كان الوقت الآن يشير إلى الساعة الواحدة ظهرًا وأشعرُ بالنعاس، أأستطيع تغيير هذا الوقت ليكون منتصف الليل؟ ثم بعد نوم وراحة أُكمل نهاري مثلاً؟!
إن إدارة الوقت هي بخلاف ذلك بلا ريب، فالإنسان لا يستطيع التحكم بالوقت ذاته، بل بما يقوم من خلاله، ويؤكد على ذلك خبراء إدارة الأعمال والوقت، ومنهم صاحب كتاب «كيف تكون عمليًا أكثر» هذا المفهوم فيقول: «بالطبع الوقت لا يمكنك أن تديره، فالوقت يوجد كمجموعة من المقاييس التي تُسجل بدوران الأرض حول محورها، وحول الشمس، فمسيرها ثابت لا يتغير، فلا يمكنك تسريعها ولا إبطاؤها ولا توقيفها تمامًا.
وكما يُقال في المثل: إن الوقت لا ينتظر إنسانًا، أما الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نديره فهو استغلالنا للوقت»[8]، ولذلك يقول ماريل دوجلاس أحد أشهر من كتبوا في إدارة الوقت: «توقف عن الاهتمام في كيفية توفير الوقت، لكن ركز جهودك في كيفية صرفه»[9].
من هنا كانت جل الكتابات التي تتناول «فن إدارة الوقت» تركز على قائمة عمل شاملة منظمة تنطلق من ضرورة أن يضع الإنسان لنفسه خطة بادئًا بالأولويات، وآليات تنظيم هذه الخطة، ووضع الوسائل التي تُعِينُ المرءَ على الاستفادة القصوى من وقته في تحقيق أهدافه.
إن الاستفادة من الوقت هي التي تحدِّد الفارقَ ما بين الناجحين والفاشلين في هذه الحياة، فالسِّمةُ المشتركة بين كل الناجحين هي قدرتُهم على الموازنة ما بين الأهداف التي يرغبون في تحقيقها، والواجباتِ اللازمة عليهم، وهذه الموازنةُ تأتي من خلال إدارتهم لأوقاتهم كما أثبت ذلك كل الباحثين في هذا المجال الذي صار علمًا يُدرس، وتقام من خلاله الندوات والمحاضرات والدورات المتخصصة، وهو ما سنتوسع في بسطه لاحقًا إن شاء الله.
- البخاري: كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله 5/ 2359 ح6054
- شرح صحيح البخاري لابن بطّال 10/ 150. تحقيق ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الطبعة الثانية – الرياض، 2003م
- مسند أبي يعلى 13/ 351 ح7434، والمعجم في الكبير 11/102 ح11199، والأوسط للطبراني
- سنن الترمذي 4/ 567 ح2333. وقال الألباني: صحيح
- المستدرك على الصحيحين للحاكم 4/ 341 ح7846، والبيهقي في شعب الإيمان 12/ 476 ح9767، والنسائي في السنن الكبرى 10/ 400 ح11832
- مسند أحمد 3/ 191 ح13004. وقال الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم
- Richard I Winwood, Time Management, p.4. نقلا عن إدارة الوقت بين التراث والمعاصرة
- محمد أمين شحادة: إدارة الوقت بين التراث والمعاصرة ص110. سلسلة الرسائل الجامعة، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى – الدمام، صفر 1427ه