هكذا تكلم أحمد خالد توفيق: رسالة إلى صديقي العزيز
العزيز/ أحمد خالد توفيق
هذه رسالتي الأولى لك وللأسف قد تأخرت كثيرًا، وإنني لنادم على هذا، لكن لا بأس فكما علّمنا بطلك العجوز رفعت إسماعيل فإن الحب لا يفنى حتى تحترق النجوم، سأكتبها إذن على أي حال وأنا أثق أنها ستجد طريقها إليك بصورة أو بأخرى.
حسنًا لن أجعل هذه الرسالة رثاءً مُعتادًا لك يا صديقي العزيز –اسمح لي أن اعتبرنا أصدقاء مُقربين فأنا أعلم أنك أيضًا تعتبرني صديقًا لك، وأنك عندما كتبت لي ذات مرة إهداءً «إلى العزيز محمود» كنت تعنيها حقًا– وإن كنت تستحق الرثاء والبكاء عليك كثيرًا، لكن لأن الأشياء المعتادة تثير مللك وكما لوّنت حياتنا بمئات الحكايات فلا يوجد أفضل من أن نسرد حكايتنا الذاتية معك بدلاً من عبارات الرثاء المعتادة. لنحكي إذن حكاية صديق قديم، وهي حكاية ذاتية لكن تصادف تكرارها مع الكثيرين.
أحاول أتذكر متى كانت البداية، لا أتذكر على وجه اليقين، أتجادل مع أخي، أخبره أنه في البدء كانت هناك تلك الفتاة التي سأكتشف فيما بعد أن روحها تشبه روح «عبير عبد الرحمن» بطلة فانتازيا. في شوارع بولاق الدكرور الضيقة تدلف اليمين الأخير قبل اجتيازك كوبري المشاة، في الشارع الرابع من جهة اليمين ستجدها. بابتسامتها الساحرة تستقبلنا فتاة المكتبة، حارسة بوابة عالمنا السحري، من ورائها تقبع بضعة أرفف تحتوي مصدر سعادتنا، هناك يمكنك أن تجد عوالم من الرصاص المتطاير، ستشاهد أدهم صبري الذي ينتصر دومًا وهو يركل أعداءه بأطرافه الأربعة، وبجانبه يجلس «نور الدين محمود» بسلميته ومثاليته المفرطة، يفكر هل ما يحدث إرهاصات غزو فضائي جديد أم ماذا، ومن بعيد يمكنك أن تلمح «بو عمير» من الجزائر يتقدم ثلاثة عشر فتى وفتاة في مهمة جديد لإنقاذ عالمنا العربي، وإن أرهقتك الدماء والرصاصات يمكنك أن تركب دراجتك وتطارد «تختخ» وأصدقاءه في شوارع المعادي الجميلة وتضحك مع الشاويش «فرقع».
فتاة المكتبة أهدتنا مئات من الليالي الساحرة كالأحلام لكنها لم تكتفِ بهذا، في إحدى الليالي الصيفية التي كنت ذاهبًا فيها لاستعارة كتاب جديد قررت أن تخبرني أنه يوجد ليالٍ أكثر سحرًا وعوالم أكثر فتنةً وجمالاً، تسألني لماذا لا أجرب أن أقرا لـ أحمد خالد توفيق، لا أعرف هل كانت تعرف أن هذا الاقتراح سيغير حياتي للأبد، هل كانت تعرف أن الكتاب الذي اقترحته هو مدخل لعوالم أجمل، عوالم أكثر رحابة، أم أنها فقط كانت تروِّج لبضاعة جديدة لديها؟ لا أعرف، لا يهم. في بيت جدتي (في البلكونة) وفي ليلة مُقمِرة أبدأ في قراءة الكتاب الذي اقترحته الفتاة، هكذا كانت البداية.
يتذكر أخي فتاة المكتبة فيبتسم لكنه لا يوافقني أن البداية كانت هناك، يخبرني أن البداية كانت كالتالي: عصر يوم بارد، بعد يوم دراسي طويل، عند العجوز الذي اعتاد أن يجلس بكتبه عند سور مدرسته الإعدادية والذي كان حارسًا لبوابة أخرى لعوالمنا السحرية، لمح أخي كتاب باسم «مصاص الدماء وأسطورة الرجل الذئب»، فيُقرِّر سريعًا أن يشتريه، من هنا كانت البداية، يؤكد لي.
أوافقه أن البداية كانت مع قصة «مصاص الدماء وأسطورة الرجل الذئب» لكنني أصر أن فتاة المكتبة هي من اقترحته وليس عجوزه، نتجادل كثيرًا ثم نبتسم للذكريات الباسمة، ففي النهاية لا يهم. ما يهم حقًا أننا ملكنا كنزنا المتمثل في بوابة لعوالم أكثر سحرًا، كان أول من قابلنا فيها صديق جديد عجوز ملول غريب الأطوار لكنه أجمل من كل الأبطال الخارقين الآخرين في «بذلته الكحلية التي تجعله فاتنًا»، ثم تتابع أصدقاؤنا الآخرون من هذه العوالم، التي كانت تحمل دومًا توقيعه (أحمد خالد توفيق).
كنت طفلاً عمره عشر سنوات عندما عرفت أحمد خالد توفيق للمرة الأولى، والآن أنا شاب يملك من العمر سبعة وعشرين عامًا، لم أتوقف خلال كل تلك السنين عن القراءة لصديقي، كان إعجابي يزداد به يومًا تلو الآخر، أدمنت حكاياته.
قرأت الكثير والكثير لكن تظل قصصك يا صديقي هي الأجمل بلا منازع، فكل سطر كتبته له ذكرى خاصة عندي: ليلة عيد أقرأ فيها قصة العلامات الدامية فأشعر بونس لا زلت أبتسم وأحن إليه وأتمنى استعادته كلما أثقلت سرعة الحياة الحالية وضغوطها روحي. أغنية Eleanor Rigby التي أحبها حتى الآن عرفتها لأول مرة من سطور «أسطورة الرجال الذين لم يعودوا كذلك»، أحببتها من وصفك الجميل لأحداث القصة على إيقاع نغماتها.
قراءتي لقصصك صباح نجاح مبهر في حياتي، أو فجر رحلة لأسوان. ليلة هزيمة شخصية أخفف أثرها بقصصك. أول مرة أذهب لوسط المدينة وحيدًا كان من أجل شراء قصة أخرى من قصصك. صديق عمري جمعتنا قصصك، وربما زوجتي المستقبلية ستكون أحد عشاقك. محاولاتي الخجولة للكتابة اقتداءً بك، ثقتي التلقائية بكل من يحبك. حبي لسخريتك اللاذعة ورؤيتي للناس بفكر رفعت إسماعيل، أدين بمعظم معلوماتي الحالية لك ولقصصك. تتغير أسماء الكُتَّاب الذين أشتري كتبهم من معرض الكتاب كل عام، لكن يظل هناك شيء وحيد ثابت، قصة أخرى لرفعت اسماعيل وكتب جديدة لأحمد خالد توفيق.
يزداد عمري فأكتشف العديد من الأشياء الأخرى التي تربطني بك يا صديقي، فمثلاً أحب فصل الخريف لعدة أسباب، أحدها هو أنك لفت نظري لجمال هذا الفصل الذي لا يحمل قيظ الصيف الخانق ولا برودة الشتاء الكئيبة بوصفك الجميل لأجوائه ولقصص الحب التي تنشأ فيه. مرات عديدة أرى القمر يكتسي بلون دموي فأتذكر مستذئبي رفعت إسماعيل وأشباحه. أدخل في العديد من قصص الحب فأكتشف أنه ربما أكثر صفة أحبها في الفتيات هي تلك التي تحدثك بعفوية كأنها تعرفك منذ زمن بعيد، مثلما كتبت أنت مرات عديدة ولا أعرف هل أحببت هذه الصفة لأنك زرعتها في ذهني أم أنك فقط وصفت ما أحبه. أحد أسراري الصغيرة أنني تخلصت من إعجابي الشديد بإحدى الفتيات بعد أن وصلت الأمور بيننا لطرق مسدودة، بأنني أخبرت نفسي هي لا تعرف رفعت إسماعيل، إذن في الأغلب هي لن تفهمني.
ازددت نضجًا، وقامت الثورة لنلعن الكثير من الذين كنا نعتبرهم رموزًا بعد أن هاجمونا، فقط لأننا اختلفنا معهم، لكن لا يحدث هذا معك ليس لأنك لم تختلف معنا، فأنت اختلفت كثيرًا مع آرائنا لكنك كنت الوحيد الذي نعرف أنه لن يهاجمنا لأننا نخالفه في الرأي، بل تستمع إلينا ونحن نخبرك بكل جرأة أن وجهة نظرك خاطئة، تناقشنا وتتقبل أن لنا تفكيرنا المستقل واختياراتنا الخاصة رغم أنك ترى أنها خطأ، لهذا أحببناك يا صديقي، فأنت على الدوام كنت أبًا حنونًا وصديقًا يتقبل اندفاعنا.
منتصف يناير/كانون الثاني 2015، أستعد لدخول الجيش بعد أيام قليلة، عرفت أنك يا صديقي موجود في مكتبة ديوان لتوقيع كتاب «شربة الحاج داوود». إحباط ما قبل الجيش يسيطر عليّ، أفكر للحظات ألا أذهب، لكن أخي يشجعني، أتذكر كل الليالي السحرية التي منحتني إياها، في غضون دقائق أكون أنا وأخي متجهين للزمالك لنقابل صديقنا الأثير للمرة الأولى، كانت تلك المرة الأولى والوحيدة التي قابلتك فيها.
أخبرتك بفرحة طفل صغير أنني أعشق كل ما كتبت، ترد بابتسامتك المرهقة الرائعة وبتواضعك المعتاد على إطرائي، لا أتذكر ماذا قلت فأنا حينها كنت منتشيًا بأنني قابلت بطل طفولتي أخيرًا. ربما ألقيت إحدى دعاباتك التي طالما أضحكتني، ربما سألتني عن رأيي فيما تكتب. لا يهم بتاتًا، فالأمر بالنسبة لي كان أشبه بطفل صغير يقابل بطوط أو سوبرمان للمرة الأولى، بالتأكيد لن يهتم الطفل بما قاله سوبرمان فمشاعره حينها ستطغى على أي شيء. يكتب صديقنا على الصفحة الأولى للكتاب هذا الإهداء «إلى العزيزين م/محمود ود/أحمد سعدت بلقائكما». تزداد سعادتي، أودّعك في جذل وفرح طفولي لا يتناسب مع عمري غير عالم أنني لن أراك ثانية.
هذه لمحات من ذكرياتي المشتركة معك يا صديقي، وأنا أثق أن كل من قرأ لك وأحبك يملك ذكريات مشابهة لهذه. عند كتابتي للمقالين السابقين عن عالم رفعت إسماعيل قرأت العديد من المقالات عنك وعن رفعت، أجد نفسي أمام سيل من الذكريات المماثلة لذكرياتي، تكتب صديقة:
قمت بمثل هذا الفعل تمامًا، فقط كانت الأستاذة تُسمى «رضا»، وكانت تلقي دروس التاريخ في الصف الأول الثانوي، وطالما تحدث الكثيرون من أصدقائك عن وضع كتبك وسط الكتب الدراسية، تفصيلة صغيرة ربما تُضحِك البعض، لكنها في حقيقتها ظاهرة تستحق الدراسة تدل على عمق العلاقة التي صنعتها بين قرائك.
أشعر أنني أنتمي لكل هؤلاء الذين يحبونك يا صديقي بشكل أو بآخر. هل تعرف –بالتأكيد تعرف فأنت من علمتنا– أن أقسى ما يمكن أن يشعر به الإنسان هو الوحدة؟ أن يشعر أنه لا يوجد أحد يفهمه أو يهتم بما يهتم به، كلما شعرت بهذا أتذكر أصدقائي الذين يحبون حكاياتك، فأعرف أنني بالتأكيد لست وحيدًا، وأنني أملك ذكريات مشتركة لدى مئات الآلاف من أشباهي الذين قرأوا لك يومًا ما. عندما أعلنت وفاة عجوزك رفعت إسماعيل، كتب أحد الأصدقاء المحبين لعالم العجوز هذه الكلمات في رثائه:
أفكر الآن أن هذه الكلمات تصلح لوصف محبيك وليس محبي رفعت إسماعيل وعالمه فقط، أضيف لهذه الكلمات كلمات أخرى من كتابتك أنت تصفنا أيضًا:
يصنف البعض أعمالك أنها طفولية لكنهم لا يرون كيف أثرت في كل هؤلاء، كيف أنشأت روابط متينة بين مئات الآلاف لا يعرفون بعضهم البعض، ويتناسون أن ما فعلته لا يقوم به إلا أديب حقيقي يملك الكثير من لمحات العبقرية.
تخبرنا أسطورة الإخوة الثلاثة في عالم هاري بوتر أن «الأخ الأصغر أخيرًا رحل مع الموت كصديق قديم»، هكذا فعل العجوز رفعت إسماعيل بعد أن فرغ من حكاياته المسلية، وهكذا أتصور أنك فعلت يا صديقي واقتفيت أثر عجوزك ورحلت في سلام… وهكذا أتمنى أن أتعلم منكما.
أخيرًا… لم أشعر يومًا أنني قد ودعتك بما يليق بك عزيزي دكتور «أحمد»، لكن الآن فقط وبنهاية ثلاثية المقالات تلك أستطيع أن أقول لك وداعًا أيها الصديق، لن أقول وداعًا أيها الغريب، فأنت أبدًا لم تكن غريبًا، لم تكن أبدًا «لحنًا سمعنــاه لثــوانٍ مــن الدغـل… ثم هززنــا رؤوسنا وقلنـــا أننــا توهمنــاه…»، بل كنت لحن طفولتنا الدائم السعيد، ورفيق مراهقتنا الصبور، وصديق نضجنا الذي ظل المرة بعد الأخرى ينتشلنا من إحباطنا وانكساراتنا دون أن يكل أو يمل.
سأحبك للأبد يا صديقي، سأحبك حتى تحترق النجوم، وسأظل أردد حكاياتك دون ملل إلى أن نلتقي ثانية.
صديقك محمود…
اقرأ أيضًا: «هكذا تكلم أحمد خالد توفيق: أسطورة رفعت إسماعيل».
اقرأ أيضًا: «ما وراء الطبيعة: أشباح وأصدقاء وعجوز اسمه رفعت».
- مقال بعنوان “إنهم يقولون، ماذا يقولون؟ دعهم يقولون…” كتبته الصديقة شيرين ثابت لـ موقع قل.
- مقال بعنوان: “آثار أقدام على الرمال” كتبه الصديق أحمد جمال سعد الدين لموقع قل.
- أسطورة العشيرة.