كيف نشأت الرأسمالية؟

في القرن السادس عشر، في عصر جديد من بحارة المحيط، كان قد تكون نظام جديد في بريطانيا. فالتجار الذين كانوا يرهنون ثرواتهم لخوض الرحلات التجارية البحرية ما انفك أن تملكهم العوز إلى درجة خاصة من الدعم، تمثل في تكلفة السفن، ونفقات الطواقم البحرية أثناء الرحلات التي تدوم لأشهر، وأحيانًا تستمر لسنوات. وكذلك التوجه إلى إنشاء مشروعات رأسمالية ضخمة مثل: شركة الهند الشرقية (1600)، وشركة هدسون باي (1670)، وشركة البحر الجنوبي (1711). فكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذه الحركة الاقتصادية هو تأسيس الشركات المساهمة أو ما كان يسمى وقتها بالشركات الممنوحة من التاج الملكي. حتى بنك انجلترا عندما تأسس في 1694م، كان مُؤسسًا على بنود شركات المساهمة، والتجار الذين موَّلوا قرض الحكومة الأوليّ من البنك، نالوا حصة من الأوراق المالية في الشركة الجديدة، وبالتالي فإن الحركة التجارية البريطانية والانفتاح على أسواق جديدة كان السبيل الأول لتمكين المفاهيم الأولية للرأسمالية وتكونت طبقة من الرأسماليين التجاريين.

لعبت الثورة الصناعية لاحقا دورا كبيرا في تطوير النشاط الاقتصادي. فقد وصلت لصناعة الغزل والنسيج بعد قيام الإنجليزي جيمس هارجريفز باختراع دولاب الغزل؛ وهو آلة تُمكِّن الفرد من إنتاج عدة بكرات من الخيط في وقتٍ واحد. وقد تطوَّر إلى آلات أخرى لاحقًا. كان المغزل الكهربائي اختراعًا هامًا آخر في صناعة النسيج؛ وهو الذي ميكَن عملية نسج القماش، وطُوِّر في ثمانينيات القرن الثامن عشر على يد المُخترِع الإنجليزي إدموند كارترايت. كما لعبت التطوُّرات في صناعة الحديد دورًا مركزيًا في الثورة الصناعية، اكتشف الإنجليزي آبراهام داربي في بداية القرن الثامن عشر طريقة أرخص وأسهل لإنتاج حديد الزهر باستخدام فرن يعمل بفحم الكوك (بدلًا من الفحم النباتي). وفي خمسينيات القرن التاسع عشر طوَّر المهندس البريطاني هنري بيسيمر أول عملية رخيصة لإنتاج الحديد بالجملة. أصبح كلٌ من الحديد والصلب مواد ضرورية تُستخدَم لصنع كل شيء؛ بدءًا من الأجهزة والأدوات والآلات إلى السُفُن والمباني والبنية التحتية. المُحرِّك البخاري كذلك كان مُكمِّلًا للتصنيع، طوَّر الإنجليزي توماس نيوكومن أول مُحرِّك بخاري عملي عام 1712م (والذي كان يُستخدَم بصورةٍ أساسية لضخ المياه خارج المناجم)، وطوَّر المُخترِع الاسكتلندي جيمس وات في سبعينيات القرن الثامن عشر من عمل نيوكومنت وانتقل المُحرِّك البخاري إلى الآلات الكهربائي والقطارات والسُفُن خلال الثورة الصناعية.


ما هي الرأسمالية إذن؟

لعبت البروتستانتية كقيم الموثوقية، والادخار، والتواضع، والصدق، والمثابرة والتسامح، كما شرح ماكس فيبر، دورا كبيرا في عقلنة إدارة الثروة. العقلنة التي تطورت مع ظهور الثورة الصناعية إلى نظام جديد مكن صاحب رأس المال من تحقيق تراكم سريع، مما أدى إلى تمايز طبقي بين العمال وبين أصحاب رؤوس الأموال ضمن نظام الاقتصادي/الاجتماعي أطلق عليه: الرأسمالية. فالرأسمالية هي نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية تقوم على أساس تنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعة في مفهوم الحرية. وكما أن الرأسمالية تعزز الملكية الفردية، فإنها تقلص الملكية العامة، ويوصف دور الحكومة فيها على أنه دور رقابي فقط. فوسائل الإنتاج بشكل عام مملوكة ملكية خاصة أو مملوكة لشركات، حيث يكون التوزيع والإنتاج وتحديد الأسعار محكومًا بالسوق الحر والعرض والطلب، ويحق للملاك أن يحتفظوا بالأرباح أو يعيدوا استثمارها.

وترتبط الرأسمالية نظريا وقيميا بالحرية الفردية التي تتيح للإنسان حرية اختيار عمله الذي يتفق مع استعداداته ويحقق له الدخل المطلوب وفقًا لمبدأ “دعه يعمل دعه يمر”. كما يرى الرأسماليون بأن الحرية ضرورية للفرد من أجل تحقيق التوافق بينه وبين المجتمع، ولأنها قوة دافعة للإنتاج، لكونها حقاً إنسانياً يعبر عن الكرامة البشرية. في مقابل الدعوة إلى عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وأن تقتصر مهمتها على حماية الأفراد والأموال والمحافظة على الأمن والدفاع عن البلاد. وكذلك الإيمان بمبدأ حرية السوق المتمثل في نظام حرية الأسعار وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب، واعتماد قانون السعر المنخفض في سبيل ترويج البضاعة وبيعها.


تطور الرأسمالية

سادت في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، حين بدأت الرأسمالية الصناعية في الظهور، رأسمالية فوضوية؛ حيث كانت المشروعات الرأسمالية دون هيمنة ولا سيطرة من قبل الدولة، ولا من قبل مؤسسات عمالية، كما انهمكت المصانع الصغيرة في منافسات شرسة في السوق، إضافًة إلى حركة العمالة الحرة الغير مستديمة وتدفق العمال من الريف إلى المدن الصناعية الجديدة.

بدأت المرحلة الثانية من تطور الرأسمالية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفيها انتظمت المنافسة، واستقرت الأسواق، وتوازن وجها الصناعة الممثلين في المنافسة والسوق، كما ازداد دور الدولة في الاقتصاد، وكان ذلك نتاجًا طبيعيًا لما اتسمت به هذه المرحلة من صراعات دولية، مما دفع الحكومات إلى حماية اقتصادياتها القومية من المنافسة الخارجية الشرسة، وكذلك إدارة مواردها بكفاءة لمواجهة خصومها.

ولكن البرجوازية، الطبقة التي طالبت بالديموقراطية، سرعان ما سرقت ثمارها. فمع الوقت تحولت الطبقة الجديدة من الرأسماليين الكبار إلى سلطة خفيّة تقبع وراء قناع زائف من السلطة السياسية المنتخبة. وبعد أن أصبحت الرأسمالية هي الأيديولوجية الحاكمة بات طموحها يسري نحو الهيمنة العالمية وتشكل ذلك في نظامين هما: الكارتل والتراست.

الكارتل هو نظام رأسمالي يقوم على توافق الشركات الكبيرة على اقتسام السوق فيما بينها لتصبح منطقة نفوذ لهم، وبالتالي يتحكمون في تحديد الأسعار. والاقتصاديون لا ينظرون بعين الارتياح لهذا التنظيم لأنه يضعف روح المنافسة ويقوي السلطة الاحتكارية ويحمي المنتج عديم الكفاءة ويقيد المنتج الذي يتمتع بكفاءة عالية، وفي ذلك إضرار بالمستهلك ومساس بالتقدم الاقتصادي غير أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها بعض الصناعات قد تجعل من المصلحة قيام هذا النوع من الاتفاقات في الأمور المشروعة.

أما الترست فهو تكتل بين مؤسسات ولكن بعكس الكارتل حيث تندمج عدة مؤسسات في مؤسسة واحدة وتتحكم بالتالي في السوق.

أدت هذه الرأسمالية الضارية إلى أزمات متكررة، كان أضخمها أزمة الكساد الكبير في حقبة ما بين الحربين. وقد أدت هذه الأزمة إلى ظهور ضرب جديد من الرأسمالية وهو ما أطلق عليه رأسمالية الدولة، أو دولة الرفاه، أي الضامنة تقديم الخدمات الاجتماعية لمواطنيها. غير أن تلك الصورة المنضبطة من الرأسمالية ما لبثت أن تصدعت في أوائل السبعينيات بسبب الأعباء التي تحملتها خزينة الدولة في مقابل ضعف النمو الاقتصادي نتيجة تقييد الحرية الاقتصادية. ومع مطلع الثمانينيات ظهرت أصولية اقتصادية جديدة تدعو إلى إطلاق قوى السوق وحريته لتعود الرأسمالية إلى ما يشبه عصرها الأول مع فروق بنيوية خطيرة، ولكن خفية، وهو ما سنتعرض له لاحقا.