فيلم «Three Thousand Years of Longing»: حتى الحكايات الحزينة تُحررنا
يُخبرنا عالم النفس «كارل يونج» أن كل امرئ في منتهى كفاحه مع العالم لا بد أن ينتهي مرويًا في حكاية، كل ما يتبقى منا جميعًا حكاية مروية، يصل المرء لسلامه النفسي عندما يُدرك تلك الحقيقة، ثم يصطفي نفسه من صخب الحكايات وألسنة الآخرين، ويمتلك القُدرة أخيرًا على ترك حكايته وهي مروية بصوته الخاص، مهما بدت الحكاية في نهايتها عادية أو حزينة أو أقل ملحمية، لكنها أصدق تمثيلًا لصاحبها ما دامت مروية ومُصدرة للآخرين بصوته هو، بينما لو أفلت المرء زمام حكايته وكينونته ليرويها الآخرون عنه، فسينتهي بأن يكون موزاييك من ذكرى وأصوات لا تُشبهه، من هنا يولد الشر، عندما نجد أن كل التاريخ الذي وصل إلينا ممن سبقونا هو حكايات لم تُروَ بلسان أصحابها، لم تُعبر عن أشواقهم وحقيقتهم، بقدر ما عبرت عن أكاذيب وأهواء من نقلوها.
يُحرك هذا الهاجس بطلة فيلم «ثلاثة آلاف عام من الاشتياق»، عالمة السرديات «أليثيا بيني» التي تقتات على جمع الحكايات، تحديدًا القصص التي حاول بها البشر منذ القدم تفسير لُغز الوجود، تقول «أليثيا» إن العلم كلما تطور، قوض مصداقية الحكايات وأفقدها سحرها، العلم أخبرنا أننا لسنا مُميزين، لسنا مركز العالم، وأن الأرض مُجرد كوكب ضمن كواكب أضخم وأصغر منه تسير في فلك شمس ضمن مجرة من ألف مجرة، يمنح العالم «ماكس فيبر» تلك الموازاة بين ازدهار العلم بلغته الباردة وذبول الحكايات القديمة بسردها الساحر تسمية «نزع السحر عن العالم».
في بداية الفيلم تُعاني «أليثيا» من رؤى مُتكررة لأشباح ومخلوقات سحرية من الحكايات القديمة، يُخبرها عقلها بإصرار عبر تلك المخلوقات الهاربة من سرديات يُنكرها العلم مثل الجن والعفاريت أن الحكايات لا تذبل ولا تموت بالعلم، بل تحيا وتُجاوز دورها الأول كمحاولات أصيلة لتفسير العالم، لتصير استعارة مُعبرة عن اشتياق البشر الدائم لفعل الحكي نفسه. الفعل الذي عبره يُجاوزون محدوديتهم ويُصدرون أنفسهم لعصور تالية لن يعيشوها إلا عبر هذا الفعل، كحكاية مروية.
مثل كل الحكايات القديمة عن جني المصباح، تبتاع «أليثيا» غرضًا قديمًا مدفوعة بافتتان لا يُمكنها تفسيره، وعندما تُحاول تنظيفه يظهر جني عملاق ويُخبرها عن ثلاث أُمنيات يُمكنه تحقيقها لها كامتنان على تحريره من سجنه.
يُخبرها الجني أن أمنياتها لا بد أن تنبع من فيض قلبها، غير مُستعارة ولا مُقلدة، لا بد أن تُخبره عن أخص أمنياتها بصوتها الخاص، لا مروية بلسان الآخرين وأمنياتهم. تتهرب «أليثيا» من فض مكنونات قلبها بمُمارسة الفعل الذي تُجيد حلبه من دراما العالم، الحكي، تُغري الجني بأن يفض مكنون قلبه بالحكي وتصير هي المُستمع.
الأمنيات مقابر أصحابها
في حكاياته عن نفسه ينفي الجني كل السمات التي نظنها عن جنسه، ينفي عن ذاته القوة والذكاء والحيلة، يُعبر عن نفسه مرارًا بأنه مخلوق أحمق تقوده الرغبة والاشتياق، يروي لها ثلاث حكايات، قادته الرغبة والعشق فيها لأن ينتهي كل مرة سجين المصباح. لمدة ثلاثة آلاف عام يجتر ذكرياته في سجنه. عندما ينتهي يتوسل لأليثيا أن تُباركه بثلاث أمنيات، لو حققها لها يُمكنه تبعًا لقوانين بني جنسه أن يعود لأرض الجن. الوطن الذي يعرفه. ويملك تجاهه ثلاثة آلاف عام من الاشتياق.
تُخبره «أليثيا» عن صعوبة تنفيذ ما يطلبه، الرغبة والتمني هي المشاعر التي حركت الجن في حكايته، وهي ما تسبب في سجنه كل مرة، تروي له كل حكايات التاريخ التي بدأت بأمنية وانتهت بمأساة، لا أحد يروي حكاية عن رغبة تحققت، الجميع يروي حكايات الرغبة لينتهي بعظة أو تحذير أو مرارة، كل ما تعرفه «أليثيا» عن العالم هو الحكايات، وكل الحكايات تُخبرها أن فعل التمني هو جنازة صاحبه، ما إن نلفظ الأمنية حتى نُعري ذواتنا للقدر، وبتلذذ يصنع القدر قصة يحرص فيها على أن يقتلنا تحديدًا ما تمنيناه، يُدرك الجن أنه أحمق كالعادة، الجن المنوط به تحقيق الأمنيات يملك حكاية تحذيرية، حكاية تُثير الرجفة من التمني، وقدره الأخير قاده بتلذذ سادي نحو البشري الوحيد الذي يُدرك عن الحكايات أضعاف ما يُدرك عن نفسه وأضعاف ما يشتهي قلبه.
تُفسد «أليثيا» حكاية الجني والمصباح، حكاية توارثتها الثقافات كافة وسال لها لعاب القُراء عبر قرون، لا يوجد أحد إلا ويتوقف للحظات خلال قراءة تلك الحكاية ليشتهي ثلاث أمنيات، ليُناور القدر بأماني مُراوغة مثل الأبدية أو تمني المزيد من الأمنيات، أن يخلق من أمنياته مددًا لا يبلى يُطيل تلك المشهدية للأبد، يمنح الفيلم تيمة جديدة لحكاية قديمة، نُقابل فيها الإنسان الوحيد الذي يخاف التمني، الذي درس السحر والحكاية والمصباح وقرر ألا يكون أقصوصة جديدة لتيمة تتغذى على الحالمين فيها.
الحياة المروية تفوز بالخلاص
لا تروي «أليثيا» على مدى الفيلم حكاية واحدة هي فيها متورطة في عالمها بفعل أو مُبادرة، كل حكاياتها عاشتها مُراقبة، مُتأملة دون التورط في فعل العيش نفسه، تتذكر طفولتها دومًا كشخص غير مُنتمٍ لأي مجموعة، قادها الأمر في النهاية لاصطناع صديق خيالي يُدعى «إنزو»، كتبته في دفتر قديم، منحته كل التفاصيل اللازمة ليكون حقيقيًّا، وعندما صار حقيقيًّا جدًّا ليفضح مكنون قلبها بمُحاوراته، خافت وأحرقت دفترها.
تُخبر الجن أنها تزوجت مرة واحدة، لكن زوجها هجرها لأنها لا تُجيد قراءة مشاعره بحميمية، لأنها تقرؤه كما تقرأ العالم بأكمله في صورة حكاية هي خارجها، لا تملك حميمية تكفي لصُنع حكاية تخصها، تغرق فيها وتتعرى بحقيقتها، لكنها تملك عينًا باردة تتأمل بها حكايات الآخرين ما دامت خارجها، عندها أدركت أليثيا أن عقلها هو لعنتها وقوتها، روحها مصنوعة لتستوعب الحكايات كافة مثل ثُقب أسود، لكنها لا تملك الرهافة الكافية لتلفظ حكاية واحدة للخارج، حكايتها الحقيقية.
يُدرك الجن أن خلف ذكاء أليثيا وخبرتها في علوم السرد والحكايات توجد روح خائفة، روح ترتجف أمام سؤال:
ماذا يتمنى قلبك؟
ليتمنى المرء لا بد أن يملك حكاية، مهما كانت حزينة أو سعيدة، لا بد أن تملك حكاية أولًا لتتمنى لأجلها ما يجعلها أكثر جمالًا، كانت أليثيا تملك حكايات عن الوجود منذ بدء الخليقة وحتى آخر اكتشافات العالم، لكنها لا تملك حكاية تخصها، تُشبه سائحًا خاض بجولاته كل منازل العالم لكنه في نهاية اليوم لا يملك منزلًا ليعود له، تمنحها تلك السجية البرود والذائقة الكافية لتكون أكاديمية في علوم الحكي، لكنها لا تمنح قلبها ذرة دفء واحدة، يُخبرها الجني:
«نحن فقط نكون موجودين إذا كنا حقيقيين للآخرين».
يُخبرها الجني، الذي تنفي كل العقول العلمية المرموقة وجوده، أنها تبعًا لمنطقه هي الشخص غير الحقيقي وليس هو.
أمام جني يملك ثلاثة آلاف عام من السجن والاشتياق، يملك حبيبات في أزمنة قديمة صارت هباءً منثورًا لن يعود، يملك وطنًا بعيدًا ثمنه ثلاث أمنيات، تقف «أليثيا» التي وصفت حياتها في بداية الفيلم أنها وصلت لذروة كمالها في مسار مهني ناجح وغطاء مالي مُناسب، وهي تُدرك أخيرًا أنها أكثر تعاسة من الجن الذي ورث من بني جنسه العشق والحماقة. لكنه على كل ما مر به يملك حكاية، حكاية عاش فيها حقًّا، خطيئة مروية، والخطيئة المروية تفوز بالخلاص والغُفران، أكثر من حياة لم تُعَش بالأساس.
تُدرك «أليثيا» أن كل حكايات التمني والرغبة انتهت لكوارث، لكن كل الحكايات الآمنة التي لم يتمنَّ أصحابها شيئًا ولم يُقاتلوا لأجله، لم تظهر من الأصل على مسرح التاريخ، لم تُروَ من الأساس، كل الحكايات التي استحقت أن تُروى هي حكايات العشق والرغبة والاشتياق والحماقة، تلك هي المشاعر التي تجعل من العيش تجربة تستحق السرد.
يسألها الجني : «هل أنت حية من الأساس يا أليثيا؟»
ولا تملك أليثيا جوابًا حقيقيًّا، تُخبره أن عدم التمني والهروب من العيش في كثير من الثقافات، هو تعريف التنوير نفسه مثل رهبان التبت البوذيين والرهبان المسيحيين الذين يفرون من صخب العالم للزهد. لكنها تُدرك أنها لا تفر من العالم نحو الرب، ليست مُتدينة. لا تملك هذا النوع من الحكمة إنما تملك جُبنًا تجاه العيش مُغلفًا بعناية في صورة ألفاظ أكاديمية أنيقة، مثلما سمى ماكس فيبر التنوير العلمي «نزع السحر عن العالم» يأتي جني من حكاية قديمة لينزع الكذب عن نظريتها العلمية.
لا يدور فيلم «ثلاثة آلاف عام من الاشتياق» حول الانتصار للخرافة أو استعادة مُبتذلة لحدوتة خيالية لا نمل منها، إنما حول الحكاية والحكي، كوسيط وفعل لم يتخلَّ عنه البشر أبدًا رغم اتساع معارفهم، يسألك صناع الفيلم بذكاء خفي:
لماذا لم تنقرض الحكايات؟ لماذا لم يعوضنا عنها العلم؟
لماذا نستعيد حكاية قديمة قدم الأساطير ونُعيد تدويرها في عام 2022؟
ربما لأن الحكايات لا تهم في ذاتها، لا تهم بما تحويه من جنيات وسحرة ومصابيح وتعاويذ، بل تهم بقدر الأسئلة التي تتركها تجول في أنفسنا بعد القراءة؟ كل حكاية تُروى ترسل انعكاسها على حكايتنا. تسألها وتجعلنا نسأل الأسئلة نفسها التي واجهها البطل في حكايته. لا يدور المصباح السحري حول الأمنيات، إنما حول الرغبات الحقيقية التي تسكن قلوبنا، وما يمنعنا عنها، ما الذي يجعلنا نلجأ لقصة سحرية في كتاب قديم بدلًا من أن نخوض غمار العالم بحثًا عن تحقيق رغباتنا؟
تحتاج الأكاديمية المرموقة لأقصوصة فلكلورية مُستعادة قوامها جني عملاق بشكل هزلي يروي الحكايات ويمنح الأمنيات ليكشف في مرآته قدر خوائها وخوفها من فعل العيش نفسه.
راكب مُتطفل على حكاية جميلة
تمتلك «أليثيا» الشجاعة أخيرًا لاجتراح أمنية، تُخبر الجني أنها تتمنى أن يُحبها ويشتاق لها مثلما أحب حبيباته في حكايات نفيه، هي أنثى متوحدة ومنفية من عالم البشر الصاخب لدفاتر الكتب والحكايات، وهو جني وحيد منفي من عالمه القديم، أمنيتها أن يُكملا حياتهما معًا كعاشقين.
يُحقق الجني لها أمنيتها، وتنقله بعناية لموطنها في إنجلترا، لا تبدو أليثيا مثل شخص يحيا قصة حب حقيقية، تبدو مثل شخص أحضر نبتة أو حيوانًا أليفًا ليؤنس وحدته، لا يبدو الجني مثل شريك بقدر ما هو مرآة تتجلى عليها كل صورها التي حُرمت منها دهرًا، معه تصير شريكة وعشيقة ومحاورة، تجرب الحياة متطفلة على حكاية قديمة أسرتها، تزهر أليثيا وتتذوق كل فنون العيش، تُسكرها لذة الخبرات التي حرمت نفسها منها طوال حياتها، لكن جوار أزهارها يذبل الجني، ذات يوم تأتي لتجده وهو يتفتت لرماد، تُدرك ما فعلته، أنها انتقلت من كونها امرأة بلا حكاية لطفيلي يُحاول أن يحيا في حكاية لا تخصه، مثل طفل يرتدي معطف رجل بالغ لا يُناسبه.
لم تُجرب أليثيا بعد أن تمتلك حكايتها الخاصة، لكنها جربت الحب، لهذا تتخذ قرارها بألا تكون امتدادًا لعشيقات قاسيات في حكاية عمرها ثلاثة آلاف عام، تُقرر أليثيا أن تكون العاشقة الأولى التي تمنح للجني خلاصه، تمنحه أمنيتها الأخيرة، تتمنى أن يعود لوطنه الذي ينتمي له، تُحرره من عبء أن يكون ديكورًا لحكايتها، قُربانًا لرغبتها في أن تنهل من العالم كل ما فاتها.
تجلس أليثيا في سلام على مقعد حديقة وهي تغلق دفتر مُذكرات معنونًا باسم «ثلاثة آلاف عام من الاشتياق»، تنظر للكتاب في حنان، لأول حكاية لا تقرؤها بعوينات باردة، حكاية امتلكت الشجاعة والحماقة الكافية للغرق فيها، والحب الكافي لمنح عاشقها خلاصه، وأخيرًا الاشتياق، اللعنة التي تبقى معنا من أثر الحكايات لنُدرك من مرارته، أننا عشنا حقًّا، عشنا بما يكفي لنملك مرارة الاشتياق لنعود لتلك الحكايات ونُكررها من جديد.
حتى الحكايات الحزينة تُحررنا
يقول عالم النفس «دان ماك آدامز» إن كل إنسان يخرج من سعيه في العالم بحكاية، وإن طريقتك في تقييم سعادة أو تعاسة أي إنسان، ليست في تأمل ما مر به، وإنما عبر الطريقة التي يروي بها حكايته، وهذا ما يُسميه «الحكاية المُحررة redemptive story».
عبر حكايات قوامها الاشتياق والترك والموت والنفي، حكايات لا تحمل عناوينها سوى التعاسة والتحذير، وجدت أليثيا في تاريخ الجني نداهة العيش الحقيقي، منحتها حكايته الحزينة خلاصها، خطت بشجاعة خارج خوفها وعاشت حكاية عُمرها قصير، لكنها تكفيها.
يقول «ماك آدامز» إن علامة الحكاية المُحررة هي الحكاية التي يُحول صاحبها المرارة والحُزن فيها للوازم كان لا بد منها لأجل الوصول لمعنى أجمل، مثلما أخبرها الجني بحكاية حزينة لكنه لو عاد لها فلن يُغير شيئًا فيها، مثلما قايضت أمنيتها بحُب مُستحيل تعرف أنه في لحظة بعينها عليها فيه منح حبيبها خلاصه. تلك علامة الحكايات التي تُحرر أصحابها.
باعتبارها عالمة، تتذكر أليثيا سؤالها الدائم لنفسها عن الحب، يأتي الحب لوجدانها مثل عاصفة من اللامنطق واللامعقول، حلم أو سحر يجذب أصحابه لصنع قصصهم الخاصة، لكنها بذائقتها العلمية يؤرقها السؤال دومًا:
كيف يُمكن أن نخضع الحب للتجربة لنتأكد من كونه حقيقة وليس نزوة أو جنونًا؟
تُجيب في النهاية أن الحب هبة تقدمها الذات بالمجان لا يمكن أن يطلبه المرء.
في نهاية الفيلم تجلس أليثيا بسلام مع دفترها لتجد الجني قد أتى زائرًا من عالمه، دون أمنية أو إجبار، تُدرك في تلك اللحظة أنه أحبها، تبتسم وهي تفطن أنها لم تنَل فقط حكاية مُحررة، لكنها كذلك حكاية سعيدة.