ثلاث أطروحات وأسئلة كثيرة في عِلل العنف الاجتماعي
فيما يلي ثلاث أطروحات، قد تسهم واحدة منها، أو اثنتان، أو مزيج من ثلاثتها، في فهم علل العنف الاجتماعي الذي يئن منه مجتمعنا، أو في اتخاذ إجراءات تساعد -على الأقل- في تجفيف منابعه ومواجهة تداعياته، وبأسرع ما يمكن كما نود ونأمل.
الأطروحة الأولى
تقول الأطروحة الأولى إن العنف الاجتماعي تنبتُ بذوره وتترعرع أغصانه في أي مجتمع تتحلل فيه روابط الانتماءات الأولية والنوعية التي تنتظم أعضاءَه، وتوجِّه سلوكياتهم وتضبطها؛ بدءًا من الأسرة، والقبيلة، والجيرة، وجماعة الرفاق، وأبناء الجهة أو الناحية، وصحبة المسجد وأبناء الكنيسة، مرورًا بالانتماء للمهنة، أو الطائفة أو الجمعية أو الحزب أو المذهب الفكري، وصولًا إلى المذهب الفلسفي، أو الفني، أو الثقافي.
عندما تتحلل تلك الروابط وتتفكك جماعاتُها، أو تضعف؛ تتحلل بالتالي أدوات الضبط الاجتماعي التي تمارسها تلك الروابط، ومن ثَم تفقد تأثيرها في توجيه السلوك الفردي والجماعي وترشيده، ويمسي المجتمع عبارة عن «أفراد»، أو «ذرات» مشتتة لا رباط بينها، ويمسي الفرد فريسة «نفسه» ومرجع ذاته لا معقب عليه، ثم بعد فترة نجده يبحث عن فريسة لنفسه ويحاول من خلالها استعادة شيء من توازنه الاجتماعي الذي فقده بسبب انفكاكه من روابطه الأولية وجماعاتها. ولكنه غالبًا ما يفشل، فيتجه للعنف ضد الغير، أو ضد ذات نفسه كحل أخير.
والرباط المقصود هنا هو الرباط المعنوي الذي يشكل أساس الانتماء لهذه الجماعة الاجتماعية أو المهنية أو الجهوية أو تلك، وهذا الرباط عينه يتشكل من القيم المعيارية الكبرى التي تحدد الصواب والخطأ، والنافع والضار، وما يجوز وما لا يجوز، والعيب والاحترام، والقانوني والفوضوي، والثابت من القيم والمتغير منها، وليس المقصود بالرباط هنا الرباط المصلحي أو المادي وحده بأي حال.
هل هذه الأطروحة أجابت على سؤال: لماذا تفاقم العنف الاجتماعي وكيف نتغلب عليه؟
طبعًا لا. فقط أجابت نصف إجابة، والنصف الباقي له سؤال آخر، وربما له أكثر من سؤال، منها مثلًا: لماذا يا ترى تحللت -أو تتحلل- تلك الروابط وتتلاشى القيم المعنوية للتماسك؟
والإجابة هي: إنها تتحلل لأن ثمة تغيرات اجتماعية سريعة تؤدي لتحللها، أو أن هناك من يسعى في تحللها عن قصد وتعمُّد، كمن يسعى لتحلُّل «الأسرة» وتفكيك أسسها الأخلاقية والدينية التي تقوم عليها. كما أن هناك من استهدف خلخلة تلك الروابط والقيم تمهيدًا لاقتلاعها من الوعي الجمعي، فلنبحث إذن عنه، وعمَّن يقف وراءه، ولنأخذ على يده ونمنعه، هذا أو فالمزيد من العنف الاجتماعي الأسوأ مما يحدث قادم والعياذ بالله.
ما سبق هو مجرد احتمال. وهناك احتمال آخر هو: أن هناك من لم يرعَ تلك الروابط واستهان بها، وهناك مَنْ لم يقم بالمحافظة عليها وتغذيتها بما يعزز وجودها -أصلًا وأولًا- وقبل أي شيء آخر، ومَنْ لم يعمل على تفعيل دورها ثانيًا.
وهذا وذاك من شروط بقاء تلك القيم فعَّالة في سياق التغير الاجتماعي الذي لا يتوقف، لا في مجتمعنا المصري وحده، وإنما في أي مجتمع آخر. وهذا ما لم يرد، ولا يرد على خاطر أغلبية أجهزة الإعلام والفنون والثقافة التي تعيث فسادًا في منظومات القيم ومكارم الأخلاق، وقد تشاركها مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية في بلدنا، أو أغلبيتها. وهنا مكمن المشكلة، ومن هنا يبدأ الحل. وتكفي في هذا السياق مجرد الإشارة عن كامل العبارة.
الأطروحة الثانية
تقول الأطروحة الثانية إن كل مجتمع يكون عنيفًا بمقدار ما يكون استعمال «القوة المشروعة» فيه غير منضبطة بالقانون انضباطًا محكمًا ومنتظمًا. والعلةُ في ذلك هي: أن السلطة الشرعية في أي دولة -حديثة كانت أو غير حديثة- هي وحدها المخوَّلة باستخدام العنف المشروع (القانوني)، بل تصبحُ لممارسة هذا العنف مشروعية بموافقة المجتمع على أن تحتكر هذه السلطة وحدها هذا الاستخدام؛ ذلك لأنه هو الضمانة الخارجية الأقوى لصون الأمان العام، وتعزيز الطمأنينة، وصون الاتزان النفسي من الاهتزاز في المجتمع، إلى جانب الضمانة الذاتية الداخلية التي تتمثل في وازع الضمير.
ولكن، قد يحدث أن تقوم السلطة المخولة باستخدام العنف المشروع، أو تقوم أجزاء منها بتخطي القانون حال استخدامها لحقها المشروع في استعمال القوة، بقصد أو بدون قصد، فيكون رد الفعل الاجتماعي من جنس هذا الفعل وفي الاتجاه المضاد. وكلما زادت درجة التجاوز، زاد رد الفعل في الاتجاه العكسي، أو تهيأت له البيئة المناسبة لاندلاعه. وقد تتمرد بعض المجموعات أو يشرد بعض الأفراد لمنازعة السلطة الشرعية حقها في استخدام القوة، وتقتطع منها جزءًا صغيرًا أو كبيرًا، وتمارسه تلك المجموعات، أو أولئك الأفراد؛ إمَّا تحديًا للسلطة الشرعية نفسها، أو لإلحاق الأذى بفئات أو أفراد من المجتمع لا ناقة لهم في أي منازعة ولا جمل.
هل أجابت هذه الأطروحة على سؤال: لماذا تفاقم العنف الاجتماعي عندنا، وكيف نتغلب عليه؟
طبعًا لا. فقط أجابت نصف إجابة، والنصف الباقي له سؤال آخر، وربما له أسئلة أخرى، منها مثلًا: لماذا يتم تجاوز القانون حال استخدام الحق في ممارسة العنف المشروع؟ ولماذا يتجرأ أفراد أو مجموعات على ذلك أيضًا في الاتجاه العكسي؟
والإجابة هي: أن تجاوز القانون حال استخدام العنف المشروع (القانوني) يتم: إمَّا لأن القانون المُطبَّق نفسه قد عفى عليه الزمن وتجمَّد عند لحظة زمنية مضت، ولم يعد يواكب ما حدث من تغيرات اجتماعية، فيشعر القائم بتطبيقه أن من «واجبه» استكمال ما يراه لازمًا لتحقيق الهدف المشروع. ولكن لما كان هذا يحدث عبر تجاوز «الشرعية» القائمة ولو جزئيًّا، فإنه يرسل رسالة للوعي الجماعي مفادها أن «القانون» ليس هو الحكم الفصل، وأنه يمكن تجاوزه لتحقيق هدف نبيل لمصلحة المجموع، كان ذلك بدعوى صادقة أو بدعوى زائفة.
ولما كان هذا الجزء من الهدف النبيل الذي يستكمله القائم بالتنفيذ يتم وفق تقديره الذاتي، وحسب قدرته على الاجتهاد في كل حالة على حدة؛ فإن بعض المجموعات، أو بعض الأفراد قد لا يفهمون هذا التجاوز في ضوء هدفه النبيل، ويرون لأنفسهم الحق نفسه في تقدير الأمور بعيدًا عن القانون بنفس مقدار ابتعاد المسئول الرسمي عنه أو يزيد، ويجدون لأنفسهم مبررًا نفسيًّا للجرأة على تجاوز القانون، وفي هذه النقطة يندلع العنف الاجتماعي وتتصاعد وتيرته. وهنا تقبع علة من العلل، ومن هنا يبدأ الحل. وهنا أيضًا تكفي الإشارة عن كامل العبارة.
الأطروحة الثالثة
تقول الأطروحة الثالثة إنه في النظم التسلطية والشمولية -مثل النظم التوتاليتارية والفاشية التي ظهرت في كل من روسيا وألمانيا، وإيطاليا وإسبانيا، وتشيلي، وتركيا الكمالية وكوريا الشمالية مثلًا- لا يعتبر العنفُ الاجتماعي وضعًا استثنائيًّا، طالما أن العنف هو أصل نشأة السلطة نفسها، بل إن المجتمع يتطبعُ مع هذا العنف تدريجيًّا وببطء، أو سريعًا وبمعدلات متزايدة، حسب الأحوال.
ويصبح «العنف الاجتماعي» جزءًا من طريقة حياة فئات مؤثرة من هذا المجتمع اليومية، ولا تكاد هذه الفئات تستغني عنه من أجل الوفاء بحاجات عيشها، أو للتخلص من ضغوط العجز عن توفير ضرورات هذا العيش. وهنا إمَّا أن يتوجه العنف الاجتماعي للعدوان على النفس بالانتحار مثلًا، أو للعدوان على الغير باستخدام أعلى صور العنف المادي بالجرح، أو بالقتل، أو بإبادة مجموعات اجتماعية، أو قبول هذه الإبادة والصمت عليها، رغم قسوة ما يمارس فيها من عنف جسدي ومعنوي.
ليست المشكلة في أن «العنف» كامن -مبدئيًّا- في أصل نشأة السلطة؛ فكل سلطة -مهما كانت طبيعتها- لا بد أن تحمل في نشأتها قدرًا من العنف؛ ليس حبًّا في العنف بالضرورة، وإنما لأنه ضروري لضبط العلاقات بين فئات المجتمع وأفراده. ولكن المشكلة تظهر عندما يكون العنف وحده هو أساس العلاقة بين السلطة والمجتمع، أو هو الأساس الفاعل في تلك العلاقة. هنا يخرج العنف عن مقاصده في ضبط التسالم الاجتماعي.
هذا ما ذهب إليه ابن خلدون مثلًا عندما أكَّد أن البشر فيهم نزعة الظلم والعدوان بعضهم على بعض:
وقد يحدث أن تتراخى السلطة في أداء وظيفتها الرادعة، وقد تخمد وظيفة الضمير الوازعة، فيظهر فراغ تنمو فيه النزعات العدوانية، وعندئذٍ ينشب «التغالبُ الاجتماعي» بين الناس باستخدام أساليب عنيفة. وبالتهاون مع من ينتهكون حرمات العقيدة ويستهترون بالفضائل، ويستسهلون الرذائل؛ يضعفُ الوازع الداخلي، وهكذا تستفحل نزعة العنف الاجتماعي بالتقاء: ضعف «الوازع» الداخلي الذي يؤسسه الدين ومكارم الأخلاق، مع ضعف الرادع الخارجي الذي تمثله السلطة صاحبة الحق المشروع في استخدام القوة لضمان التسالم الاجتماعي.
هل أجابت هذه الأطروحة على سؤال: لماذا يتفاقم العنف الاجتماعي عندنا وكيف نتغلب عليه؟
طبعًا لا. فقط أجابت عليه نصف إجابة، والنصف الباقي له سؤال آخر، وربما له أسئلة أخرى، منها مثلًا: ولماذا يتطبع المجتمع مع العنف وتحت أية ظروف؟
والإجابة هي: أن المجتمع قد يتطبع مع «العنف الاجتماعي» بسبب اتساع دائرة الشعور بالقهر، أو بالفقر، أو بقلة الحيلة، وانسداد أفق المستقبل، أو بخليط من هذا كله؛ فالقهر يولد التوتر، والفقر يوقظ في النفس وحش حب البقاء بلا ضوابط، ولهذا ورد في الأثر قول منسوب للإمام علي، كرم الله وجهه: «لو كان الفقر رجلًا لقتلته»، أمَّا قلة الحيلة فتغذي نزعة الانتقام للذات. وعندما يجتمع القهر والفقر وشعور الانتقام مع غريزة حب البقاء المنفكة من كوابح الوازع الداخلي؛ عندئذٍ يفقد الشخص اتزانه العقلي والنفسي، ولا يتمكن من السيطرة على مشاعره العدوانية حتى لو أراد، وسرعان ما تتحول هذه المشاعر إلى أعمال عنيفة قد تصيب أقرب الناس إليه، أو تصيب غيرهم، أو يصيب بها نفسه التي بين جنبيه. وهنا مكمن من مكامن الخطر، ومن هنا يبدأ الحل.
لا يتطبع أي مجتمع مع العنف السياسي أبدًا حسبما تؤكد التجارب الدولية المقارنة، وإنما قد يتطبع مجتمع معين مع العنف الاجتماعي، والمشكلة هي أنه في هذه الحالة تصبح المسافة بين نوعي العنف قصيرة جدًّا، وذلك قد يحدث عندما تعجز قنوات التنشئة والاستيعاب الجمعي والثقافي والفني والروحي والعمراني والجمالي عن استيعاب بعض الذين تلقي بهم أقدارهم في دائرة القهر والتوتر والميل للانتقام للذات، ثم لا يجدون فرصة عمل نافع، أو متنفسًا يمتص ما لديهم من قوة غضبية، وفي هذه الحالة لا يبصرون لأنفسهم سبيلًا مفتوحة لاستعادة التوازن النفسي سوى اللجوء إلى العنف.
هم لا يجدون ملجأً مثلًا في: رعاية والدية/أسرية نووية أو ممتدة، أو حتى قبلية، أو في عمل إنتاجي مثمر يحقق احترام الذات، أو في نشاط ثقافي أو فني أو ترفيهي، أو في إعلام تنويري عقلاني لا يعبث بالقيم الدينية ومعايير السواء الإنساني التي هي عصب التسالم الاجتماعي، أو في وعظ ديني وأخلاقي يخاطب الفطرة السليمة ويذكِّرها بمكارم الأخلاق ومحاسنها، أو في رياضة بدنية أو ذهنية قويمة تفتح النفس على حب الحياة والرغبة في إعمارها لا تدميرها. وإذ تكون مثل هذه القنوات مغلقة، أو مفتوحة ولكن لا دور لها؛ هنالك يشعر البعض أن المستحيلات أمامه باتت أكثر من الممكنات؛ وعندئذٍ أيضًا يفقد السيطرة على نزعات العنف المعتملة في داخله، والتي سرعان ما تنفجر في المحيطين به أو تصيبه هو في نفسه. وهنا مكمن آخر للمشكلة، ومن هنا يبدأ الحل.
بقي أن نتساءل: هل ستظل معدلات العنف الاجتماعي وفظاعاته في ازدياد في بلدنا؟
الإجابة: لا، ونعم.
لا؛ لأننا نحن المصريين من أكثر شعوب الأرض وداعةً ومسالمةً، كنا كذلك على مر الزمن، ولا نزال كذلك في أغلبيتنا الغالبة. ولا يزال بإمكاننا المحافظة على تسالمنا الاجتماعي بطرق وحيل متنوعة من المفترض أن يطوِّرها أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس، وأن تقوم مؤسسات التنشئة بنشرها وإدخالها في برامجها التعليمية والتربوية والترفيهية؛ لكي تحل محل التصرفات السلبية التي يجنح نحوها أغلب المصريين الذين يتصادف وجودهم في موقع حدوث أعمال العنف الاجتماعي.
من تلك التصرفات السلبية: الوقوف موقف المتفرج لحظة وقوع أعمال عنف، أو موقف الصابر الشكَّاء، أو الحزين الباكي، أو الداعي على الذين يمارسون العنف، أو المنافق للضحية أو للجاني، أو الساخر منهم بقلبه لا بلسانه ولا بيده إيثارًا للسلامة، أو قد يكون المخرجُ هو الانحراف السلوكي بارتكاب سرقة أو فعلٍ فاحشٍ لتعويض الشعور بالعجز عن رد العدوان على النفس أو على الغير، وقد يلجأ البعض إلى الهجرة للخارج كحل نهائي للخروج من دائرة العنف والعنف المضاد، والوصول إلى هذه الدرجة ينال من حب الوطن الذي هو «من الإيمان»، وينقله إلى معنى يقتصر على «المكان الذي تنتهي فيه كل محاولات الهروب»، كما قال نجيب محفوظ في إحدى رواياته.
ونعم؛ لأن أصول التماسك المعنوي وقيم التعاون والتراحم المبنية على تعاليم الدين ومكارم الأخلاق وفضائل النفس تتعرض في مجتمعنا لهجمات منظمة ومبرمجة لخلخلتها تمهيدًا لخلعها، وإحلال قيم ومعايير أخرى محلها بدعوى «الحداثة» تارة، و«مواكبة العصر» تارة أخرى، و«حقوق وحريات الإنسان» تارة ثالثة.
وكلما اشتدت هذه الهجمات، تسارعت وتيرة التغير الاجتماعي، وزادت الفجوة بين التوقعات والواقع، وفي هذه الفجوة تنمو بذور الإحباط والتوتر، وبخاصة عند الفئات والأفراد الذين لا يتمكنون من تكييف حياتهم مع تلك التغيرات، ومن ثَم يكون اللجوء إلى العنف الاجتماعي هو أقرب المخارج، على ما بيَّنا في الأطروحات الثلاث آنفة الإشارة إليها.
تلك الهجمات التي تشنها أطراف متنوعة تحت شعارات براقة لتنال من أصول التماسك الاجتماعي، تأسر -ولا شك- بعض الأفراد والفئات من أجيال عمرية مختلفة، ولكنها سرعان ما تفضي إلى تصاعد وتائر العنف الاجتماعي رغمًا عن تلك الشعارات البراقة، وهي بالمناسبة شعارات حداثية جدًّا ومنها:
- أنها تروِّج أفكارها تحت شعار «احترام الحرية الفردية». ومن ذا الذي يكره الحرية الفردية؟ ولكن مروجي تلك الهجمات يقدمونها بمعنى أن يكون كل فرد حساسًا تجاه الأفراد الآخرين، فلا ينتقد -ولو بكلمة منطوقة أو مكتوبة- سلوكًا ولا قولًا ولا فعلًا مشينًا، مهما كان خارجًا عن قيم المجتمع وفضائله، أو عن تعاليم الدين ومكارم الأخلاق، فالحرية الفردية والحساسية التنويرية تقول لك: دعه فهذه «حرية شخصية».
- أنها تروج أفكارها أيضًا تحت شعار: «سعة الأفق والانفتاح وقبول الآخر». والآخر هنا يقصدون به الأجنبي تحديدًا، ولا مانع من إدخال بعض «الآخرين» الوطنيين زيفًا ومنافقة لهم. وبما أن هذا الأجنبي له طريقة حياة خاصة به، وبما أنه ينتمي للحضارة الغالبة، وبما أن المغلوب مولَع بتقليد الغالب على الدوام حسب ابن خلدون؛ فالحاصل هو أن المطلوب السكوت على أبنائنا الذين يقلدون الذي غلبنا: في ألوان الموضة، وأنماط السلوك السوي أو الشاذ، وشراهة النزعة الاستهلاكية، وانتهاك حرمة الأسرة «التقليدية»، والاتجاه نحو الأشكال والممارسات «المودرن» مثل: الأسرة ذات العائل الواحد، والحمل خارج مؤسسة الزواج، والمثلية الثنائية والجماعية، إلى آخر هذه الأشكال -المفككة ذهنيًّا ومعنويًّا وأخلاقيًّا- إن كان لها آخر.
- أنها تروِّج أفكارها كذلك تحت شعار «الجسارة وعدم التهيب من الجديد». ومن ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون جبانًا أو خوَّافًا غير جسور، وبخاصة من جيل الشباب؟! ولكن الجسارة التي يروِّج لها الحداثويون في بلادنا هي التي تحطم كل القيم الموروثة، وتنتهك المعايير الأخلاقية والدينية السائدة، وتخترق المحرمات، وتميت الحس العام ببغض الرذائل، وتشيد بالتسامح مع أهلها، بدعوى الحرية الشخصية، واحترام الحق في الاختلاف!
عندما يستقبل أبناءُ مجتمعنا -أو بعضهم- تلك الرسائل التي ينفثها الحداثويون، سيقول البعض منهم: لا أحب أن يصفني أحد بأنني غليظ أتدخل في سلوك غيري حتى إن كان سلوك غيري سلوكًا مذمومًا، ولا أحب أن يصفني أحد بأنني متعصب وضيق الأفق ومنعزل عن روح العصر وخائف من الجديد، إذن عليَّ أن أنضم لصفوف هؤلاء الحداثويين الذين ينادون بتلك الأفكار.
تبث وسائل الإعلام هذه الأفكار، ويروِّجها الحداثويون، ويدافع عنها كثير من الفنانين ويشخصونها في عالم التمثيل، في الوقت الذي لا يجد فيه خطاب الأصالة واحترام مكارم الأخلاق وفضائلها فرصة مماثلة، أو نصف فرصة. وهنا تكفي الإشارة عن كامل العبارة. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.