أحد أوجه تعريف «جيروم ستولنيتز» لمفهوم الجمال الأستاطيقي في كتابة «النقد الفني: دراسة جمالية وفلسفية»، هو الجمال المجرد من أي ثقل أو تميز تاريخي. الجمال الذي تراه في ذاته بعيدًا عن تاريخ صانعه، أو الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية. فمسجد السلطان حسن مثلاً جميل في ذاته، حتى لو قيل إن السلطان حسن قاتل سفاح، وكان يُقتل ويُحرق في هذا المسجد مئات الأطفال والأمهات والشيوخ، أو قيل إنه كان من أولياء الله الصالحين وحدثت الكثير من المعجزات على يده.

وعند محاولتي تطبيق هذا الوصف على الأعمال السينمائية، وجدت صعوبة شديدة، فجمهور السينما شديد التنوع والاختلاف والغرابة عن أي جمهور آخر، نتيجة لاختلاف مفهوم السينما لديهم؛ فالبعض يراها وسيلة للترفيه، وآخرون يريدونها وسيطًا تعليميًا، وهناك من يراها وسيطًا/بديلاً مرئيًا للفلسفة.

ولكن في النهاية وجدت أن «ثلاثية الألوان» للمخرج البولندي «كريستوف كيشلوفيسكي» هي التي يمكن تطبيق هذا المصطلح عليها؛ أولاً لشعبيتها الشديدة وخصوصًا لدى محبي السينما الأوروبية، وعدد معتبر من جمهور السينما الأمريكية الفنية وليست التجارية. ثلاثية محبوبة حقًا، رغم صعوبة فهم دلالتها وما تعبر عنه الألوان الثلاثة، وتلاعب كيشلوفسكي بعنصر الزمان، وشخصية العجوز، والأهم أن الثلاثية أحداثها قليلة وهادئة (مملة كما يحب أن يقول البعض).


ثلاث قصص ذاتية عن أوروبا

ثلاثة أجزاء، كل جزء منهم على اسم لون من ألوان العلم الفرنسي ورمزياته التي تدل على قيم الليبرالية الكلاسيكية؛ فالأزرق رمز للحرية، والأبيض رمز المساواة، والأحمر رمز الإخاء. فضل تشيلوفسكي التعبير عن هذه القيم الثلاث من خلال قصص ذاتية لثلاثة أشخاص هم جولي، وكارول، وفالنتين على الترتيب.

الجزء الأول «أزرق» يدور حول «جولي» التي فقدت زوجها -الموسيقار الأشهر والذي يتولى تأليف موسيقى الاتحاد الأوروبي- وابنتها في حادث سيارة ونجت هي فقط، حاولت الانتحار وفشلت. وبعدها قامت بمحو حياتها السابقة بالكامل، فأوصت ببيع المنزل وكل متعلقاتها الشخصية باستثناء النجفة الزرقاء، وهجرت كل معارفها، فمارست الجنس مرة مع الموسيقار المساعد لزوجها لأنها تعلم بحبه لها، ثم تتركه وتختفي. ولكن الماضي لا يتركها، فيجدها الموسيقار ويعمل على استكمال موسيقى الاتحاد الأوروبي، ثم تكتشف جولي خيانة زوجها السابق مع امرأة أخرى حملت بعد وفاته.

الحادث المأسوي كان بداية حرية جولي، فقد منحها فرصة لبناء حياتها من جديد بخبرة أكثر عمقًا، وبعلاقة جديدة أكثر نضجًا مع الموسيقار المساعد، وتحقيق إنجاز موسيقي جديد. فالحرية لا تأتي بسهولة، كما أنها تحمل مسحات الهزيمة واليأس، فكم عانى وفقد الفرنسيون والأوروبين للوصول لتلك القيمة. ربما لم ولن تشعر بالسعادة كسابق عهدها، ولكنها أصبحت أقوى وأكثر فهمًا للحياة، وأكثر تسامحًا أيضًا، حيث منحت بيتها السابق للمرأة الأخرى التي أحبها زوجها. واستكملت موسيقى الحفل مع شريكها الجديد.

https://www.youtube.com/watch?v=6fX7tyxBNsM

أما الجزء الثاني، جزء المساواة «أبيض»، فيدور حول البولندي «كارول» الذي تطلقه زوجته الفرنسية «دومنيك» في المحكمة بسبب ضعفه الجنسي، يرفض القاضي سماع شهادة كارول لأنه لا يفهم لغته البولندية، ويتساءل الأخير أين المساواة؟ دومينك تحبه ولا تخفي ذلك، ولكن يبدو وكأنها تريد أن ترى قوته وقدرته المالية، ربما تنظر له بنوع من الاستعلاء بصفتها فرنسية، ويكون ذلك سببًا رئيسيًا في ضعف كارول الجنسي، فهو لا يقدر على ممارسة الجنس معها دون شعور بالمساواة، وبعد الحكم بالطلاق يتسلل كارول لها، ويحاول ممارسة الجنس معها فتستجيب له، ولكنه لا يقدر كذلك فتحرق منزلها وتتهمه بتدبير الحادث، هكذا لا يجد كارول مفرًا سوى الهروب لبولندا.

تستمر الصدف في توجيه كارول، إلى أن تقوده إحداها لتجميع الكثير من المال، ويصبح رجل أعمال. هذه اللحظة التي يشعر فيها بالمساواة وبقدرته على العودة لدومنيك. ينجح كارول في مسعاه ويستدرج دومينك لبولندا، ويقدر للمرة الأولى ممارسة الجنس معها. قيمة المساواة لا تتحقق إلا بتساوي الطرف الضعيف مع القوي. وهو ما يرمز إليه كيشلوفسكي بكارول البولندي الذي لا يقدر على ممارسة الجنس إلا حين شعر بالمساواة، التي لن يشعر بها إلا بتحقيق ذاته وامتلاك عناصر القوة، وكما ينطبق هذا على الأشخاص، ينطبق أيضًا على الأوطان.

في جزء الإخاء «أحمر» نتعرف على «فالنتين» التي تشعر بالوحدة، وحبيبها الذي يدرس في بلد أخرى ويعاملها بجفاء وتشكك. تعمل في مجال الدعاية كعارضة. وأثناء قيادتها للسيارة تصدم كلبة حامل، تعالجها ثم تحاول توصليها لصاحبها. صاحب الكلبة قاضٍ متقاعد، يعيش وحيدًا ويرغب في التخلص من الكلبة. يرفض استلام الكلبة وتأخذها فالنتين معها، ولكنها تهرب منها وتعود للقاضي مرة أخرى.

تكتشف فالنتين صدفة أن القاضي يتجسس على جيرانه. وفي خط موازٍ لهذه الأحداث نتعرف على أوجست الطالب المتفوق الذي يحب مذيعة في نشرة الأرصاد الجوية، صدفة ما تساهم في نجاحه بتفوق في الامتحان ويتعين في القضاء، ولكن تهجره حبيبته ويكتشف صدفة أنها تخونه مع شخص آخر. تزداد الألفة بين القاضي المتقاعد وفالنتين، ويحدث بينهما نوع من الأخوّة التي تحسن من حالتهما النفسية ودوافعهما في الحياة. تسأل فالنتين القاضي عن ماضيه فيحكي قصة تماثل قصة أوجستين.

لا أميل لفصل قصة أوجستين عن القاضي المتقاعد، فما نعهده عن كيشلوفسكي أنه يتلاعب بالزمان والمكان. فقد دفع بقصة القاضي الشاب إلى خلفية الأحداث «عمق المجال»، بينما نرى مستقبله وهو عجوز من خلال علاقته مع فالنتين، وكأنه دمج زمانين في زمان واحد. تمثل فالنتين المنقذ لذلك القاضي العجوز، وكذلك القاضي الشاب لو تعرفت عليه.

تسافر فالنتين لبريطانيا بسفينه بحرية، وتحدث تقلبات عنيفة في الطقس، تؤدي لغرق السفينة مع إنقاذ قليل من الأشخاص هم بطلي جزء أزرق، وبطلي جزء أبيض، وفالنتين والقاضي الشاب، والذي يبدو أن علاقتهما ستمتد رغم سوء الموقف. الأبطال المعبرون عن الحرية والمساواة والإخاء هم الناجون فقط من ضمن مئات الضحايا، وكأنها رمزية للميلاد المتعثر والخطر المحيط بالثلاث قيم الأهم. وهذا يشبه قصص الثلاثة أفلام، التي عانى أبطالها من أجل الوصول لتلك القيم العظيمة.


عندما حكت الألوان قصة

اختيار ألوان كل مشهد في أفلام كيشلوفسكي ليس للتخديم على جماليته فحسب، بل للدلالة على فلسفة الفيلم والحالة الشعورية لأبطاله. فاللون الأزرق بالإضافة لتعبيره عن الحرية، يشتهر بالدلالة على الحزن واليأس. فبعد محاولة جولي الانتحار ويأسها الكامل، وأثناء جلوسها في المستشفى تجد ضوءًا أزرق بارقًا يسلط عليها من مصدر مجهول، وهذا الضوء هو بداية بحثها عن الحياة الجديدة، بعد ذلك نجد في كل أحداث الفيلم أن اللون الأزرق يحيطها من كل مكان. وهنا يكمن الاستخدام المزدوج له فرغم أحزانها ويأسها هناك دوافع للاستمرار وخلق حياة جديدة أفضل (الطريق إلى الحرية).

وفي فيلم أبيض، يختفي اللون الأبيض في النصف الأول من الفيلم، الذي يهرب فيه البطل ويشعر فيه بالدونية وعدم المساواة مع حبيبته. ثم يبدأ في الظهور التدريجي عندما ينتقل لبولندا وسط أقرانه، وعند تخطيطه لتكوين المال. يظهر الأبيض ضعيفًا وغير مشبع رغم ذلك، لأنه رغم شعوره بالمساواة مع أقرانه في وطنه، ولكنه ما زال يفتقد هذا الشعور مع حبيبته. وبعد نجاح مخططه وقدوم دومنيك لبولندا، يشعر بالمساواة أخيرًا، هكذا ينجح في ممارسة الجنس، وأثناء لحظة الالتقاء الجنسي تتحول الشاشة للون الأبيض الباهت، ومع زيادة صرخات الإثارة من دومنيك يزداد اللون الأبيض، إلى أن تصل لأعلى صرخة فنرى لأول مرة الأبيض البارق المشبع. وتلك اللحظة تحديدًا هي لحظة شعور كارول بالمساواة الكاملة.

في أحمر لم يختلف الأمر كثيرًا، فيزداد ظهور الأحمر سواء في الديكورات والأماكن أو الملابس، كلما شعر القاضي ودومنيك بالألفة والإخاء، ويختفي الأحمر في قصة أوجست القاضي الصغير.


دعوة للحداثة بروح مغايرة

رغم دعوة الثلاثية لقيم حداثية (الحرية، والمساواة، والإخاء)، ولكنها تحتوي على عناصر سينما ما بعد الحداثة، والتي انتشرت بشدة في التسعينات. ومن أهم هذه الخصائص المستخدمة في الثلاثية هي المساهمة الرئيسية للصدفة في تغيير مصائر الأبطال. كالحادثة التي غيرت من مصير جولي في أزرق، وكملاقاة الصديق البولندي الذي يُهرب كارل لبولندا في أبيض، وعلى صدم فالنتين لكلبة القاضي الهاربة.

وعدم وضوح الماضي من المستقبل، فمشهد الزفاف في فيلم أبيض والذي عرض في بداية الفيلم، لا يمكن تمييز هل هو قبل أحداث الفيلم أم بعدها. كما أن الحبكة الرئيسية لفيلم أحمر تعتمد كلية على عدم توضيح الزمان. والشخصية التعبيرية المرأة/الرجل العجوز الذي/التي يـ/تلقي زجاجة بصعوبة في القمامة. يتبدل جنس الشخصية لتتوافق مع البطل، وهذه الشخصية ظهرت في فيلم «حياة مزدوجة لفيرونكا» أيضًا.

ربما تمثل هذه الشخصية إشارة ذكية لمستقبل الأبطال وكأنه يجلب حدثًا من زمن آخر داخل زمن الفيلم الحالي. كما أنها إشارة لاستمرار حياة الأشخاص رغم الصعوبات والمحن. توفي كيشلوفسكي بعد إنهائه لفيلم أحمر بعامين، وكأنها رسالته الأخيرة للعالم وخير وداع له. بقيت ثلاثية كيشلوفسكي كأحد أجمل وأرق الأفلام التي شهدتها السينما العالمية.