بعد ثلاث رصاصات غاضبة: حكومة بريطانيا على شفير الانهيار
اقرأ أيضًا: هل حان الوقت لعقاب بريطانيا: من يعقّد مفاوضات البريكسيت؟
فاتورة الطلاق
«الطلاق يكلف غاليًا في كل حالاته»، هكذا قال ميشال بارنييه، كبير المفاوضين في الاتحاد الأوروبي، عن تكلفة انفصال بريطانيا في يوليو/ تموز 2017. وقد كانت تقديرات تكلفة الطلاق من الاتحاد الأوروبي تتفاوت تفاوتًا هائلًا، نظرًا لعدم اتفاق طرفي المفاوضات على منهجية لحساب التكاليف وحجم التسوية المالية المطلوبة من بريطانيا.لكن البيان الصحافي المصاحب لمسودة الاتفاق الأخيرة، الصادر عن المفوضية الأوروبية في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، يذهب إلى أن الطرفين قد اتفقا مبدئيًا على أن تفي المملكة المتحدة بكل التزاماتها المالية بموجب ميزانية الاتحاد الأوروبي للأعوام الستة من 2014 إلى 2020، بما يشمل إسهامات بريطانيا في المعاشات التقاعدية، وفي منظماتِ البنك المركزي الأوروبي، وبنك الاستثمار الأوروبي، ومكتب اللاجئين في تركيا، وغيرها من المنظمات. وتقوم منهجية حساب التكاليف على مبادئ بسيطة، تضمن ألا تتحمل أي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تكاليف زائدة، أو مبكرة، جراء مغادرة بريطانيا.يؤكد البيان بوضوح أن الاتفاق على المنهجية لا يعني أن الطرفين قد توصلا إلى اتفاق على رقمٍ محدد للالتزامات المالية التي ستسددها بريطانيا. وقد نشرت مكتبة مجلس العموم البريطاني تقريرًا في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني خلُص إلى أن حجم تسوية البريكست المالية سيتراوح بين 35 مليارًا و39 مليار جنيه إسترليني، تسدد بريطانيا نحو 73% منها بحلول عام 2022، والباقي على دفعات صغيرة حتى عام 2060. لكن في الوقت نفسه، تُشير مصادر رفيعة داخل الاتحاد الأوروبي إلى أن الرقم قابلٌ للزيادة حسب التغيرات في أسعار الصرف بين الجنيه الإسترليني واليورو، والتحركات في ميزانية الاتحاد، لتصل إلى 53 مليار جنيه إسترليني. كذلك زعمت رئيسة لجنة الحسابات العامة بمجلس العموم البريطاني، ميغ هيليير، في يونيو/ حزيران الماضي، أن تقديرات الحكومة البريطانية أقل من الرقم الفعلي بنحو 10 مليارات جنيه إسترليني.
ماذا إن رفضت بريطانيا دفع التسوية؟
قد يؤدي هذا إلى مغادرتها الاتحاد الأوروبي دون اتفاقية خروج، وهو ما يسميه الأكاديميون بالهارد بريكست. هذا السيناريو سيمثِّل جحيمًا اقتصاديًا حقيقيًا سينهك الاقتصاد البريطاني بتكاليف أكثر بكثير. فحتى مع توصل بريطانيا إلى اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، سيتحمل المصدرون البريطانيون 27 مليار جنيه إسترليني إضافية سنويًا. لذا من المستبعد أن ترفض بريطانيا، حتى إن نجحت الجهود الساعية للإطاحة بالاتفاقية الحالية بين لندن وبروكسل، وإعداد اتفاقية جديدة.
أزمة الحدود الأيرلندية
هي ربما العقبة الأكبر التي تواجه تيريزا ماي داخليًا وتصعِّب من تمرير اتفاق بريكست في مجلس العموم.مثَّل توقيع اتفاق بلفاست، أو الجمعة العظيمة في 1998، بين المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، نهاية حربٍ أهلية عصفت بشمال الجزيرة الأيرلندية نحو ثلاثين عامًا، بين الاتحاديين البروتستانت الموالين للتاج البريطاني وبين الجمهوريين الكاثوليك الراغبين في أن تعود أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا وتتحد مع جنوب الجزيرة.من أهم نتائج الاتفاقية إنهاء العنف المستعر عند المنطقة الحدودية بين شمال الجزيرة وجنوبها التي استهدفتها الميليشيات بالعديد من العمليات الإرهابية، وعدم تشييد «حدودٍ مادية» بين المنطقتين وإزالة نقاط التفتيش الحدودية، مما يسمح بحركة ملايين الأشخاص وأطنان من البضائع يوميًا بسهولة. وكان من السهل إرساء هذه الترتيبات الحدودية في ظل بقاء المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.لكن استفتاء بريكست جلب معضلة تستعصي على الحل حتى الآن، فقد كان من الأسباب الرئيسية التي ذكرها المروجون لبريكست، ومن «الخطوط الحمراء» التي لن ترضى حكومة تيريزا ماي ببديلٍ عنها، أن تُغادر المملكة المتحدة الاتحاد الجمركي الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، مما سيعني بالضرورة إعادة الفحوصات الجمركية على الحدود بين الشمال والجنوب. إذن، كيف تستمر الحدود عديمة الاحتكاك بين شمال الجزيرة غير التابع للاتحاد الأوروبي وجنوبها في دعم السلام الهش؟
اقرأ أيضًا: رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة: تاتشر كلاكيت ثاني مرة
كان الاقتراح المبدئي من جانب الاتحاد الأوروبي في فبراير/ شباط الماضي هو إبقاء أيرلندا الشمالية جزءًا من الاتحاد الجمركي، وضمان تدفق البضائع وحرية الحركة على الجزيرة الأيرلندية. وهو الاقتراح الذي قوبل بالرفض التام من جانب حكومة تيريزا ماي، لأنَّ تبعاته القانونية تعني نقل الحدود والفحوصات الجمركية إلى البحر الأيرلندي، بين إنجلترا وأيرلندا الشمالية، مما يهدد التماسك الدستوري للمملكة، على حد قول تيريزا ماي.نأتي إلى مسودة 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، التي توصل فيها الطرفان للمرة الأولى إلى اتفاقٍ على ملامح الحل، أو «الدعامة»، التي سيتم تنفيذها حال عدم التوصل إلى اتفاقية تجارية شاملة بحلول موعد مغادرة بريطانيا (وهو الاحتمال الأرجح). يتضمن الحل إنشاء منطقة جمركية موحدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع استمرار خضوع أيرلندا الشمالية للقانون الجمركي للاتحاد الأوروبي. وبذلك تنتفي الحاجة إلى فرض التعريفات الجمركية والفحوصات وتتبع مصادر المنتجات عند مرورها بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا. وقد أصرَّ الاتحاد الأوروبي على أن يكون الاتفاق لأجلٍ غير مسمى، من أجل استمرار المفاوضات.فعليًا، يعني هذا أن المملكة المتحدة لا يمكنها تطوير سياسة تجارية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي دون تقسيمٍ فعلي بين إنجلترا وأيرلندا الشمالية، والاستمرار الجزئي لتبعية المملكة اقتصاديًا للاتحاد. أي أن الحكومة البريطانية خفضت من حدة رغبتها العارمة في الانفصال عن النظام الاقتصادي الأوروبي.
انقسام داخلي
كما هو متوقع، أثارت نقطة الدعامة الأيرلندية تحديدًا انقسامًا حادًا داخل حكومة تيريزا ماي. في اليوم التالي لنشر مسودة الاتفاق، أعلن دومينيك راب، وزير شؤون البريكست، استقالته من الحكومة، معللًا استقالته بأن الاتفاق يهدد التماسك الإقليمي للمملكة، وأنه «لم يحدث أن وافق اتحادٌ ديمقراطي على الخضوع لنظامٍ يُفرَض من خارجِه، دون التحكم في القوانين المفروضة أو القدرة على اتخاذ قرار مغادرة الاتفاق». وتبعته إيثر ماكفي، وزيرة العمل والمعاشات، مؤكدة أن الاتفاق لا يحترم نتيجة الاستفتاء.«قلتم لنا مرارًا إن علينا استعادة التحكم في أموالنا وتشريعاتنا، وأن نطور سياسة تجارية مستقلة خاصة بنا. وهذه الصفقة لا تحقق هذا».
أثارت موافقة تيريزا كذلك محاولة انقلابٍ حزبية لسحب الثقة من قائدة الحزب، وإقالتها من رئاسة الوزراء. تضع التقارير الأخيرة عدد الرسائل المطالِبة بإجراء التصويت عند 26 عضوًا بمجلس العموم. ولأن أعضاء المجلس لا يتعين عليهم الكشف عن إرسالهم الرسائل من عدمه، فالأرجح أن العدد يزيد عن ذلك. غير أنه من المستبعد أن يصل إلى الحدِّ الذي يُلزم المجلس بإجراء التصويت، أي 48 عضوًا من حزب المحافظين.والقول بأن الاتفاق قد «أغضب» الاتحاديين في المملكة لا يفي ردة الفعل حقها. كانت ثورة الحزب الاتحادي الديمقراطي في أيرلندا الشمالية عارمة، وأعلن رئيسه نايغل دودز أن الحزب سيمتنع عن دعم الاتفاق في صورته الحالية حال طرحه للتصويت. بل إن الحزب، لأول مرة منذ انتخابات 2017، خرج عن اتفاقه مع حزب المحافظين في تصويتين متتاليين بالمجلس، وامتنع أعضاؤه العشرة عن التصويت. واضطر حزب المحافظين إلى قبول تعديلاتٍ على التشريعات من حزب العمال وأحزابٍ أخرى، في ضربةٍ قوية لهيمنة الحزب على الجهاز التشريعي.
ما هي السيناريوهات المستقبلية؟
1. اتفاقٌ جديد: سيناريو مُستبعد. لا يبدو أن تيريزا ماي على استعدادٍ للتخلي عن الاتفاق الذي تراه أفضل ما يمكن تحقيقه في الظروف الراهنة، خاصةً مع عجز معارضيها عن المضي قدمًا في انقلابهم الحزبي. فضلًا عن أن ميشال بارنييه قد أعرب عن اعتزام بروكسل التمسك بخطوطها الحمراء، بغض النظر عن العقبات التي قد تواجه تيريزا ماي في تمرير مسودة الاتفاق، وهو ما وافقه فيه عددٌ من قادة الدول الأوروبية، ومن ضمنهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
2. رفض الاتفاق في مجلس العموم:مع امتناع الحزب الاتحادي الديمقراطي عن تأييد اتفاق ماي، والمعارضة الشرسة من جانب معسكر المناهضين للاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين، مثل وزير البريكست الأسبق ديفيد ديفيس (الذي استقال في يوليو/ تموز)، ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون الذي تبعه في الاستقالة في الفترة نفسها، إضافةً إلى معارضة من قيادات حزب العمال وأبرزهم جيريمي كوربين، من الصعب تخيُّل أن تستطيع تيريزا ماي في الظروف الحالية تمرير الاتفاق عبر التصويت المزمع عقده في مجلس العموم. وفي حال فشلِها، ربما يتعين عليها الاستقالة، وحينها قد تواجه بريطانيا سيناريو «الانسحاب بلا اتفاق – الهارد بريكسيت» الكابوسي.
3. موافقون:تُحاول ماي حاليًا تمرير الاتفاق عبر تقديم عددٍ من الوعود، من بينها أنَّ بريطانيا لن تُعطي الأولوية للمهاجرين الأوروبيين مستقبلًا، وأن «المهارات» هي التي ستحكُم قبول المهاجرين إلى بريطانيا (وهو ما وصفه رئيس الوزراء الاسكتلندي بالتصريحات المشينة). إن تمكنت ماي من الحصول على عددٍ كافٍ من الأصوات المؤمنة بأن الاتفاق في صورته الحالية أفضل بكثير من سيناريو اللا-اتفاق، حينها ستُناقش الحكومة «قانون اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي»، الذي يحدد تفاصيل الفترة الانتقالية، والتسوية المالية، وغيرها من التفاصيل. ثم سيتعين تصديق البرلمان الأوروبي على الاتفاق قبل «يوم البريكست» الذي يحدده قانون الاتحاد الأوروبي بعامين كحدٍ أقصى منذ تاريخ طلب الانسحاب (29 مارس 2019). وبعدها تبدأ المرحلة الانتقالية، والمحادثات بين الطرفين من أجل التوصل إلى اتفاقية تنظم العلاقات التجارية.تتجه تيريزا ماي اليوم الأربعاء (21 نوفمبر/تشرين الثاني)، إلى بروكسل لوضع اللمسات النهائية على مسودة الاتفاق، في اجتماع مع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. ومع إصرار جميع الأطراف على مواقفها وخطوطها الحمراء، سيتعين على تيريزا ماي استرضاء القوى الداخلية المتناحرة، إن كان لحكومتها أن تنجح في تمرير اتفاقها المثير للجدل.