كتاب «آلاف السنين في الصحراء»: تاريخ شامل لموريتانيا
ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان مجال موريتانيا يقع تحت السيطرة الفرنسية، جلس أحد شيوخ البيضان مع استعماري له اهتمامات جانبية بجمع الآثار والروايات التاريخية الموريتانية، هو الدكتور ليكا، حدّثه عن ماضي البلاد السحيق كما عرفته ذاكرة الشعب البيضاني. قال له: «في القديم منذ حوالي ألفي عام، كانت موريتانيا مسكونةً من قبل السود، من وادي نون إلى عبديك، وكانت القرى كثيرة وما زالت آثارها في أوكار وإنشيري وتيريس».
لم يكن الشيخ يهذي، ورغم أنه لم يقدم إلا حكاية شفاهية، تناقلتها الأجيال طويلًا في صحراء موريتانيا، فإن تلك الحكايات الشعبية تمثل جانبًا ثريًا من التاريخ؛ تاريخ الشعوب لا الممالك والسلاطين. هذا المزج بين جناحي التاريخ قدمه لنا الأكاديمي الموريتاني أبو العباس إبراهام، في دراسته التاريخية «آلاف السنين في الصحراء.. تاريخ موريتانيا من البواكير حتى القرن العشرين» التي صدرت من بيروت عام 2018، عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وفيما يلي نسلط الضوء على ما يحويه هذا الكتاب بين دفّتيه.
أبو العباس إبراهام، الحاصل على بكالوريوس الأدب الإنجلزي من جامعة نواكشوط، وعمل محاضرًا بالجامعة نفسها، قدّم قبل هذا العمل ترجمة لكتاب «الإسلام في الليبرالية» للأكاديمي جوزيف مسعد.
لماذا هذا الكتاب؟
في ظل ندرة الدراسات التاريخية العربية، يجدر الاحتفاء بأي مؤلف قيم، يتخذ مؤلفه مسلكًا جديدًا أو يقدم مقاربة عز من يقدمها، وفي الكتاب الذي قُسم إلى سبعة أقسام، مرتبة تاريخيًا، عمد أبو العباس إلى تلافي تلك اللغة الجافة التي عادةً ما يُكتب بها التاريخ، وذكر في مقدمة الكتاب أن غياب الجانب السردي/ الحكائي عن الكتابات التاريخية كان صادًا له في صباه، ولم يكن على إثر ذلك شغوفًا بمطالعة تاريخ بلاده موريتانيا. وهكذا وجد أبو العباس نفسه بين رحى الأسلوب وسندان التحديات الأكاديمية بمعالجة الإشكاليات ومواضع الجدل، فكان حريصًا كل الحرص على تقديم كتابه في أسلوبٍ سردي يجذب غير المهتمين للمطالعة والاستمتاع، دون أن يقع في شرك الأخطاء الأكاديمية، التي تجعل من بحثه ضعيفًا، معتلًا بالسقطات.
يجمع هذا البحث شقي التاريخ، وبدلًا من أن تكون الحكايات الشعبية والنوادر مواطن للاستشهاد والتندر، أدخلها الكاتب في بحثه بعدما أعمل فيها أدواته الأكاديمية، وقدم لنا صيغة متوازنة من التاريخ الشعبي والجهوي، وهو تحدٍ آخر اجتازه المؤلف. وبهذا يكون الباحث قد ضاعف إسهام من سبقوه في كتابة التاريخ الصحراوي.
الكتاب كما طالعناه، لا يخاطب شريحة ضيقة من القراء المهتمين بتاريخ الصحراء الموريتانية/ المغاربية، كونه يضم الكثير من التفاصيل التاريخية المهمة لكل العرب والمسلمين، كتاريخ دولة المرابطين، ونشأتها واستعادتها لحكم الأندلس.
أقسام الكتاب
قسم أبو العباس إبراهام الكتاب إلى سبعة أقسام، وهي مرتبة تاريخيًا من القدم إلى الحداثة، يبدأ القسم الأول من أعماق التاريخ، 600 ألف عام قبل الميلاد، يصف أحوال الصحراء ومن عاشوا عليها، وينتقل بشيء من السلاسة بين الروايات التاريخية التي سبرت أغوار تلك الحقب الزمنية السحيقة. تبدو دراسة الحقب الزمنية السحيقة بديلًا عمليًا وعلميًا لتاريخ الأنساب، وهو (علم) اشتهر به سكان الصحاري والبادية، غير الحضريين.
ويلفت الكاتب النظر في القسم الثاني إلى مفارقة مهمة، حيث تشابه البيئة الصحراوية الموريتانية مع تلك التي احتضنت مهد الإسلام، حيث الصحراء الواسعة، والقبائل المرتحلة، ويحكي الكاتب الطريق التي عبر بها الإسلام غربًا من شبه جزيرة العرب إلى المنطقة المغاربية، وكيف أن هذا الصعود تزامن وارتبط بوضوح مع استعادة البربر لمكانتهم وعودتهم الفعلية للسيطرة على المغرب العربي.
والقصة كما يحكيها الكاتب أن الاهتمام الإسلامي بالمجال الصحراوي جزء لا يتجزأ من اهتمامه بشمال أفريقيا، وهو الاهتمام الذي لم يُترجم عمليًا إلا بعد موجة الفتوحات في الحقبة العمرية، ذك أن عددًا من البربر (عرفوا أنفسهم بالأمازيغ) ذهبوا للخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، معبّرين عن رغبتهم الدخول في الإسلام، لكن عمر كان قد حرّم على جنوده الإبعاد عن طرابلس (الليبية)، وبالتالي لم يكن الجند ليبرحوا أرضهم غربًا إلا بعد مقتل الخليفة الثاني، عمر.
ويحكي الكتاب في قسمه الثالث عن دولة المرابطين، وأهم رموزها، يوسف بن تاشفين، وفي القسمين التاليين، تطرق الكتاب إلى عرب بني هلال وبني حسان، الذين غيروا وجه المغرب العربي إلى الأبد، والهلاليون هؤلاء هم عربٌ من اليمن، انحدروا من قبائل مذحج القحطانية، وإن كان سيتم تحريف نسبهم مستقبلًا ضمن عملية صناعة الأنساب التي شاعت في تلك الفترة، وقد خرجوا في أعدادٍ كبيرة بإغواء من الفاطميين، وكما يقول ابن خلدون بحق الأعراب أنهم «كالجراد المنتشر، لا يمرون على شيء إلا أتوا عليه» فإنهم سطروا ملاحم قاسية على طول رحلتهم غربًا، وخربوا مدنًا كثيرة لدى دخولهم إياها.
في القسمين السادس والسابع، يأخذ الكاتب على عاتقه مهمة رسم الصورة التي عليها تكونت بوادر الدولة المعروفة حاليًا في موريتانيا، والتي على بساطتها (تخلفها) تمثل تتويجًا لمراحل متتابعة من التدافع والتصارع.
ومن أهم ما يميز هذه الدراسة، وهي ميزة أصيلة للدولة الموريتانية قبل أن تكون للبحث، أن التاريخ الموريتاني غني بالتفاصيل التي ترسم ملامح عامة ومفصلة للتاريخ المغاربي أجمع، فالصحراء الموريتانية لا تنفك تشبه الجزائرية والمغربية، وكثيرًا ما وحد المصير هذه الدول المتجاورة.