الأدب ما هو إلا مرآة للأمم وتأريخ لحضاراتها وسنوات انكساراتها وهزائمها، تاريخ موازٍ يكتب بيد شعرائها وروائيها لا ليخبرونا بما حدث وكيف حدث، ولكن ليخبرونا كيف كان أثر ما حدث على البشر أجسادًا وارواحًا، كيف أحيت الحرب أناسًا وكيف مزقت آخرين.

تأتي رواية سرب طيور بيضاء للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1968، والتي كتبت بعد الحرب العالمية الثانية عام 1949، أي بعد انتهاء الحرب وهزيمة اليابان بأربع سنوات، لتمنحنا بعض الجواب.

الروائي كناقد اجتماعي

بعد فوزه بجائزة نوبل عرفته الأوساط الأدبية حول العالم وتعرفت عليه عن قرب بعد ترجمة أعماله إلى لغات عدة، فحققت انتشارًا واسعًا بين القراء في الغرب ليجد فرصته بعد ترجمة الأعمال اليابانية إلى الإنجليزية، ما ساهم في عالمية أدب بلاده وحتى اليوم.

إذا أخذنا الروائي باعتباره ناقدًا اجتماعيًّا وربما إن كان موهوبًا لكان مؤرخًا اجتماعيًّا، فقد نفهم أن من يقرأ أدب كاواباتا من بين علماء الاجتماع يمكن أن يفهم كيف تغير المجتمع من التقليدي إلى الحداثي، فالحرب لم تكن في ساحات القتال فقط، وإنما في النفوس والطبائع، وبين الماضي والحاضر بين الرغبة والرفض، بل بين كل شخوصه وذواتها.

يرجع إلى ياسوناري كاواباتا الفضل في خلق أساليب جديدة مهدت للأدب الياباني الحديث واحتفت بالجمال والطبيعة والحياة واللغة والتقاليد اليابانية التي لم تهزمها الحداثة والحرب التي دمرت اليابان عام 1945.

ويبدو أن كاواباتا كان مثل رجل الدعوة يدعو إلى التمسك بالأعراف والتقاليد، وبكل ما هو قديم، ويسعى إلى الحفاظ على عالم التقاليد في رواياته، قبل أن ينزاح هذا العالم نحو النسيان، من دون أن يغفل فلسفة الرمز وجمال الحكي عن المخفي.

يغزل كاواباتا نصه في عذوبة تنسيك رؤية العالم الضيقة للحب وكأنه الشعر، ليرسم محنة شخصياته، لنفكر كيف تختار ومن أجل من تضحي، تبدأ الرواية في حفل اجتماعي تقيمه أستاذة فن الشاي (الآنسة شيكاكو) بإحدى مقصورات حديقة معبد انغاكوجي، تحيطنا أجواء الكلاسيكية اليابانية وسط عدد كبير من الفتيات اللاتي يرتدين الكيمونو بألوانه الزاهية الحريرية ونقوشه التقليدية ويطل علينا بطل حائر (كيكوجي) الذي ينتمي لأسرة يابانية ثرية، تملك إرثًا يمثل تقاليد وعراقة اليابان، يرث (كيكوجي) اسم عائلة ممتدة وبيتًا عريقًا تقليديًّا وخزفيات أصلية يمتد عمرها لقرون، وطقوس عريقة لفن الشاي يحتفل بها في حفلات اجتماعية تعرفها العائلات اليابانية وتتوارثها، يصارع بطلنا أوهامه بين تمرده على التقاليد واستهانته بها، ثم تأتي رغبته في بيع منزل العائلة لتبلور هذا الرفض الخفي والسخرية من الموروث، (كيكوجي) الذي فقد أسرته يعيش وحيدًا يتخبط بين عشقه لأبيه ورفضه له، الأب الذي كان من طراز تقليدي محافظ، عاش حياة ظاهرها الانضباط لكن علاقاته بعشيقاته لم تخفَ على زوجته وابنه، وكان الأمر يمر يسيرًا حتى وقع في حب إحداهن حبًّا عظيمًا تملكه حتى الموت، أحب (السيدة أوتا) أرملة صديقه الذي شاركه في حياته طقوس ممارسة فن الشاي، ثم تدخل لإنقاذ أرملته بعد رحيله وتسوية أوضاعها المالية حتى ذاع أمر حبهما وتهددت سمعة العائلة بلسان (الآنسة شيكاكو) الحاقد الناهش اللحوح التي لا تغفل عن مصدر نفع أو كسب، أما تلك العشيقة السرية (السيدة أوتا) والتي كانت إحدى حاضرات الحفل مع ابنتها، فما كانت تستحق منه الكراهية أبدًا بل العطف والشفقة والصفح، كطفل تائه وجد كيكوجي السيدة أوتا، أرادت مشاركته وحدتها فعشقته محل أباه وعشق ضعفها وانكسارها.

الأحباء ولو ماتوا لا يرحلون

تنتهي الرواية في مشهد حزين يصور لنا كاواباتا (فوميكو) الجميلة الشابة وقد أعدت الشاي وفق الطقوس اليابانية تكسر عمدًا الكوب الخزفي الثمين، كوب والدتها لتتخلص من إرثها الملوث، في محاولة منها لأن تسقط من ذاكرتها كل الخطايا التي تعذبها، والتي قد يرتكبها أناس في لحظات لا تساوي شيئًا في عمر الأكواب المديد الذي يمتد لثلاثة او أربعة قرون، أما (كيكوجي) فيحاول جمع البقايا المتناثرة متحسرًا لكنه يفقد منها جزءًا ضئيلًا لا يهتدي إليه، فيطمر باقي الأجزاء في الحديقة ليدفن معها دنسًا لم يستطع التخلص منه ولم ينجِه منه إلا طهارة فوميكو، ثم يعدو (كيوجي) ليفتش عن حبيبته لكنها تغيب عنه كنجمة خلف الحجب للأبد.

في رمزية يمنحنا كاواباتا مقارنة واضحة لكل ما يؤرقه، كانت البقعة البنفسجية المشعرة في ثدي (الآنسة شيكاكو) دليل كيكوجي الذي رآه منذ طفولته على تلوث كل ما يمت لعالم الأقنعة والزيف، وكان جسد (السيدة اوتا) الرهيف الذي يضج أنوثة ودفئًا مسكرًا دليل الحب والرغبة، ثم أتت (فوميكو) رمزًا للصفاء والطهارة التي لا يتسع العالم لها، فوميكو التي تموت البراءة معها.

«الخطيئة أم الحب أيهما كان السبب في موت كل من أحب؟» كان هو السؤال الذي يعذب كيكوجي.

يأخذنا كاواباتا في اختياره لنهايات أبطاله نحو خياراته الأخلاقية بين الثواب والعقاب ويحرمنا رحابة «لا خطأ بلا مغفرة». نتأرجح بين أوتا التي دفعها الحب الآثم للانتحار تخلصًا من العار وإنقاذًا لسمعة ابنتها الوحيدة، وفوميكو التي أحبها كيكوجي حبًّا صادقًا لم يكفِ لإنقاذها بعد أن باتت تحمل ذات اللعنة التي تسللت إليها، كانت كما وصفها كأوراق الشاي التي صبغت الخزف الأصيل رويدًا وعلى مهل حتى أصبحت بقعة معيبة لا تزول.

مت فسؤالك يبقى

نعرف أن لا ضياع أعظم من ضياع الأوطان، من الأدباء من يمزج الوطن بالحبيبة ومنهم من يرى فيها الأم، الأم التي تغيب سعادتها والحبيبة المغلوبة التي تكسر الفؤاد حزنًا بحزنها. خاتمة حزينة لرواية لها عدة مستويات من التلقي فقد نقرؤها على أنها قصة حب وشعور بالذنب وصراع بين الماضي والحاضر، وقد نسقطها على الفترة الزمنية التي كتبت فيها ونعيد قراءتها برؤية مختلفة كرواية سياسية رمزية بامتياز.

الأدب الياباني انبثق من وسط رماد الحرب، فخلال فترة الحرب لم يكن هناك من الشعراء الذين لم يتأثروا بالنشاطات العسكرية القومية المتطرفة إلا القليل جدًّا، فقد جند جميع الشعراء تقريبًا ليكتبوا قصائد تشجع على الحرب، وشاركوا تلقائيًّا أكثر من أن يكون إجباريًّا في هذا النوع من الجهد الأدبي، ومن اللافت أن ياسوناري كواباتا الذي عد من أبرز الكتاب الكلاسيكيين في اليابان وأول أديب يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1968 قد رفض في شبابه المشاركة في التعبئة العسكرية التي رافقت الحرب العالمية الثانية، ومع موت أفراد عائلته جميعهم وهو في سن مبكرة ربما عانى الوحدة ومشاعر الفقد، لكنه حين يكتب عن الفقد تشعر أنه قد فقد عزيزًا اليوم وليس بالأمس.

كاواباتا قال بعد انتهاء الحرب إنه لن يستطيع أن يكتب إلا المراثي، مات في السبعين من عمره منتحرًا، مخلفًا إرثًا كبيرًا من الكتابة الرمزية التي تتوارى الهزيمة اليابانية في الحرب العالمية الثانية خلف أحداثها.